الشبان الجانحين في إسبانيا إلى الكابوس الأمريكي
يضع هذا التقرير بين يديّ القارئ العربي أحدث الإصدارات العالمية، وهو تقرير جديد من نوعه في فكرته ومحتواه، يُعنى بتقديم وجبة دسمة للقارئ، قوامها أحدث وأهم المطبوعات الصادرة مؤخرا باللغات الثلاث الأكثر إنتاجا للكتب في العالم، الإنجليزية والفرنسية والألمانية:
لأن الرواية هي “سيدة الأنواع الأدبية” في عصرنا الراهن بلا منازع، حيث يعيش العالم منذ عقود “عصر الرواية” حسب نقاد الأدب، نطالع خلال السطور التالية بعضا من أفضل الروايات التي يقرأها العالم الآن.
ووفقا وفقا لمحرري “أمازون”، موقع التجارة الإلكترونية الأول في العالم الآن، فإن الكتب الأكثر مبيعا هذه الأيام هي روايات “حبيبي دائما، حسناتي وسيئاتي، الخميرة، حرائق صغيرة في كل مكان، البيت الذهبي، وألعاب الحارس”. وجميعها صادرة خلال الأشهر الماضية عن دور نشر كبرى في أوروبا والولايات المتحدة.
أما الروايات التي يتطرق إليها هذه التقرير، فهي هي أعمال يمتد طيفها الواسع من أقاصي الولايات المتحدة، إلى أحراش “غويانا” الفرنسية، مرورا بما حدث من مآسٍ إنسانية في إسبانيا بعد سقوط الجنرال “فرانكو”، وصولا إلى مدينة برلين في ألمانيا.. وروايات أخرى.
منزل الأسرار الغامضة
تحكي رواية “اثنا عشر ميلا عموديا” الصادرة في سبتمبر 2017، وهي آخر أعمال الكاتبة الأمريكية المعروفة إليانور هندرسون، عن بيت حافل بالأسرار الغامضة في مقاطعة “كوتن” بولاية جورجيا. وتدور أحداث الرواية عام 1930، حيث يعيش في هذا المنزل الغريب صبيان, أحدهما ذو بشرة بيضاء، والآخر أسمر يشبه تماما الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية، رغم أن والدتهما “إلما جيسوب” بيضاء كالثلج، فهي ابنه مزارع من أصول بريطانية.
أما السر وراء ذلك، فهو أن عامل المزرعة الأسود “جيمس جاكسون” اتُهم باغتصابها، وتم إعدامه على الفور بدون محاكمة، وسُحب جثمانه لمسافة 12 ميلا إلى المدينة القريبة لتخويف السود المقيمين بها. ولكن الأم لم تتخلص – لسببٍ ما- من حملها غير الشرعي الذي حدث جرّاء الاغتصاب. وفي أعقاب ذلك، يُضطر سكان البلدة إلى التواطؤ مع سلسلة من الأحداث التي تركت رجلا ميتا وأسرة شبه منهارة.
وعلى الرغم من أعين المتطفلين والهمسات الغريبة من سكان المدينة، إلا أن “إلما” شرعت في تربية طفليها تربية جيدة، ولم تفرق بين طفلها من زوجها الراحل والآخر الأسود الذي كان ثمرة حادث الاغتصاب، ويعيش الجميع تحت سقف منزل والدها المتقلب” جوك”، وبمساعدة “نان”، الخادمة السوداء التي تعتبر بمثابة أخت للأم.
ولكن سرعان ما تصبح الروابط بين أبطال الرواية أكثر تعقيدا مما تصوروا هم أنفسهم في بداية الأمر. ومع اكتشاف عدد من الحقائق المذهلة، وأولها أن والد الطفل الأسود أُعدم ظلما، وأنه لم يرتكب أي جريمة بل عاشرته الأرملة برضاها، تبدأ شبكة الأكاذيب في الانهيار، وتزعزع استقرار الأسرة ويصبح عالمها محفوفا بالمخاطر، ويُجبر الجميع على كشف الحقيقة المؤلمة.
تقدم “هندرسون” رواية تجمع بين حميمية الدراما الأسرية، والملحمة الجنوبية التي خاضها الزنوج من العبيد السابقين في صراعهم المرير ضد العنصرية. وتعالج الرواية موضوعات متعددة، كالعنف العنصري، والانقسام الاجتماعي، والأزمة المالية الشهيرة في حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي. وهي عمل أدبي حافل بالإسقاطات الخفية على ما يجري في الولايات المتحدة حاليا من اضطهاد سافر للسود، خصوصا في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب.
نيويورك التي لا يعرفها أحد
أمّا “التل الذهبي.. رواية عن نيويورك القديمة”، وهي الرواية الأولى للكاتب فرانسيس سبوفورد، فهي عمل أدبي مختلف تماما، وتحكي عن مغامرات شاب كان يعيش في منطقة “مانهاتن” إبّان منتصف القرن الثامن عشر، وتحديدا قبل 30 عاما من الثورة الأمريكية. وكانت نيويورك في ذلك الوقت مجرد بلدة بائسة صغيرة على طرف جزيرة “مانهاتن”، مقر أثرياء أمريكا الآن.
وفي إحدى الليالي الممطرة من نوفمبر عام 1746، تبدأ أحداث الرواية التي تحكي عن شاب وسيم غريب يسير قُبالة أحد القوارب، حتى يصل إلى باب مكتب تحصيل النقود في شارع “جولدن”، وفي جيبه أمر تحصيل بمبلغ ألف دولار، وهو مبلغ ضخم في تلك الفترة. ولا يريد الشاب الغريب أن يفسر لماذا أتى ومن أين، أو ماذا يعتزم القيام به في هذا المكان التي يتطلب الكثير من المال. وهل يثق في تجار نيويورك الجشعين؟
ويشتغل بطل الرواية الشاب بالتجارة زمنا، ليكتشف أخطر أسرار نيويورك شيئا فشيئا مع تطور الأحداث، حيث يتورط البطل في أعمال غير قانونية دون أن يدري أو يرغب في ذلك، ليواجه السجن في نهاية المطاف كضحية لمجتمع نفعي “براغماتي” لا يعرف الرحمة.
الرواية غنية في لغتها، وحادة في إدراكها التاريخي، وممتلئة بالتقلبات والمنعطفات. ويرسم فيها المؤلف صورة مثيرة لا تُقاوم لمدينة نيويورك القديمة، التي لا يعرفها أحد.
“كيمياء” الحب
ومازلنا في الولايات المتحدة، البلد الأكثر إنتاجا للروايات في العالم، ومع رواية أخرى بعنوان “كيمياء” للكاتبة ويك وانج اختيرت كأفضل رواية لعام 2017 من قبل مجلة “إنترتينمنت ويكلي”، وحازت على إعجاب الملايين من القراء.
تحكي الرواية عن باحثة كيمياء شابة فُرض عليها إعادة التفكير في حياتها، عندما خرجت مسيرتها الأكاديمية عن مسارها، بعد أن قضت 3 سنوات شاقة في الدراسات العليا بجامعة “بوسطن”.
راوي القصة مجهول، ولكنه يحكيها بسخرية وبأسلوب رشيق لا يُضاهى، حيث يصور الراوي المأزق الذي وقعت فيه البطلة الشابة بعد أن تعطلت مسيرتها العلمية، وكيف كان هناك “مخرج غير علمي” يلوح في الأفق، وهو اقتراح الزواج الذي عرضه عليها زميلها الباحث، الذي يحمل لقب “دكتور” والذي كان نجاحه الأكاديمي خاليا من أي عقبات، لكنها لا تقبل الزواج منه قبل أن تحقق النجاح في دراستها، مثلما فعل هو، أي أنه لا زواج “بدون دكتوراه”!
وتستمر أحداث الرواية حتى تتنصر المشاعر على “المعامل”، والحب على الكيمياء، فتتزوج البطلة من زميلها في نهاية المطاف بعد أن تدرك – ببساطة- أن الحب لا ينتظر أحدا.
الخارجون عن القانون
أما “الخارجون عن القانون” للكاتبيّن الروائيين خافيير سيركاس وآن ماكلين، فهي رواية قوية مليئة بالحب والكراهية، الولاء والخيانة، تدور أحداثها في إسبانيا أواخر السبعينيات من القرن الماضي.
في هذا التوقيت، كانت إسبانيا مشتتة فيما بين موت الجنرال الديكتاتور “فرانكو” وبين فكرة إحياء الديمقراطية من جديد بعد موته، في ظل تدهور اقتصادي واجتماعي غير مسبوق في البلاد، وكان الناس ينتقلون من الجنوب الفقير إلى مدن الشمال الغنية نوعا ما، بحثا عن حياة أفضل، ولكن بلا جدوى.
وداخل هذا العالم البائس الذي يمنح الناس فرصا محدودة للغاية، نشأ جيل من الشباب الجانحين الذين سيكون تمردهم على هذه الأوضاع المتردية عنيفا، حيث ينضمون إلى بعضهم البعض في عصابات صغيرة، تقض مضاجع الأمن في إسبانيا برمتها,
ومن هؤلاء أجناسيو كانياس، البالغ من العمر آنذاك 20 عاما وقتها، والذي يمارس مع صديقيه “تيري” و”زاركو” أعمال السلب والنهب وقطع الطريق ليلا، لكي يتسنى له أن ينتظم في دراسته كطالب جامعي يدرس القانون نهارا، فيعيش بذلك حياة مزدوجة.
وبعد مرور 30 عاما، يصبح “كانياس” محامي جنايات شهيرا وناجحا في طول البلاد وعرضها، ويحاول جاهدا أن يضع شبابه الصاخب الملئ بالعنف والمخدرات وراء ظهره، باعتبارها نقطة سوداء في حياته.
وهنا يظهر “تيرى” من العدم في مكتبه، ويطلب منه أن يدافع عن صديقهما المشترك “زاركو” الذي كان ما يزال سجينا كل هذا الوقت، ولم يكن أمام البطل إلا أن يقبل. وتتطور أحداث الرواية إلى نهاية غير متوقعة.
الشمس النائمة
ومن قاع إسبانيا إلى صفوة ألمانيا، على جناح رواية “الشمس النائمة” للكاتب الألماني توماس ليهر، وهي الرواية المرشحة للفوز بجائزة اتحاد الكتاب الألمان للقائمة الطويلة والقصيرة أيضاًـ لعام 2017.
وفي الرواية، يسافر الأستاذ الجامعي البروفيسور رودولف زكرياس إلى برلين، حيث سيحضر افتتاح معرض طالبة سابقة في صفه الدراسي تُدعى ميلينا سونتاغ في إحدى ليالي صيف 2011، حيث تدور أحداث هذه الرواية الشائقة.
وبقوته اللغوية المعهودة، يسرد الروائي توماس ليهر عددا من الكوارث التاريخية في بلاده، وعلى رأسها الحرب العالمية الثانية، وتورط الناس في تلك الحرب الدموية، ثم يقودنا إلى أنقاض ساحات القتال، ومن ثم يأخذنا إلى برلين اليوم. ويبدع “ليهر” خلال هذه العمل الروائي المهم في تصوير “القرن الألماني” خلال 100 عام، حيث تتداخل التراجيديا مع الكوميديا السوداء في عمل شخصي جداً وحميمي للغاية.
سكر أسود
وإلى فرنسا هذه المرة، مع رواية الكاتب جان- باتيست أندريه “سكر أسود”. وتدور أحداث الرواية عن أسرة “أوتيرو” في بحثها عن “كنز مفقود” من ممتلكات الكابتن هنري مورغان الذي غرقت سفينته منذ 300 عام على ساحل “غويانا”، وهي مستعمرة فرنسية قديمة تقع على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، ولها حدود مع البرازيل وسورينام.
وتصوّر الرواية كيف ازدهرت ممتلكات الأسرة بسبب زراعات القصب، إلاّ أن أفرادها يسعون رغم ذلك للحصول على هذا الكنز في تلك الأرض الاستوائية الموحشة التي تستهلك الطموحات والرغبات، حيث تتصاعد أحداث الرواية بشكل غريب ومشوق، حتى النهاية.
وتتميز الرواية المكتوبة بحساسية واحترافية أدبية لا حد لها، ببذخ شديد في النثر، وبواقعية سحرية مستوحاة من قصص أمريكا اللاتينية، وهي إحدى الروايات المرشحة لجائزة “فيمنا” لعام 2017.
“دعني أكون صريحا معك”
وأخيرا، نعود إلى الولايات المتحدة مجددا، مع رواية “دعني أكون صريحا معك” للكاتب ريتشارد فورد، الذي يصوّر لنا أراضيه الأدبية المقدسة، حسب تعبير النقاد، باعتباره سيد الأدب الأمريكي المعاصر في أعماله الروائية الجميلة، ومنها “عالم فرانك باسكومب” و”الكاتب الرياضى” التي حصلت على جائزة “بوليتزر”، و”يوم الاستقلال” الفائرة بجائزة “وليم فوكنر”، وأيضا روايته الجميلة “وضع الأرض”.
وتصوّر روايات “فورد” التي حازت شهرة عالمية، حياة جيل كامل من الشباب الأمريكيين، الذين تقدم بهم العمر حتى صاروا متقاعدين، وذلك من خلال شخصية “باسكومب” المتقلب، والمضحك، والأبله، والحكيم، حيث نرى تطلعاته وأحزانه وأشواقه وانجازاته وإخفاقاته، في تصوير حي للحياة في الولايات المتحدة منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن.
إنها روايات “الحياة الأمريكية” التي لا تصورها أفلام هوليوود، ولا تعكسها نشرات الأخبار، رغم أنها الحياة الحقيقة لأناس يكافحون من أجل البقاء في عالم رأسمالي لا يعرف الرحمة أو الشفقة، أطلق عليه المخدوعون “الحلم الأمريكي” مع أنه لا يعدو – كما تكشف هذه الروايات- كونه “كابوسا”، يعكس حياة ممسوخة، خالية من التعاطف والمشاركة والمودة الحقيقية بين البشر.
https://old.booksplatform.net/ar/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%84%D9%88-%D8%A3%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86-%D8%A3%D8%BA%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A/