الوصف
شرود ما بعد الداهرانية
“إذا لم يكن الله موجودًا، فكل شئ مباح”.. عبارة شهيرة للأديب الروسي فيودور دوستويفسكي تلخّص رؤية بعض الفلاسفة والمفكرين المعاصرين من أن مظاهر الانحطاط الأخلاقي في عالمنا، والتي وصلت إلى ذُروتها في وقتنا الراهن، لا تنفصل عن الأفكار التي رسّختها “الحداثة الغربية” على مر السنين منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى الآن، بل إن تلك المظاهر هي – في رأيهم- نتيجة طبيعية لهذه الأفكار التي كانت بمثابة “قطيعة” أحدثها الوعي مع مألوف ما اعتاد عليه.
الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن يتصدر قائمة الذين نقدوا الأفكار الحداثية الغربية، من خلال مشروع فلسفي يسعى إلى بناء نسق أخلاقي يواري ما أسماه “سوءة العالم الكبرى” التي جاءت نتيجة للأخلاق المقلوبة التي اخترعها المفكرون الحداثيون.
“شرود ما بعد الدهرانية – النقد الائتماني للخروج من الأخلاق” هو عنوان أحدث كتب عبد الرحمن الذي يضيف من خلاله لبنة أخرى إلى حائطه الفكري الذي أقامه لصد الأفكار التي أرادت تمزيق الثوابت والروابط، وغزو العقل الكوني “الكوزموبوليتاني” بمعتقدات متناقضة. مستكملا ما بدأه في كتابه السابق “بؤس الدهرانية” الذي انتقد فيه “المروق” أو خروج الأخلاق من الدين نتيجة إنكار الدهرانيين لآمرية الإله، ليصل إلى ما أسماه “الشرود” أو ما بعد الدهرانية، وهو صورة أخرى من “الدنيانية” تجاوزت رتبة المروق وتعني الخروج من الأخلاق بالكلية.
وجاء الكتاب ثريًا في محتواه، دقيقا في مصطلحاته، معتمدًا على التحليل المنطقي ومستندًا إلى النصوص الأصلية لتلك الأطروحات محل النقد.
الإنسان الشارد
قسم طه عبد الرحمن كتابه إلى ثلاثة أبواب موزعة على تسعة فصول اهتم فيها بتشريح أفكار ما بعد الدهرانيين، ووجه سهام نقده “الائتماني” إلى فئتين تمثلان مرحلة ما بعد الدهرانية، هما فئتا الفلاسفة والتحليليين النفسيين، مثبتا تناقض أفكارهم وتهافت آرائهم، من خلال رصد المغالطات التي بنى عليها كل منهم نظريته، وبيّن كيف كانت تلك الأفكار “بذورًا لم تُثمر سوى كل ما هو شر”.
بدأ عبد الرحمن كتابه بالفصل الأول الذي تناول فيه أفكار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، مؤكدًا أنه بنى جوهر فكره الأخلاقي على إنكار معتقد “توارث الخطيئة الأصلية” الذي ترسخ في المسيحية التاريخية عبر الزمن، مفندًا فكرة “الإنسان الفائق” أو “السوبرمان” التي اخترعها بديلاً عن الإله إلا أن هذا “الفائق” هو إنسان لم يخرج بعد إلى حيز الوجود.
إذن متى يظهر هذا “الإنسان السوبرمان” الذي بشّر به نيتشه؟ وكيف؟..
رأى الفيلسوف الألماني أن الطريق الوحيد لإيجاد “الإنسان الفائق” هو تخطي الإنسان لذاته، وأنه سيظهر عندما تُهدم كل القيم الاخلاقية في محيطه، خاصة القيم المسيحية التي يرفضها نيتشه ويرى أن “هدمها هو الخطوة الأولى لظهور الإنسان الفائق وجانبه الإلهي الذي يتحقق عندما ينزل إلى مرتبة الحيوان”.
ومن هنا رأى عبد الرحمن أن الشروط التي وضعها نيتشه لظهور “الإنسان الفائق” لن تنتج إلا إنسانا “شاردا” منكرا للشاهدية الإلهية لأنه تخطى الحدود، وهو أيضًا إنسان- حيوان وليس “سوبرمان” محب للقسوة يتحرك حسب غرائزه ولا يختلف عن نموذج “الإنسان السيد” الذي نادى به فيلسوف آخر هو جورج باتاي الذي لن ينتج إلا إنسانًا عاتيًا لا يقبل الحدود وعاريًا لا يطيق لباسًا.
إن سيطرة النزعة الحيوانية المتجردة من الأخلاق على تلك الأفكار ساهمت إلى حد كبير – كما يقول عبد الرحمن- في إفساد العالم، خاصة تلك الأفكار التي طرحها الكاتب الفرنسي “المركيز دي ساد” وهو علم على “السادية” في علم النفس أي الرغبة في إيذاء الآخرين، وابتكر “دي ساد” بدوره نموذجا آخر هو “الإنسان المارد”.
هذا النسق الأخلاقي “السادي”، بحسب المؤلف، مهد لنشوء أنظمة حكم شمولية أتت من الحكم الاستبدادي الكلي ومن الشر الجذري ما فجر في العالم كله حروبًا مدمرة. ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك عندما يؤكد أن المرود الذي اخترعه “دي ساد” لم يعد يتعلق بالآحاد من الناس بل اتسع وامتد إلى الحياة العامة.
ودلل عبد الرحمن على ذلك بما يحدث في بعض المجتمعات المتقدمة صناعيًا وسياسيا حيث صدرت القوانين والتشريعات والبنود الدستورية التي تكفل لـ”الماردين” حقوقًا “سادية” صريحة بدءًا من خلط مياه البشر، والعبث بالأرحام، وانتهاء بقتل المحتضرين والمرضى الميؤوس منهم مرورًا بزواج المثليين جنسيا.
شاهدية الإله
وعلى الرغم من كل تلك الشرور التي أنتجها الفكر الفلسفي الغربي ما بعد الدهراني، إلا أنها – كما يقول عبد الرحمن – تبقى أخلاقًا مجردة موغلة في الوهم ولا حظ لها في الخروج إلى الوجود، لكن الخطر في تلك الأخلاق التي أنشأها “التحليليون النفسيون” ما بعد الدهرانيين، أنهم قصدوا بها أن تكون مؤسسة علميًا وتحليليًا بحيث تعكس المتطلبات الحقيقية للحياة النفسية للإنسان.
يوضح طه عبد الرحمن في الفصل الثاني من الكتاب كيف أنكر التحليليون النفسيون من أتباع فرويد وتلامذته شاهدية الإله وربطوا بينه وبين الأب ليجعلوا من علاقة مفهوم الإله بمفهوم الأب أصلاً من أصول التحليل النفسي.
هذه العلاقة اتخذت مظهرين، أحدهما يتقدم فيه الأب على الإله، وهو المظهر الذي بنى عليه فرويد إنكاره لشاهدية الذات الإلهية، والمظهر الثاني يتقدم فيه الإله على الأب وهو الذي بنى عليه الفرنسي جاك لاكان إنكاره لشاهدية اسم الذات الالهية.
نظرية فرويد في تفريع الإله من الأب تنزع عن الإله شاهديته، في حين أن شاهدية الإله تقتضي بأنه “لا شاهدية فوق شاهديته”. ولما أضحى الإله فرعًا من الأب لزم أن تكون شاهديته فرعًا من شاهدية الأب والإله الذي تكون شاهديته أدنى أو ينازعه فيها غيره لا يستحق مطلقًا أن ينزل رتبة الإلوهية.
أما الفصل الثالث فقد خصصه فيلسوفنا لتفنيد أفكار الفرنسي لاكان، موضحًا أنه يختلف عن فرويد حيث لم ينظر في الألوهية من جهة الذات الإلهية، وإنما نظر فيها من جهة الاسم الذي يختص به الإله. ومن هنا اختلف إنكار لاكان للشاهدية الإلهية عن إنكار سلفه النمساوي، فهو ليس إنكارا لاتصاف الذات الإلهية بالشاهدية، وإنما هو إنكار لاتصاف اسم الإله بها. ومرجع ذلك هو النظرية اللغوية التي بنى عليها تحليلاته.
ينتقل طه عبد الرحمن بعد ذلك إلى الباب الثاني الذي رصد فيه التحول من أخلاقيات الشهوة إلى تجليات المتعة فتصدى بالنقد لهذه الأخلاقيات في الفصل الرابع مستعرضًا عناصر المتعة عند فرويد في الفصل الخامس وهي العناصر التي اعتمدها “لاكان” في بناء نظريته بينما خصص الفصل السادس لبيان خواص الاستمتاع عند هذا الأخير وأنواعه.
الباب الثالث والأخير جاء ثريًا في محتواه حيث انتقد في الفصل السابع نظرية “لاكان” متصديا لأفكاره بينما يطرح في الفصلين الثامن والتاسع نظريته في المتعة رافضًا تلك النزعة التجزيئية للعقل، الذي هو في تصوره “فاعلية الإنسان ككل وليس كيانًا مستقلاً بذاته”، وهو في ذلك كان متأثرًا بتجربته الروحية التي منحته مفهومًا واضحًا للعقل وقيمته، فجاء محتوى مشروعه معتمدًا على التحليل المنطقي وصولاً إلى هذه النتائج، رغم مجافاة الأفكار الحداثية للفكر الإسلامي على أساس قلة التنظير للمبدأ الأخلاقي.
مشروع جديد
يتلمس القارئ بين صفحات الكتاب ملامح تشكل مشروع جديد يؤسس لمفهوم العمل الأخلاقي على المبادئ والقيم الإسلامية، وعلى قراءة معاصرة للقرآن، باعتبار أن الدين الإسلامي هو رسالة إنسانية في المقام الأول، فاعتمد على نصوص القرآن الكريم في رفضه للتفسيرات الخاطئة لقصص راسخة في المعتقد الإسلامي، خاصة قصة النبي موسى عليه السلام، وقصة قابيل وهابيل التي أوردها التحليليون بتفسيرات مختلفة لإثبات نظرياتهم وتأكيد نماذجهم في التحليل النفسي، وقد أكد بذلك أن هدفه الأسمى هو الحفاظ على الثوابت والحقائق والمعاني والرسائل الإنسانية التي جاء بها القرآن، لترسيخ الأخلاق الحميدة ونشر الخير والسلام على وجه الأرض.
من جانب آخر فند المؤلف مغالطات التناول ما بعد الدهراني لقصة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة المحظورة وقصة قابيل وهابيل، مفسرا ذلك إلى سببين يؤكدان استحالة توحد الإنسانية، وهما إتباع الشهوات وسفك الدماء، فسيظل الإنسان يأتي بهذين الفعلين الأولين ويعيدهما بغير نهاية ولو اتخذت أفعاله أشكالاً مختلفة.
إن هذين الفعلين، كما يرى عبد الرحمن، أصبحا وكأنهما قدر الإنسانية الذي لا يُدفع، لذلك فان الإنسانية ولو أنها تقلبت في أطوار مختلفة فقد ظل اتباع الشهوات وسفك الدماء ملازمين لها في كل هذه الأطوار ولا تعني ملازمة هذين الفعلين الشنيعين لأطوار الانسانية أنهما يتناوبان عليها تناوب الضدين وإنما على العكس من ذلك فهما يتلازمان فيها تلازم المثلين، فحيثما وُجد أحدهما وُجد الآخر.
ويخلص في نهاية كتابه إلى أن تجديد صلة الإنسان بالشاهد الأعلى، الله جل جلاله، هو الطريق السليم الذي سيواري سوءة الإنسان، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال لباس خُلقي جديد مُؤَسّس على اقتناع الداخل وليس بإكراهه من الخارج.
إن ما يسميها المؤلف “السوءة العظمى” التي يبدو أثرها جليا على كل واحد من سكان هذا العالم، لا يمكن تداركها إلا بعد الشفاء من الداء النفسي الذي كان سببًا فيها، والذي ثبت أنه “حب التملك”، باعتباره أصل كل الشهوات والموبقات الحادثة على الأرض.
ينتهي عبد الرحمن أخيرا، إلى أن الشفاء من داء “حب التملك” هو المقصد الذي سيسعى إلى تحقيقه فيما يستُقبل من عمله الفكري، موضحًا أن هذا الكتاب “شرود ما بعد الدهرانية” وسابقه “بؤس الدهرانية” ما هما إلا مقدمة لأصول النقد الائتماني.
شرود ما بعد الداهرانية
لمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية