الوصف
رواية.. السقا مات
هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها للأديب المصري الراحل يوسف السباعي، فقد انتهيت من قراءة روايته الشهيرة السقا مات، أما عن سبب تأخري في القراءة له فيرجع إلى معلومة لا أدري مصدرها ترسخت في عقلي منذ الصغر مفادها أن موهبة ذلك الكاتب متواضعة وأن سبب شهرته هو نفوذه وعلاقاته بضباط يوليو خلال الخمسينيات والستينيات ثم تأييده للرئيس الراحل أنور السادات في مسعاه لإقامة سلام مع إسرائيل ومكافأته على ذلك بتعيينه وزيرا للثقافة في السبعينيات.
والحق أن أمثال تلك الأحكام الخاطئة على هؤلاء الكتاب حرمتنا في سن مبكرة من الاستفادة من منتوج عقول مصرية لها قيمتها، ولولا أننا شببنا عن الطوق وبتنا قادرين على القراءة النقدية بأنفسنا ودون التأثر بما كتب وقيل عن هذا وذاك لاستمرت لدينا حالة العزوف وما يتبعها من حرمان ونقص معرفي كبير، ومثال على ذلك ما قيل أيضا عن طه حسين وسلامة موسى وغيرهما حينما راح بعض الكتاب وبخاصة الإسلاميين منهم يسفه كتاباتهم ويحذر من “ضلالاتهم” ويشيطن توجهاتهم، فأخافونا منهم ومن القراءة لهم حينما كنا في ريعان الشباب ثم سرعان ما جرفتنا دوامة الحياة فلم نلتفت إليهم حتى إذا ما بتنا اليوم قادرين على تكوين رأي وبلورة رؤية علمنا كم ظُلم هؤلاء المبدعون وكم كانت أحكام الإسلاميين عليهم وتحذير النشئ منهم مبالغ فيها.
نعود إلى يوسف السباعي وروايته السقا مات.. فالقارئ لهذا العمل الأدبي الجميل يخرج بقناعة مفادها أن الرجل ذا موهبة من طراز فريد، وأنه يمتلك أدوات الكتابة من خيال ثر وأسلوب مميز وأفكار لا ينقصها العمق، وفي السقا مات يضاف إلى ذلك دراسته للمكان الذي تدور فيه الأحداث “درب السماكين، ودرب عجور” ولا يشك القارئ أن الكاتب قد زار هذا المكان أكثر من مرة وتفحص الشوارع المفضية إليه وتأمل تكوينه المعماري وتقسيمه الجغرافي حتى استطاع أن يصفه بدقة متناهية مازجا تأثير المكان على ساكنيه وتأثير السكان في المكان، فقاطنوا درب السماكين شخصيات تنتمي للطبقة الفقيرة والمعدمة، وهي في أبعادها النفسية صورة مصغرة للمجتمع المصري، فيها المتمسك بدينه وأخلاقه وتقاليد أولاد البلد الأصل من شهامة ومروءة و”حنية وجدعنه”، وفيها أيضا النذالة والخسة والنصب والاحتيال وغير ذلك مما لا يخلو منه مجتمع بشري.
وقد أجاد السباعي في رسم الأبعاد النفسية لشخصياته كما قلت وبخاصة أبطال الرواية: المعلم شوشه السقا وابنه سيد وهما يمثلان رمز الخير والعطاء، وكذلك أجاد في رسم معالم شخصية المعلمة زمزم صاحبة المسمط ومساعدها جاد وهما رمز الشر والجبروت.
والرواية تحكي قصة حياة هذا السقا الأرمل وابنه ذا التسعة أعوام وجدته الكفيفة أم آمنة، وهي حياة أفراد يكافحون من أجل لقمة العيش الحلال. وقد لا يلتفت أحد أن لدى هؤلاء البسطاء ما يمكن أن يبنى عليه قصة أو تنسج حوله رواية.
وفي رحلة حياتهما العادية التي أجاد الكاتب في رسم تفاصيلها منذ الاستيقاظ حتى النوم يطرح الكاتب على ألسنة أبطاله ومن خلال أحداث العمل الأدبي بعض التساؤلات الفلسفية حول وجود الشر في الحياة وحكمة الخالق من وراء سماحه به وكيف يمكن للعقل البشري أن يتفهمه، كما يطرح فكرة الموت وفلسفته وكيف يمكن أيضا لنا أن يستوعبه ونتكيف معه.. وغير ذلك من أفكار كما قلت لا تخلو من عمق وستبقى موضع تساؤل الإنسان منذ بدء الخليقة حتى منتهاها.
وتدور الرواية في العشرينيات من القرن الماضي في وقت لم تكن قد عمت فيه توصيلات المياه الحواري والأزقة وكان الناس يستعملون في شربهم المياه التي يحملها إليهم السقا في قربته مالئا إياها من حنفية عمومية تقبع عند رأس الحارة تابعة لشركة المياه.
هذا عن المكان والزمان والشخصيات والأفكار أما عن الحدوته التي تنسج كل ذلك فهي غاية في البساطة وإن كانت لا تخلو أيضا من رمزية، فهي تصور حياة سقا ماتت زوجته ويعيش مع أمه وابنه الصغير مكافحا من أجل كسب قوت يومه عازما على توريث الصنعة لابنه حتى تتواصل الأجيال، وباذلا جهدا تربويا مع ولد صغير يحاول أبوه أن يفطمه عن عالم الصبى بزجه مبكرا في محافل الرجال والولد فرح بهذا تارة ضجر به تارة أخرى فيتصرف كما يتصرف الرجال أحيانا ثم تغلبه نوازع الصبا فيميل إلى عالم الصغار واللعب أحيانا أخرى، وفي النهاية ينهدم البيت المتداعي للسقوط فوق رأس الأب المعلم شوشه السقا ويخر صريعا فيما تنجو الجدة والحفيد، ويرث الولد مهنة أبيه ويتولى مسؤلية توزيع مياه الخنفية العمومية على سكان الدرب، وتنتهي الرواية بالآية الكريمة “والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون”.
وعلى الرغم من جودة هذا العمل وأسلوب بوسف السباعي الشيق وقدرته على استعمال المفردات خاصة العامية منها والمناسبة للمستوى الثقافي والعمري للشخصيات فإن هذا النص قد لا يخلو من الهنات ولعل أهمها من وجهة نظري أن الحدوته نفسها من الصغر بحيث كان يمكن أن تغطيها قصة متوسطة الحجم وليست رواية، لأني شعرت في بعض المرات بنوع من الإسهاب والإطالة مما لا تحتاجه ضرورات البناء الدرامي، أما غير ذلك فإن رواية السقا مات من الروايات التي تستحق المكانة التي أخذتها في عالم الفن القصصي العربي وإن كاتبها الراحل يوسف السباعي – الذي اختتمت حياته بدراما لا تقل إثارة عن رواياته إذ اغتيل في قبرص عام 1978 – فإنه بلا شك من الكتاب الموهبين الذين يستحقون المكانة التي وصلوا إليها بإبداعهم وليس بمناصبهم ومواقفهم السياسية كما شنَّع عنه خصومه السياسيون.
نقلاً عن قراءات
رواية.. السقا مات
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية