الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
يرى الكاتب البولندي زيجمونت باومان أن “السيلان” هو سمة هذا العصر الذي نعيشه، ويحاول جعل هذه السمة موجودة في مختلف مجالات الثقافة والمجتمع والإنسان باعتباره بنية نفسية وفكرية، لذلك وضع سلسلة كتب ناقش فيها هذا المفهوم في عدة مجالات، منها “الحداثة السائلة” و”الحياة السائلة” و”الحب السائل” إضافة إلى هذا الكتاب الذي نحاول عرض ومناقشة أفكاره في هذا المقال، وعنوانه: “الأزمنة السائلة”.
لإشراك القارئ أكثر في ما نحن بصدده نحتاج منهجيا إلى تبيان ما يعنيه ويستدعيه مفهوم “السيلان” لدى باومان باعتباره مصطلحا جديدا في حقل الدراسات الاجتماعية. يرادف “السيلان” “الميوعة” لدى باومان، ذلك بأنه يجعله في مقابل “الصلابة”، ولعل المترجم اختار كلمة “السيلان” بدل “الميوعة” التي هي المقابل المعجمي الحرفي للصلابة في كل من اللغتين العربية والانجليزية (Liquid-مائع)؛ لعله اختار الأول هروبا من الدلالة السلبية لـ”الميوعة” في المجال التداولي العربي، وللإيحاء بالاستمرار في التحول والنقص الذي تتضمنه كلمة (سيلان).
كان ضروريا أن نقوم بهذا الحفر المعجمي في أطراف هذا المصطلح، أما دلالته العامة فتعني –حسب ما أفهم- حالة التحول والتغير التي تطال كل البنى والأشكال في نفس وواقع إنسان اليوم، والتي جعلت العصر بلا مسلمات ولا ثوابت، وهي التي سماها باوند نفسه “حالة اللايقين”.و”عصر اللايقين”.
ولتوضيح مفهوم السيولة أكثر قام المترجم حجاج أبو جبر بمقارنة بين عصرين، عصر “الحداثة الصلبة” وعصر “الحداثة السائلة”، فبينما اتسمت الأولى (الحداثة الصلبة) بالتأكيد على مركزية الإنسان وقدرته على بسط سلطان العقل على الطبيعة الجامحة، وتسخيرها لخدمة البشرية وتقدمها، ومحاولة تجاوز فكرة الوحي وخلق الله للكون والخلود في الجنة أو النار مفسحة المجال لمراكز صلبة جديدة أهمها ثالوث العمل/الإنتاج/التراكم، وثالوث: العقل/العلم/التقدم، وثالوث: الأمة/الدولة/الأرض، ومن هنا احتاجت إلى أهل التخطيط والتنظيم والإنتاج.
فقد اتسمت الحداثة السائلة بـ”الإذابة المستمرة والتفكيك المتواصل للمراكز الصلبة لصالح اللعب الحر، فلا تحتاج الحداثة السائلة إلى “حراس” ولا إلى أهل تخطيط وتنظيم وإنتاج، بل ترحب بمن يسميهم باومان “أهل الصيد” وهم أهل السوق والاستهلاك واللذة والجنس والجسد، يبحث كل منهم عن فرائس جديدة كل يوم، لكنهم يعيشون في حالة شبه دائمة من اللايقين، وينتابهم قلق شبه مزمن من الاستبعاد من “سباق الصيد”.
وفي ضوء الحداثة السائلة تظهر ملامح أربعة للزمن السائل الذي يتحدث عنه الكتاب، تلك الملامح هي: “تفكك الروابط، وانفصال السلطة الحاكمة عن السيطرة الفعلية على مقاليد السياسة التي تحددها توازنات خارج حدود الدولة، ومحنة المعاناة الفردية بعد تشرذم الروابط الاجتماعية، والمسارات الأفقية للحياة الاجتماعية والمهنية من مرحلة إلى مرحلة من دون إحداث تراكم رأسي نتيجة هذا الوضع سريع التغير”.
يرى باومان أن هناك خمسة تحولات جوهرية متداخلة هي التي أدث إلى هذا السيلان النزيفي للحياة والزمن والإنسان، إذ هي في نظره “مستنبت اللايقين”، ذلك بأنها خلقت وضعا جديدا لطرق الحياة الفردية، بما يثير سلسلة غير معهودة من التحديات، هذه التحولات هي:
1 – انتقال الحداثة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة: حيث لم تعد المؤسسات (الاجتماعية والسياسية والثقافية إلخ) التي تضمن دوام العادات وأنماط السلوك المقبول، بما يجعلها عرفا حاكما أو عادات قادرة على الضبط العام للحياة، لم تعد قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمنا طويلا، ذلك بأنها نظرا للواقع السائل أصبحت “تتحلل وتنصهر بسرعة تفوق الزمن اللازم لتشكلها، وليس من المتوقع أن تنعم تلك الأشكال القائمة أو المرتقبة بوقت كاف يساعدها على الانتقال إلى الحالة الصلبة”، ويطرح هذا التحول أسئلة مقلقة أمام الثوابت والأسس التي تقوم عليها المجتمعات في نظر علم الاجتماع الذي أصبح ملزما بالتنحي أو مواكبة زمن اجتماعي بلا قواعد قابلة للتصنيف والملاحظة.
2 – أما التحول الثاني فهو الانفصال بين السلطة والسياسة، فقد فرضت العولمة الجديدة عليهما هذا الطلاق البات، ذلك بأن جزءً كبيرا من سلطة الدولة انتقل إلى الفضاء العولمي (خارج إطار الدولة)، بينما ظلت السياسة –بمعنى القدرة على تحديد اتجاهات الفعل وأهدافه- محلية كما كانت من قبل، أدى غياب السيطرة السياسية إلى جعل القوى المتحررة تعيش حالة عميقة من اللايقين، كما أدى غياب السلطة إلى تقويض الصلة بين المؤسسات السياسية ومبادراتها وما يعانيه المواطنون من ناحية أخرى.
3 – التحول الثالث هو الانسحاب التدريجي الدائم للدور الاجتماعي للدولة أو تقليص الضمان الاجتماعي المدعوم من الدولة ضد عجز الأفراد أو ضد المصائب، وهذا ما أدى إلى تقويض الأسس الاجتماعية للتضامن الاجتماعي، وألغى -تدريجيا- مفهوم المجتمع باعتباره رابطة كلية، ومن ثم عزز الفردية والأنانية على حساب التضحية من أجل المجموع الذي أصبح في حالة من السيلان أفقدته معناه الأساسي القائم على التضامن والروح الجماعية، ذلك بأن المعاناة الفردية من الأخطار الآتية من تقلبات الأسواق والأسعار والسلع تبعث على الانقسام ولا تعززه، بل تعلي من قيمة المواقف التنافسية لا التراحمية، ويلخص باومان هذا التحول بأن المجتمع تحول من (بنية) إلى (شبكة).
4 – ويأتي التحول الرابع متمثلا في انهيار التفكير والتخطيط والفعل طويل الأجل، مما أدى إلى تحول التاريخ السياسي وأنماط الحياة الفردية إلى سلسلة من مشروعات وحلقات قصيرة الأجل، فـ”الحياة المفككة للغاية تدفع إلى مسارات أفقية لا مسارات رأسية، وهي مسارات غير مترابطة، فنجاح الماضي لا يزيد بالضرورة احتمال انتصارات المستقبل، ناهيك عن ضمانها”، وذلك لغياب عنصر التراكم، ويرى باومان أن سمة الزمن السائل تقلب القيم والموازنات بحيث يصبح نسيان المعلومات السابقة أهم من استذكارها، لأن بناء الاستيراتجيات على الخبرة الماضية في الزمن السائل خطأ كبير، فلكل لحظة خصوصيتها باعتبارها منفصلة تاريخا وواقعا ومكونات عن سابقتها القربية والبعيدة.
5 – المرونة بدل القياس، التحول الخامس الذي يرى باومان أنه أدى إلى هذه الحياة والزمان السائلين هو ما يتعلق بمسؤولية حل المشكلات المعقدة التي أفرزتها ظروف بالغة التعقيد، فالمشاكل التي يواجهها الفرد أنتجتها قوى تتجاوز فهم الفرد وقدرته على الفعل، ولكن مع ذلك عليه أن يواجه الحل بمفرده متسلحا بالمرونة والقدرة على تغيير المبادئ والمواقع والمواقف بإشعار قصير، والتخلي عن الالتزامات والاستعداد لتغيير التكتكيات دون ندم، واتباع الفرص في حينها لا اتباع الأوليات الثابتة.
تلك أهم التحولات التي أدت إلى الأزمنة السائلة في نظر زيجمونت باومان الذي يرى أن “السيلان” هو سمة هذا العصر الموار بالتغيرات والتقلبات، والمتسم بمسح الماضي بالحاضر وتجاوز اللحظة إلى التي تليها تجاوزا تطبعه القطيعة الزمانية والذهنية والتطورية، ولذلك نحن في نظره نعيش أزمنة عديدة سائلة غير متناهية بل متناسلة ومنفصلة في نفس الوقت.
This post is also available in: English (الإنجليزية)