الوصف
العلمانية تحت المجهر
تعريف هوليوك إذن تعريف مختلط الدلالة يزعم أنه لايتصدى لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض، أي أنه ـ حسب زعمه ـ تعريف جزئي لاينطوي على رؤية شاملة للكون، ولكنه مع هذا يتسم بالشمول ويتضمن رؤية شاملة للكون، رؤية قد لاتكون واعية بنفسها، وقد يكون صاحبها غير واعٍ بها، ولكنها هناك، متضمنة في المصطلح، وإلا فبماذا نفسر عبارة ((إصلاح حال الإنسان بالطرق المادية))؟. وقد ألقى هذا الوضع بظلاله على معنى المصطلح، وعلى مجاله الدلالي في كل المعاجم اللغوية والحضارية.
والتطور اللاحق لمعنى المصطلح لم يساعد الأمر كثيراً، فقد تقلص عند بعض المفكرين بحيث أصبح يعني ((فصل الدين عن الدولة)). وهذه العبارة ترجمة للعبارة الإنجليزية ((سيباريشن أوف تشيرش آند ستيت Separation of church and state))، وهي من أكثر التعريفات شيوعاً للعلمانية في العالم، سواء في الغرب أو في الشرق، وهي عبارة تعني حرفياً ((فصل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة) )) . والعبارة تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي وربما الاقتصادي أيضاً (رقعة الحياة العامة) ولاتشير من قريب أو بعيد إلى شتى النشاطات الإنسانية الأخرى، أو إلى النموذج الكامن وراء عملية الفصل.
وأعتقد أنه ينبغي التوقف قليلاً هنا؛ لتوضيح أمر أتصور أنه مهم قد يغيب عنا رغم بديهيته؛ وهو أن واقع الإنسان يتكون من مستويين (أو بنيتين) البنية الظاهرة والبنية الكامنة، وعادةً ماتكون البنية الظاهرة تبدياً للكامنة. وأفضل أن أراهما باعتبارهما دائرتين متداخلتين، الأولى صغيرة (ونشير لها بالجزئية) والأخرى كبيرة ونشير لها بالكلية وهي تحيط بالأولى وتشملها، وهي بمثابة الإطار الذي ينتظمها، ويمكن القول: إن الأولى إن هي إلا مجرد إجراءات تشكل تبدياً للثانية، ولايمكن فهمها حق الفهم إلا بالرجوع إلى الدائرة الأشمل، لأن هذه الدائرة الأكبر هي البنية الكامنة والمرجعية النهائية، وفي حالة العلمانية يشكل الفصل بين الدين والدولة الدائرة الصغيرة الجزئية الإجرائية، وهو دائرة لايمكن فهمها في حد ذاتها، وإنما بالعودة إلى الدائرة الشاملة الأكبر التي تشمل الأمور النهائية والمنظومات المعرفية والأخلاقية الكلية التي تمت عملية الفصل في إطارها.
ونحن نذهب إلى أن عملية فصل الدين ومؤسساته عن الدولة عملية حتمية في جميع المجتمعات، باستثناء بعض المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية، حيث نجد أن رئيس القبيلة هو النبي والساحر والكاهن ]وأحياناً من سليل الآلهة[ وأن طقوس الحياة اليومية طقوس دينية. ففي المجتمعات المركبة نوعاً، ثمة تمايز بين السلطات أو المجالات المختلفة يبدأ في البروز (وهو أمر يعرفه أي دارس للمجتمعات الإنسانية).وحتى في الإمبراطوريات الوثنية التي يحكمها ملك متأله، فإن ثمة تمايزاً بين الملك المتأله، وكبير الكهنة، وقائد الجيوش! فالمؤسسة الدينية لايمكن أن تتوحد بالمؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي وحضاري مركب، تماماً مثلما لايمكن لمؤسسة الشرطة الخاصة بالأمن الداخلي في الدولة الحديثة أن تتوحد بمؤسسة الجيش الموكل إليها الأمن الخارجي، كما لايمكن للمؤسسة التعليمية أن تتوحد بالمؤسسة الدينية، وفي العصور الوسطى المسيحية، كانت هناك سلطة دينية (الكنيسة) وأخرى زمنية (النظام الإقطاعي)، بل داخل الكنيسة نفسها، كان هناك بين رجال الدين من ينشغل بأمور الدين وحسب ومن ينشغل بأمور الدنيا.
العلمانية تحت المجهر
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية