نافذة على الإسلام

عنوان الكتاب نافذة على الإسلام
المؤلف محمد أركون
الناشر دار عطية للنشر
البلد سوريا
تاريخ النشر 272
عدد الصفحات 1997

أشتري الكتاب حمل الكتاب

الوصف

This post is also available in: English (الإنجليزية)

نافذة على الإسلام

تمت ترجمة الكتاب من خلال دار عطية للنشر 

كتب الباحث في الإسلاميّات محمّد أركون (ت 2010) كتاباً عنوانه “نافذة على الإسلام” نشر بفرنسا في طبعتين؛ صدرت أولاهما سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف (1989)، وثانيتهما ـ وهي مدار هذه الدراسة- صادرة سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة وألف (1992)، وقد نقلها إلى العربيّة صيّاح الجهيّم في طبعة أولى عام ستّة وتسعين وتسعمائة وألف (1996) ضمن منشورات دار عطيّة للنشر بيروت- لبنان.

إنّ عنايتنا متّجهة إلى وصف أقسام هذا الكتاب المترجم وتحليل أهمّ الأفكار الواردة فيه، لاسيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ محمّد أركون أغنى الطبعة الفرنسيّة الثانية بأربعة نصوص لم ترد في الطبعة الأولى، عسى “أن تساعد القارئ على النفاذ إلى المشكلات الكبرى المطروحة بما أدعوه (نقد العقل الإسلاميّ)”، على حدّ تعبير أركون نفسه في مقدّمة هذه الطبعة المنقّحة، (المقدّمة ص 8).

1- في وصف محتويات الكتاب والعلاقات القائمة بين قسميه:

يحتوي الكتاب المترجم على إحدى وخمسين ومائتي صفحة من الحجم المتوسّط، وهو متكوّن من: المقدّمة (من ص 5 إلى ص8)، والإهداء (صفحة واحدة، ص 9)، والتّنبيه (من ص11إلى ص15)، والفهرس (من ص249 إلى ص251)، ومن قسمين اثنين لا يحملان أيّ عنوان، ولا يتساويان من حيث الحجم وعناوين الموضوعات، على النّحو التالي:

القسم الأوّل: قوامه تسع وأربعون ومئة صفحة (من ص17 إلى ص166) ويتوزّع على المباحث التالية التي جاء معظمها في شكل أسئ

إنّ الخيط الرابط بين قِسمَيْ الكتاب والموضوعات التي اشتمل عليها كلّ قسم منهما يتمثّل في التفكير النقديّ في بعض الإشكالات التي تُطرح على المسلم المعاصر في علاقته بنصوصه الدينيّة المؤسّسة، وفي علاقته بقضاياه الراهنة الطارئة التي لا يجد لها جواباً واضحاً مقنعاً في موروثه الدينيّ لما شهده العالم اليوم- وما يزال- من متغيّرات وتقدّم علميّ كبير أفرزا وضعيّات اجتماعيّة لم تكن قائمة قديماً. فالحسّ النقديّ والبعد العلميّ والتفكير الحرّ في الإسلاميات قاسم مشترك بين المباحث التي طرقها محمّد أركون، والأسئلة التي طرحها وطرحت عليه وحاول الإجابة عنها في هذا الكتاب متسلّحاً بمكاسب العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وبما وصلت إليه مناهج البحث في الظاهرة الدينيّة من نتائج أخرجت بمقتضاها الثوابت والمسلّمات الدينيّة والحقائق المطلقة والمسائل المسكوت عنها إلى دائرة الضوء والنقاش والمراجعة العلميّة.

على هذا النحو، وقفنا على الروابط العميقة التي تجعل موضوعات الكتاب تشدّ بعضها برقاب بعض، وفق رؤية منهجيّة معاصرة للقضايا الإسلاميّة التي تشغل ذهن المسلم اليوم في مختلف مجالات الحياة. وما كثرة الأسئلة التي ألقاها أركون في القسم الأوّل من الكتاب إلاّ دليل واضح على الحيرة التي يشعر بها الإنسان المسلم إزاء مشكلات الراهن وكيفيّة التعامل معها ومع متغيّرات العصر، لا سيّما أنّ نصوصه المقدّسة لا تسعفه في أغلب الأحوال بحلول لقضاياه الجديدة المواكبة لإيقاع العصر؛ لهذا كلّه جاء الكتاب مسكوناً بهاجس السؤال تقوده روح نقديّة وجّهت جلّ المباحث تقريباً، بما في ذلك طريقة الإجابة عن الأسئلة الموجّهة إلى الأستاذ محمّد أركون.

الحقّ أنّ المواضيع المطروحة في هذا الكتاب كثيرة ومتنوّعة ومتفرّعة في بعض المباحث إلى جزئيّات خضعت بدورها للتّفصيل والتوسّع على غرار المبحث الثاني عشر من القسم الأوّل (كيف تحدّد، بحسب القرآن الكريم والسنّة، الجماعة الإنسانيّة المثاليّة؟) والمبحثين العشرين( مسألة التصوّف) والحادي والعشرين (مفهوم الشخص في الفكر الإسلامي)، وسائر مواضيع القسم الثاني، لذلك سنقدّم أهمّ المسائل المثارة بين دفّتي هذا الكتاب بطريقة تأليفيّة غير مخلّة- بطبيعة الحال- بالأفكار التي عمل على إيصالها محمّد أركون إلى القارئ في إطار تجديده للفكر الإسلاميّ المعاصر ملتزمين بالترتيب الذي جاءت عليه تلك الأفكار الكبرى التي رسمت ملامح رؤية أركون للمسائل التي استقطبت اهتمامه، واستحوذت على تفكير المسلم في الوقت الراهن.

انطلق أركون في المقدّمة من ملاحظة أساسيّة لفت فيها انتباه القارئ إلى التواطؤ الإيديولوجيّ والوظيفيّ في الوقت نفسه بين وسائل الإعلام في البلدان المسلمة وأدب الدراسات السياسيّة الإسلاميّة الذي يشدّد على “الأصوليّة” والتطرّف الإسلاميّ، والتيّار الإسلامي الراديكالي والحركات الإسلاميّة. ثمّة إذن، تواطؤ مفضوح بين الجهاز الإعلاميّ في هذه البلدان وأصحاب الأدبيّات السياسيّة الإسلاميّة التي تسخّر وسائل الإعلام لخدمة مصالحها الأيديولوجيّة ونشر أفكارها الرجعيّة المتطرّفة، وهو ما ساهم في انتشار كتب لا تمتّ إلى العلميّة بصلة وفي ندرة ظهور الكتب المجدّدة للفكر الإسلاميّ، ذلك أنّ أركون يقرّ بأنّه منذ قيام الثورة الإيرانيّة عام تسعة وسبعين وتسع مئة وألف لا يعرف سوى كتاب واحد خصّص “للإسلام الليبيرالي” في مقابل رواج كثير من الكتب التي تعالج الحركات الإسلاميّة وتقدّم لها “دعاية مجانيّة وفعّالة” على حدّ تعبير أركون (ص 5).

وبناء على ما سبق، يرى هذا الباحث أنّ وظيفة كتابه ماثلة أساساً في إنارة أعظم للموقف الإيديولوجيّ الناشئ في الغرب بأسره وفي البلدان المسلمة أيضاً حول مفهوم شديد الخلط والالتباس “الإسلام”، وما يدور في فلكه من قضايا.

إنّ همّ أركون في هذا الكتاب إطلاع الرأي العام في الغرب على الإسلام الحقّ الذي شوّهته الحركات الأصوليّة المتطرّفة، فجعلت من الدين آليّة عنف وصراع بين الحضارات والشعوب، على حين أنّ جوهر الإسلام يدعو إلى التعارف بين الشعوب والتفاعل بينها بما يخدم مصالح الإنسان في الكون بصرف النظر عن ديانته وعرقه ولونه ولسانه.

لقد أردف المؤلّف المقدّمة بتنبيه جاء بمثابة العقد القرائيّ الذي يبرمه مع متقبّلي كتابه، ومحصّله وجوب تسلّح الباحث الأكاديميّ، وهو يعالج مسألة من المسائل المعرفيّة بالموضوعيّة والتجرّد من الأهواء الذاتيّة. لكن يؤكّد في السياق نفسه أنّ إطالة معاشرة مجال من مجالات المعرفة تفرض على الباحث اقتناعات وحدوساً واحتمالات يمكن أن تفتح كوى بحث جديدة أكثر عمقاً واستقصاء. وعلاوة على ذلك، يمكن للجمهور الواسع تمثّل نتائج البحث بيسر متى كان عرض الباحث حرّاً خالياً من “ذلك الجهاز الثقيل للمراجع والتبريرات والنقاشات التقنية مع الاختصاصيّين”، بحسب تعبير أركون (ص 11).

وعلى هذه السبيل، ينزّل صاحب كتاب “نافذة على الإسلام” كتاباته عن الإسلام في هذا المساق الفكريّ الذي يزاوج فيه الباحث بين القيود التقنيّة الأكاديميّة الصارمة وبين الحرص على الوصول إلى أكبر شريحة من الجمهور مسلماً كان أم غير مسلم، بتوسّل لغة بسيطة شفّافة لا ترهق القارئ ولا تشكل عليه فهم مضمون الخطاب الذي لابدّ أن ينطلق في قراءة ماضي الإسلام وحاضره من تعبيرات المجتمعات الإسلاميّة ومطالبها الراهنة، وهذا هو علم الإسلام التطبيقيّ الذي أراد أركون إرساء دعائمه في مساره البحثيّ حول قضايا الإسلام.

ويختم أركون التّنبيه بالتنصيص على ضرورة أن تنفتح الدراسات الإسلاميّة على روح العصر ومكاسب علوم الإنسان والمجتمع ومناهج البحث الحديثة، حتّى تجدّد قراءاتها للموروث الدينيّ الذي هو في أمسّ الحاجة إلى كشوفات علميّة حقيقة بفهم مضامينه وأبعاده وفق رؤية نقديّة تقودها حريّة البحث الأكاديميّ الرّصين.

2- القسم الأوّل: تحليل ودراسة

إنّ أغلب المباحث القائمة في القسم الأوّل صاغها أركون بأسلوب إشكاليّ يحتمل أكثر من فرضيّة علميّة أو إجابة. يعمل بعد ذلك على تقليب المسألة على وجوهها الممكنة، ثمّ يرجّح الإمكانيّة الأقرب إلى المنطق والعقل والواقع المعيش الذي يعزّز وجاهتها. واعتباراً لأهميّة الإشكاليات التي طرحها أركون في هذا القسم رأينا من المفيد أن نقف عليها جميعاً، حتّى لا نخلّ بمضمون الأفكار التي أراد صاحبها أن تصل إلى أكبر شريحة من القرّاء المسلمين المقيمين في الغرب وخارجه، ولمّا كان ذلك كذلك نعرض في ما يلي لهذه المباحث تباعاً:

المبحث الأوّل قام على سؤال مفاده: هل يمكن الكلام على معرفة علميّة للإسلام في الغرب أو بالأحرى على تخيّل غربيّ عن الإسلام؟

يشكّك أركون في مدى صحّة المعرفة المتداولة في الغرب عن الإسلام وفي موضوعيّة هذه المعرفة، ذلك أنّ حركات التحرّر في العالم العربيّ الإسلاميّ واعتلاء عبد الناصر ذي التوجّه القوميّ سدّة الحكم في مصر(مواجهته خاصّة لمطالب الإخوان المسلمين) ووصول الخميني إلى رأس السلطة في إيران بعد نجاح الثورة الإيرانيّة عوامل ساعدت على ظهور تخيّل غربيّ عن الإسلام مجافٍ لجوهر الديانة الإسلاميّة بواسطة وسائل الإعلام الغربيّة التي تريد منذ الخمسينيّات تشويه حركات التحّرر من الاستعمار الغربيّ في العالم العربيّ الإسلاميّ، وذلك بتقديم معرفة غير علميّة أو موضوعيّة عن الإسلام والمسلمين قديماً وحديثاً لتحقيق مصالح وإحراز مواقع سياسيّة واستراتيجيّة داخل البلدان المسلمة. يضاف إلى ذلك أنّ الصعوبات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي رافقت ظهور الدول القوميّة في الخمسينيات والستينيات في هذه البلدان ساهمت إلى حدّ بعيد في صياغة هذا التخيّل عن الإسلام في الغرب، فلقد أرجعت هذه الصعوبات إلى الإسلام، فهو مكمن الوهن والحائل دون التحاق هذه الدول بركب التقدّم والرقيّ الماديّ والحضاريّ، والذي رسّخ هذه الفكرة حول الإسلام خطاب الحركات الإسلاميّة التي تخوض المعارك السياسيّة لفرض إسلام مشترك أبديّ، “سيكون (نموذج العمل التاريخي) المثالي لإنقاذ العالم من النموذج الغربي الإمبريالي والمادي” (ص 19).

وفي حقيقة الأمر، إنّ غياب الوظيفة النقديّة لدى وسائل الإعلام الغربيّة وخطاب الحركات الإسلاميّة هما اللذان أنتجا هذه المعرفة غير العلميّة والمتخيّلة عن الإسلام في الغرب من جهة أولى، وأفرزا معرفة غير موضوعيّة متخيّلة عن الغرب عند المسلمين من جهة ثانية، فضلاً عن المنافسة المستمرّة بين الجماعات الدينيّة الثلاث اليهوديّة والمسيحيّة والمسلمة، “لتؤمّن احتكارها لإدارة الرّصيد الرمزي المرتبط بما تدعوه تقاليد هذه الأديان: الوحي”، على حدّ تعبير أركون (ص 19).

إنّ الخلط بين الإسلام بوصفه ديناً والإسلام، باعتباره إطاراً تاريخيّاً لإعادة ثقافة قاد في أغلب الأحيان إلى بروز معرفة غير دقيقة وغير موضوعيّة عن الإسلام. فلقد ساهمت وسائل الإعلام الغربيّة وأطروحات أصحاب الحركات الإسلاميّة على حدّ السواء في تفشّي هذه المعرفة المتخيّلة المجانبة للحقيقة عن الإسلام في الغرب.

* المبحث الثاني: انبنى على هذا السؤال: ماذا تعني كلمتا “إسلام” و”مسلم”؟

طرح أركون هنا سؤالاً يبدو بدهيّاً ولا حاجة تدعو إلى إثارته لكثرة استعمال كلمتي “إسلام ومسلم” ودورانهما على الألسن منذ أربعة عشر قرناً، حتّى أضحى معناهما متداولاً معروفاً. بيد أنّ الباحث يعيد النظر في المعنى الشائع المقترن بتينك الكلمتين، لذلك لا يطمئنّ إلى ترجمة كلمة “إسلام” كما جرت العادة إلى الفرنسيّة بكلمة خضوع أو بكلمة استسلام؛ أي استسلام المؤمن لربّه، بل يرى أنّ مثل هذا المعنى يخالف المقصد الأسمى الكامن وراء هذه الكلمة، فهي تعني اندفاع المؤمن نحو محبّة اللّه الذي رفعه وسما به إلى أعلى المراتب، وهذا كلّه يتجسّد في شكل طاعة ملؤها الحبّ والاعتراف بالجميل لا الاستسلام والخضوع القسريّ، وحتّى كلمة “مسلم” في القرآن الكريم وفق قراءة أركون تعبّر عن “تلك الطاعة الملأى بالحبّ، والتي كانت مبادرة إبراهيم لها حتّى قبل أن يضحّي بابنه استجابة لطلب اللّه” (ص ص 30-31).

وهكذا تشير كلمة “مسلم” إلى الموقف الدينيّ المثالي القائم على توحيد اللّه الذي يرمز إليه إبراهيم، ومن هنا نفهم أنّ عبارة “مسلم” في توصيف سلوك إبراهيم في القرآن الكريم لم تكن تحيل على الإسلام مثلما حدّده اللاهوتيون والفقهاء بعد القرآن الكريم وتعاليم محمّد ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ. ذلك أنّ إبراهيم كان يكرّس في حياته المشهد الدينيّ المؤسّس للتوحيد قبل إنشاء الشعائر والطقوس والتشريعات الراسمة لخصوصيّة الأديان التوحيديّة الثلاثة.

إنّ الفقهاء انطلاقاً من تشريعات وشعائر واردة في القرآن أخذوا ينظّمون هذه المظاهر “في مجموعة من العقائد واللاعقائد ستصبح الدين الإسلاميّ”، على حدّ قول أركون، (ص 31) فعلى هذا النحو يميّز الباحث بين إسلام إبراهيم الذي تأكّد في تجربة محمّد الدينيّة وبين إسلام الفقهاء اللاهوتيين التاريخيّ الذي أضاف إلى إسلام إبراهيم المستعاد في تجربة محمّد معاني أخرى كالخضوع والاستسلام والرضا بالموجود لم تكن قائمة أصلاً، فشوّهت هذه التغييرات المعنى الإيجابيّ لكلمة “إسلام”، فحملت عند الغرب هذه الشحنة الدلاليّة السلبيّة التي تنفي دور الإنسان في الكون ومنزلته الأسمى التي خصّه بها خالقه لنحت كيانه وتقرير مصيره بكلّ حريّة على وجه الأرض. ومن هذا المنطلق يحثّ أركون على ضرورة إدخال النظرة العلميّة النقديّة لكلّ مجتمع “مسلم”؛ لكي ينقد ذاته للتحرّر من النظرة المتخيّلة عن الإسلام التي حالت دون قابليّته للإبداع والابتكار.

* المبحث الثالث: موصول بمسألة الفصل بين الكنيسة والدولة في أصل الأيديولوجيا العلمانيّة. يتساءل أركون: هل هذا الفصل ينبع من التفريق القائم في الأناجيل ذاتها، ومبناه “دعوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه”؟

يحاول الباحث تنزيل هذه الجملة في سياقها التاريخيّ الذي ظهرت فيه أوّل مرّة، فقد قيلت عندما كانت فلسطين خاضعة في زمن يسوع المسيح لسلطة الرومان، وبما أنّ الحاكم في فلسطين آنذاك يمثّل السلطة السياسيّة الشرعيّة والقانونيّة في روما، فإنّ السلطة الدينيّة لم يكن بمستطاعها امتلاك أيّة مبادرة سياسيّة إلاّ بالرجوع إلى روما.

ومن أجل تحقيق الاستقلال الروحانيّ للسلطة الدينيّة أرادت أقوال يسوع المطالبة بالامتياز الدينيّ الروحيّ الذي يخصّ الأنبياء، أو السلطة الكهنوتيّة اليهوديّة مثلما كانت تمارس في المجمع لدى اليهود. ومن هنا جاء هذا الشعار القائل بـ”دعوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه”، إذن نتبيّن أنّ الفصل بين الكنيسة والدولة في أصل الإيديولوجيا العلمانيّة لا ينبع من التفريق الوارد في الأناجيل، وإنّما من التجربة التاريخيّة للمسيح في علاقته بالسلطة المدنيّة في روما؛ فالمسيح نفسه عمل على إرساء نظام سياسيّ يستمّد شرعيّته من الدينيّ، لكنّه رفع الشعار المذكور كي “يحقّق عمليتين حاسمتين: إنّه لا يهاجم مباشرة السلطة السياسية الرومانيّة، لكنّه يطرح مشكلة شرعيّتها، بما أنّها غير مؤسّسة على السلطة الروحانيّة لهذا الإله المعلن في شخص يسوع” (ص34). ومن ثمّ، فإنّ الفصل بين الدين والدولة في المسيحيّة والجمع بينهما في الإسلام تمييز سريع وسطحيّ ـ حسب أركون ـ لا يراعي الوقائع التاريخيّة والأحداث المميّزة لكلّ تجربة دينيّة، كما أنّ “اختزال العلاقات بين الدين والعلمانيّة، وبين الروحيّ والزمانيّ، واختزالها إلى مسائل الفصل القانوني بين هذه السلطات أو إلى التفريق بين اللاهوت والفلسفة، وبين الأسطورة والتاريخ.. إلخ، فإنّ ذلك كلّه أمر وهميّ”، وفق تصوّر أركون (ص ص 42-43).

* المبحث الرابع: يثير أركون قضية الإسلام والعلمانيّة من خلال أنموذج أتاتورك الذي تبنّى الحياد الراديكالي تجاه الدين باعتماد القوانين السويسريّة طارحاً سؤالاً مداره على هذا الحدث: هل هو حدث منعزل أو هو إعلان لتطوّر في العالم الإسلامي نحو التعدّديّة العلمانيّة على غرار ما جرى في الوسط المسيحي؟.

يرى أركون أنّ ثورة أتاتورك تكرّس انتصار العقل الوضعيّ التاريخاني المنقطع جذريّاً عن الوعي الأسطوريّ الذي ما زال يدور فيه الجمهور الأعظم من المؤمنين علماء كانوا أو أميين (ص47). ففي تجربة أتاتورك تحوّلت الرموز الدينيّة إلى مجرّد إشارات فقدت سلطتها الرمزيّة على الحياة المدنيّة، وهذا الأمر لم يتمّ عند بقية الدول الإسلاميّة بشكل جذريّ، ممّا يدعونا إلى اعتبار مثال أتاتورك مثالاً مخصوصاً لا يمكن سحبه على سائر المجتمعات الإسلاميّة، ولا يمكن فهمه ومقارنته بغيره من النماذج إلاّ بفحصه وفحص النماذج المقابلة من وجهة نظر أنثروبولوجيّة ثقافيّة.

* المبحث الخامس: يهتمّ بكيفيّة سير النموذج القومي المستعمل بعد نيل الاستقلال في المجتمعات المسلمة.

يذهب أركون إلى أنّ النموذج القومي في هذه البلدان مستعار من القوميّات كما تطوّرت في البلدان الأوروبيّة، فثمّة واقعتان تاريخيتان كان لهما بالغ الأثر في توجيه النموذج القومي في البلدان المسلمة بدرجات متفاوتة؛ أولاهما التوقف الشرس لدولة الخلافة السنيّة بعد دخول الغزاة المغول بغداد سنة 1258م وإلغاء الخلافة والإمامة (ص 50)، والثانية تحذير الدول المشكّلة بعد الاستقلال من البحث السلالي الأنثروبولوجي الذي يمكّنها من اكتشاف قوميّات أصيلة ليس الدين محدّدها الرئيس. فعلى هذا النحو بقيت هذه الدول محرومة من المراجع المؤسسيّة في الماضي الإسلاميّ، ومن المراجع القوميّة الأصيلة ذات العمق الثقافي الأنثروبولوجيّ، لذلك بقيت ممزّقة بين استعادة النموذج الدينيّ الإسلاميّ الذي ليست له تجربة سياسيّة تاريخيّة حقيقيّة واستيراد النماذج القوميّة الأوروبيّة، وهو ما جعل المسار القوميّ في هذه الدول خاضعاً للارتجال والمناسبات، مثل إنشاء اتّحاد المغرب العربي الكبير. على أنّ المستنبط من خطاب أركون دعوته إلى تبنيّ أنموذج قوميّ علمانيّ يستمدّ خلفياته النظريّة من التجربة الأوروبيّة، وإن لم يذكر هذا الأمر بطريقة مباشرة في هذا السياق.

* المبحث السادس: مداره على مدلول كلمة تنزيل وعبارة قرآن كريم.

الفكرة المركزيّة لدى أركون تتمثّل في أنّ المقصود بالقرآن هو قراءة مطابقة لخطاب مسموع لا مقروء، لهذا يؤثر استعمال خطاب قرآنيّ في المرحلة الأوّليّة من تبليغ النبيّ له، ذلك أنّ هذا الخطاب الشفويّ يبني معانيه المنفتحة زمن النبيّ من الإشارات والقسمات والحركات التي تصاحب تقبّل النبيّ محمّد للوحي، لذلك فالتنزيل يمكن الحديث عنه، باعتباره ظاهرة لسانيّة ثقافيّة؛ أي قبل أيّة محاولة بناء لاهوتي جعلت معانيه ضيّقة منغلقة وفق مصلحة الفاعلين الاجتماعييّن الذين دوّنوا القرآن في مصحف في عهد عثمان بن عفّان (ت35هـ)، وسيّجوا دلالاته وأثبتوا في قراءته ما يعزّز مواقعهم. إنّ التنزيل كلام اللّه الذي بلّغه إلى الرسول لم يعد في تناول عامّة المؤمنين إلاّ انطلاقاً من المجموعات الرسميّة المدوّنة المغلقة التي كتبت المصحف.

فالتنزيل في تصوّر أركون يمسّ مباشرة قلب الإنسان، لأنّه مرتبط بلغة جديدة تأتي لتعدّل جذريّاً نظرة الإنسان إلى “وضعه” إلى كينونته في العالم إلى علاقته بالتاريخ إلى نشاطه في إنتاج المعنى (ص 59).

* المبحث السابع: مرتبط بالسؤال السابق، وهو قائم على ثالوث من الاستفسارات: من كتب القرآن؟ ومتى كتب؟ وماذا يحتوي؟

يرى أركون أنّ غياب صحابة النبيّ والنقاشات التي تفاقمت بين المسلمين الأوائل حول القرآن عاملان دفعا الخليفة عثمان بن عفّان إلى جمع كليّ للتنزيل في مدوّنة واحدة تُدعى المصحف، ومن هنا أعلن الخليفة أنّ الجمع قد انتهى، وأنّ النصّ الذي أثبت نهائيّ، فأتلفت تبعاً لذلك المدوّنات الجزئيّة حتّى لا تثار بحدّة “الخلافات حول صحّة التبليغ المحفوظ، وهذا يبرّر مفهوم المدوّنة الرسميّة المغلقة” (ص 61).

إنّ الفاعلين الاجتماعيين في عهد عثمان هم الذين كتبوا القرآن، فأثبتوا في المصحف المعاني التي تخدم مصالحهم باعتبارهم جماعة مؤمنة، والتي تبرّر تنفذّهم الدينيّ والسياسيّ وتضمن استمرار سلطتهم على المجتمع الإسلاميّ.

* المبحث الثامن: فيه نظر في مظاهر تفسير النصّ القرآنيّ حينما تكوّن في كتاب.

يذهب أركون إلى أنّ التفسير الغالب على القرآن الكريم، حتّى عند فخر الدين الرازي (ت606هـ) الذي يعتبر فلتة في تاريخ تفسير القرآن، يراعي التطابق التامّ بين التفسير والقصد من الدلالة والطبع بين التفسير والمحتوى الدلاليّ للكلمات في كلّ آية (ص 70). وهذه الظاهرة في تفسير القرآن ليست موقوفة على القدامى الذين يشفع لهم جهلهم بألسنيّة النصّ الحديثة الانخراط في هذا المساق التفسيريّ، وإنّما تشمل التفسير المعاصر الذي لم يتخلّص “من هذه السذاجة” في العمل التفسيريّ على حدّ توصيف أركون. وهكذا كان المفسّرون الكلاسيكيون يعوّضون بتجربتهم الدينيّة عمّا فقدوه من عدم كفاية تفسيرهم، على خلاف المفسّرين المعاصرين أصحاب النزعة الجهاديّة الذين “يبتعدون عمّا هو إلهيّ، وعن شروط استقبال “الكلام” الذي يعلن عنه” (ص 70).

* المبحث التاسع: مداره على: “ماذا كان يريد محمّد بدعوته الدينيّة”؟.

يعتبر أركون أنّ مقاربة شخص محمّد، شأنها شأن مقاربة القرآن في الغرب، مقاربة صعبة ومثار جدل؛ لأنّها تريد الانقطاع عن كلّ اعتبارات أسطوريّة ودينيّة متخيّلة أنشأها المسلمون حول شخصيّة الرسول؛ فالذي يريده محمّد وفق مكاسب العلوم الحديثة بعد تحمّله مسؤوليّة جماعة المؤمنين التفكير في حماية هذه الجماعة حتّى تصل الرسالة إلى القلوب، وفي خلق الشروط الموضوعيّة من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة لييسّر انتشار الدين انتشاراً كبيراً (ص 72).

* المبحث العاشر: هل توجد نصوص أخرى مؤسّسة في الإسلام خارج القرآن؟

يقرّ أركون بأنّ القرآن هو المصدر الأوّل للدين الإسلاميّ، وإلى جانبه نجد الأصل الثاني الماثل في السيرة النبويّة التي تشكّلت من خلال “الحديث” النبويّ، فجمعت الأحاديث في مدوّنات ثلاث رسميّة مغلقة ونهائيّة: (مدوّنة السنّة – مدوّنة الشيعة- مدوّنة الخوارج “الجامع الصحيح” للربيع بن حبيب)، كما كان الأمر بالنسبة إلى المدوّنة القرآنيّة. فالنقد الموجّه إلى هذه المدوّنات الثلاث التي يدّعي أتباعها صحّة السنن الموجودة في كلّ منها قاد إلى نشأة علم الشريعة الذي اهتمّ بالأصول والفروع؛ أي باعتباره خطاباً من درجة ثالثة مفصّلاً ومبيّناً للنصين المؤسّسين في الإسلام؛ أي القرآن والسنّة.

* المبحث الحادي عشر: ما السُنّة؟

السُنّة النبويّة عند المسلمين لا بدّ أن تلغي كلّ أشكال “الطاغوت” التي كانت سائدة عند العرب قبل بعثة النبيّ محمّد، ذلك أنّ السُنّة تحمل للجماعة جميع القضايا الحقيقيّة وجميع القيم وقواعد السلوك القويم التي أوحى بها اللّه إلى نبيّه وعلّمه إيّاها، وبالتالي لا يمكن أن يضاف إليها شيء خارج عنها (ص 80). على أنّ السُنّة، وفق القراءة الأنثربولوجيّة والاجتماعيّة المعاصرة، ظلّت محافظة على كثير من العادات والقيم الجاهليّة التي سكت عنها علماء الإسلام، لأنّها تتعارض في نظرهم مع “الدين الحقّ” الذي جاء بأشياء جديدة لم تعرفها العرب في جاهليّتها.

* المبحث الثاني عشر: كيف تحدّدت بحسب القرآن والسنّة الجماعة الإنسانيّة المثاليّة؟

الجماعة الإنسانيّة المثاليّة انطلاقاً من القرآن والسُنّة هي الأمّة المحمّديّة؛ أي مجموعة التابعين التي كانت في أوّلها قليلة مستضعفة ومهدّدة ثمّ توسّعت رقعتها بفضل اللّه وعمل النبيّ حتّى انتشرت بعد وفاته إلى آلاف مؤلّفة. ويفترض في أعضاء هذه الأمّة على مرّ التاريخ أن “يستعيدوا مثاليّاً جميع المظاهر المكوّنة للأنثربولوجيا القرآنيّة” (ص 85). بيد أنّ هذا المفهوم للجماعة الإنسانيّة المثاليّة لا يختلف في شيء عن مفهوم آباء الكنيسة الشرقيّة الذين يستمّدون تماسكهم وطاقتهم واستمرارهم المخترق للتاريخ من العودة الأسطوريّة إلى “زمن وحدث مؤسّسين يقسّمان المكان والزّمان إلى مقدّس ومدنّس، محلّل ومحرّم، وإلى قبل وبعد” (ص ص 85-86). ومن ثمّ فهذه الجماعة الإنسانيّة المثاليّة جماعة أسطوريّة متخيّلة تقبع في قاع رمزيّ تتم استعادته باستمرار للدفاع اليوم عن “خيريّة هذه الأمّة” المثاليّة وأحقيّتها بقيادة الإنسانيّة جمعاء.

* المبحث الثالث عشر: وضع المرأة بحسب القرآن والسنّة، ما هو؟

عندما تدخّل القرآن لمعالجة وضعيّة المرأة وجد وضعاً راسخاً منذ قرون، لم يتوصّل إلى تعديله في خصوص نقطتين أساسيتين:

– البنى الأوّليّة للقرابة ومراقبة الجنسيّة، إذ أظهر كلود ليفي ستروس دور البنى الأوليّة للقرابة في تداول الأموال والسلطات والأشخاص في المجتمع، وعليه فإنّ مبادلات النساء تخضع لاستراتيجيّات الإثراء والسيطرة والحماية الذاتيّة التي تتجاوز مصلحة الشخص المبادل. ولمّا كان ذلك كذلك لم يلغ الشرع الإسلاميّ تماماً القانون البدوي السائد في الجزيرة العربيّة في العصر الجاهليّ، ومن ثمّ لم تشهد وضعيّة المرأة بعد الإسلام وفي زمن النبيّ تغييرات جذريّة، مثلما يدّعي أصحاب الخطاب الدينيّ ودعاة الحركات الإسلاميّة اليوم.

– الوضع البيولوجيّ المخصوص للمرأة الذي هيّأها للإنجاب، بمعنى تداول أثمن الخيرات في كلّ مجتمع فقد كانت بمقتضى ذلك “غرضاً في كلّ مكان لاستراتيجيات الرجال الذين استأثروا بالإشراف على تداول الخيرات وعلاقات القوّة بين الأسر والعشائر والقبائل” (ص 98)، ولمّا كان الأمر على هذا النحو في المجتمعات القديمة وفي بعض المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة فإنّ وضع المرأة في الإسلام خضع لهذه العلاقات الاستغلاليّة، وآية ذلك أنّه كلّما اكتسى المقدّس التقليديّ طابعاً أيديولوجيّاً لغايات سياسيّة، ازداد وضع المرأة المسلمة تدهوراً واضطراباً على مستوى التقاليد العرقيّة والإسلاميّة.

المبحث الرابع عشر: هل في الإسلام عقائد؟ وما هي؟

توجد في الإسلام عقائد كثيرة: (اليوم الآخر ـ الحساب – البعث ـ الجزاء – الجنة والنار- الملائكة ـ الجن – الأنبياء)، هذه العقائد متولّدة من الإقرار بعقيدة العقائد، إن جاز التعبير، وهي الاعتراف بوحدانيّة اللّه وتعاليه، ومن اختياره لمحمّد رسولاً يبلّغ القرآن (ص 102).

لكن يرى أركون أنّ كثيراً من العقائد كانت تحرّكها رهانات سياسيّة كعقيدة “خلق القرآن” التي أراد أن يفرضها المأمون (ت 218هـ) بالقوّة خدمة لمصالح إيديولوجيّة.

* المبحث الخامس عشر: هل في الإسلام وظيفة كهنوتيّة؟ وكيف يتواصل المؤمنون مع الإله؟

على ما يبدو لا يوجد في الإسلام “كهنوت” لغياب الوساطة في علاقة المؤمن باللّه، ذلك أنّ المؤمن يتواصل مع ربّه مباشرة في كلّ العبادات والشعائر التي يقوم بها. لكن يرى أركون أنّ تضحية المسلم أثناء الحجّ بخروف فيه ضرب من الوساطة، فضلاً عن الممارسات الموجودة في الدين الشعبيّ كالتوسط بأولياء اللّه الصالحين الذي يحوّل الإسلام إلى كهنوت.

* المبحث السادس عشر: كيف تتمفصل هيئات السلطة الروحيّة والسلطة السياسيّة في الإسلام؟

كان محمّد يجمع بين السلطة الروحيّة باعتباره نبيّاً يتلقّى الوحي، وبين سلطة الزعيم الذي يفصل في كلّ جدل وسلطة القرار في النزاعات واستراتيجيات السيطرة بين المؤمنين وغير المؤمنين (ص ص 107-108). وبعد وفاة الرسول انتقلت السلطتان الروحيّة والسياسيّة إلى الخليفة الذي هو استمرار بشكل أو بآخر لنفوذ النبيّ محمّد على المؤمنين وغير المؤمنين، باعتبار كونيّة الدين الإسلاميّ.

وممّا يُلاحظ أنّ الخليفة في التصوّر الإسلاميّ والإمام عند الشيعة صارا يتمتّعان بحضور مقدّس يجسّد السلطة الروحيّة والسلطة السياسيّة في آن واحد، وهذا يذكّرنا بنفوذ الكنيسة في المسيحيّة، إذ كثيراً ما تتجمّع السلطات في يد شخص واحد بطريقة دينيّة رمزيّة يضفي عليها طابعاً مقدّساً.

المبحث السابع عشر: ما الذي احتفظ به الإسلام من اليهوديّة والمسيحيّة ومن الديانات والأعراف في الجزيرة العربيّة قبل ظهوره؟

احتفظ الإسلام من الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة بالقصص الأسطوري المنسوج حولهما، كما احتفظ بكثير من الشعائر والعقائد الخاصّة بدين العرب في الجاهليّة كشعائر الحجّ إلى مكّة والاعتقاد بالجنّ والسحر…إلخ.

* المبحث الثامن عشر: هل يعود انفتاح الإسلام على التراث اليونانيّ إلى توصية صريحة من القرآن والنبيّ؟

ينفي أركون أن يكون ذلك الانفتاح على التراث اليونانيّ ناجماً عن دعوة دينيّة صريحة في الكتاب والسُنّة تحثّ جماعة المؤمنين على الإفادة من الأمم الأخرى، خاصة أمّة اليونان التي اشتهرت بالفلسفة والعلوم، ومنذ القرن التاسع الميلادي ظهرت معارضة قويّة من الأوساط الدينيّة للعلوم التي تدعي العقليّة على غرار ابن قتيبة (ت276هـ) الذي ثار في كتابه “أدب الكاتب” على جميع أولئك الذين لا يلهجون بغير أرسطو (ص 117). وعليه ففضول المسلم في المجتمعات القديمة وحده هو الذي دفعه إلى الانفتاح على التراث اليونانيّ.

المبحث التاسع عشر: كيف تبدو الصلات بين الإسلام والعلوم والفلسفة؟

لا توجد على ما يبدو عقبات دينيّة أمام البحث العلميّ في الميدان الإسلاميّ، فلا نجد تعارضاً بينهما. على أنّ الفاعلين الاجتماعيين في الإسلام شجعّوا الفلسفة الإشراقيّة ذات المنحى الدينيّ الصوفيّ، وقمعوا الفلسفة العقليّة البرهانيّة التي مثلّها خاصّة ابن رشد، لأنّها تمسّ من مصالحهم ومواقعهم وتراجع الكثير من المسلّمات الدينيّة التي تتعارض مع العقل.

* المبحث العشرون: ما مكانة التصوّف في الإسلام، باعتباره حركة مذهبيّة وطراز حياة دينيّة؟ وهل يدخل التصوّف وفق هذا التفريق في نطاق الظاهر والباطن؟

صحيح أنّ التصوّف تيّار فكريّ له معجمه الفنيّ الخاصّ وخطابه ونظريّاته، ولكنْ صحيح أيضاً أنّ للتصوّف في الوقت نفسه طراز حياة دينيّة تقوم على جملة من الطقوس والاحتفالات الفرديّة والجماعيّة، الغاية منها إشراك “الجسد والنفس في مسيرة تجسيد الحقائق الروحيّة” (ص 127).

لقد عرفت التجربة الصوفيّة في التاريخ الإسلاميّ استمراراً لافتاً للنظر على خلاف أنماط التعبير الديني الأخرى كعلم الكلام والحقوق والتفسير والهندسة المعماريّة التي شهدت تطوّرات متقطّعة. ولئن كان التّأمّل الصوفي ممارسة فرديّة مستقلّة عن العبادة التي تؤديها الجماعة، فإنّ التصوّف ـ كالدين- في مجموعه تابع للمنظومة الثقافيّة وللنظام السياسيّ، كما أنّ لحركة التصوّف وجهاً اجتماعيّاً وسياسيّاً لا ينبغي إهماله، وهو مرتبط أساساً “بالأوساط الحضريّة المحرومة، وبالفئات الاجتماعيّة المهمّشة، وبجميع الذين لا يمكنهم بلوغ امتيازات الطبقات الموسرة” (ص 129)، ممّا يعني أنّ تشوّف المطلق الباقي والباطن الجوهر لا يعدو أن يكون ردّ فعل على الحرمان الاجتماعيّ والتهميش السياسيّ اللذين كابدهما أصحاب المذهب الصوفيّ في حياتهم اليوميّة، ومن ثمّ فالالتحام بالغيب والمطلق ضرب من ضروب الاحتجاج على الحيف الاجتماعي والسياسي ولون من ألوان الفرار من الواقع للعجز عن تغييره.

المبحث الحادي والعشرون: كيف يتبدّى مفهوم الشخص في الفكر الإسلاميّ؟

يعتبر أركون أنّ مفهوم الشخص في الجانب الإسلاميّ حاضر في تيّارات الفكر الكلاسيكي التي تُعلي من قيمة الشخص وحقوقه في الديانة الإسلاميّة. بيد أنّها لم تعمل على تحليل مفهوم هذا الشخص من وجهة نظر علميّة، ذلك أنّ التخيّل السياسي الديني الذي أقامته تجربة الإسلام في المدينة ساهم “في إنتاج نموذج للشخص يستبطن جميع التصوّرات، جميع الصور الرمزية المثالية التي نقلها الخطاب الإسلاميّ التقليديّ” (ص 142). وهكذا يبدو وضع الشخص مبرّراً دائماً من طرف السلطة الروحيّة التي تنزّله منزلة معيّنة وفق قربه منها وبحسب رضاها عنه، وآية ذلك أنّ الشخص في التصوّر الإسلامي، مثلما يشهد بذلك التاريخ القديم خاصّة والحديث عامّة في بعض الدول الإسلاميّة، يزداد شرفاً وقيمة وثروة كلّما اقترب من آل النبيّ وصحابته.

3- القسم الثاني: تحليل ودراسة

يحتوي القسم الثاني على خمسة مواضيع، متولّدة من القضايا المثارة في القسم الأوّل، فهي امتداد لها مع المزيد من تعميق النظر في المسائل الجزئيّة التي تطرحها. ويمكن تناول المواضيع المدروسة في هذا القسم على النحو التالي:

– الموضوع الأوّل: مداره على أسئلة خمسة طرحت على أركون انطلاقاً من المشكلات التي أفرزتها ندوة “الدين والمجتمع” المنعقدة بـ (IEDES) بين سنتي 1988-19899. وبما أنّنا ذكرنا فحوى هذه الأسئلة من قبل فسوف نكتفي ـ تجنّبا للتكرار ـ بالأجوبة التي ساقها أركون بنَفَس نقديّ كعادته:

* يرى الباحث أنّ استعادة السلطة الدينيّة على سلطة المجتمع والدولة في منظومة العقائد واللاعقائد لدى الإسلاميّين ولدى جميع المؤمنين معطى ثابت لا يمكن الالتفاف عليه، وفي ذلك قاسم مشترك بين الإسلام وسائر الديانات الكبرى كاليهوديّة والمسيحيّة (ص 171). وعليه ففكرة أنّ السلطة الدينيّة، بوصفها هيئة لتبرير السلطات وفي مقدّمتها سلطة الدولة، قد أثيرت بُعيد وفاة النبيّ (ت632م)، ولم تبرح منذ ذلك التاريخ الوعي والفكر الإسلاميين. ويذكر أركون أنّه، بسبب هذه السلطة الدينيّة التي تستدعى دائماً إلى السلطة المدنيّة والمجتمع، نشبت مواجهات عنيفة بين السنة والشيعة جعلت المسلمين منقسمين حتّى أيّامنا هذه. فحتّى الدولة المدنيّة الراهنة في أغلب الدول الإسلاميّة تحاول توظيف السلطة الدينيّة الرمزية لإضفاء مشروعيّة على برامجها حتّى تنفّذها، وإن كانت البرامج ذات طابع مدنيّ علمانيّ، مستندة في ذلك إلى العلماء ورجال الدين ليباركوا أعمالها.

* يذهب أركون إلى أنّ الحديث عن تدخّل الدين في التنظيم السياسي وفق السؤال المطروح مجانب للصواب، فبدلاً من ذلك يجب الكلام على تلاعب بكلّ ما هو دين من طرف الفاعلين الاجتماعيين في نطاق “تنافسهم للاستيلاء على السلطة السياسية وممارستها” (ص 183)، لأنّ جميع الحكومات القائمة في المجتمعات الإسلاميّة منذ خمسينيات القرن الماضي تفرد – في الغالب- وزارة تُعنى بالشؤون الدينيّة، لها طاقم تسيير تعيّنه الدولة فتمتّعهم بالأموال والمواقع المتقدمة في المجتمع، وفي المقابل يرفدونها بالمشروعيّة الدينيّة، فيهيمن السياسيّ على الأخلاقيّ والدينيّ في هذا المضمار.

* يقرّ أركون بأنّ علاقة الماركسيّة بالإسلام حللّها قبله مكسيم رودنسون تحليلاً طويلاً. بيد أنّ عمل هذا الباحث الغربي، لا بدّ أن يُستأنف بعد انهيار الأنظمة الشيوعيّة في أوروبا وفي الشرق (ص 186). ففي حالة وضع المثقفين تبدو الصلة بالماركسيّة غير واعية، ولكنّها واقعيّة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار البعد الرؤيوي الطوبوي الذي يميّز الخطاب الماركسي (اضمحلال الفقر- العدالة الاجتماعية- الإخاء..).

ممّا لا شكّ فيه أنّ المؤمنين المسلمين والمسيحيين يرفضون المقدّمات الفلسفيّة في الماركسيّة لتعارضها مع مبدأ الإيمان بالغيب والمطلق. ولكنّ المؤمنين المناضلين والبروليتاريين يلتقون في الأمل نفسه بخصوص انتظار اكتمال “العهد الموعود” بحلول العدالة المطلقة.

* يرى أركون أنّ إعادة بحث الوضعيّة المنهجيّة في العلوم الاجتماعية ومراجعة طرائق التفكير في تحوّلات المجتمعات المسلمة من الضروريات الملحّة اليوم، ومن هذا المنطلق لا بدّ أن تحفر العلوم الإنسانيّة في صميم التجربة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وخاصة الثقافية الأنثروبولوجيّة حتى تحسن فهم البنى العميقة لهذه المجتمعات والحركات الإسلاميّة المتزايدة الانتشار.

* إنّ تصوّر أركون للعلمانيّة يبلغ مبلغ الحذر من “العلمانيات على آفاق دينيّة” التي تحدّث عنها “هانز كنغ”، بل يصل به الأمر إلى حدّ نبذها. ومن هذه الأرضيّة النقديّة يسعى أركون إلى شقّ طريق جديدة في هذا الصدد تقوم على الدراسة المقارنة لتخطّي “جميع منظومات إنتاج المعنى ـالديني والعلماني- التي تحاول أن ترفع المحلّي والتاريخي الجائز والتجربة الخاصة إلى الشامل، والمتعالي، والمقدّس الذي لا رجعة عنه”، على حدّ قول أركون (ص 180)، وعلى هذا الأساس يراجع الرجل الفكر العلمانيّ الغربيّ مراجعة علميّة نقديّة، معتبراً أنّ علماء الاجتماع والسياسة هم الأقدر على التصدّي لمسألة الإقصاء المطلق لكلّ ما هو طائفيّ، لا في المجتمعات الغربيّة فحسب، وإنّما في المجتمعات المسلمة أيضاً.

الموضوع الثاني: الأصول الإسلاميّة لحقوق الإنسان

يرى أركون أنّ الإسلام المعاصر- شأنه في ذلك شأن المسيحيّة واليهوديّة – ما انفكّ يبرز أنّ القرآن وتعاليم محمّد هما المهد الأصليّ لثقافة حقوق الإنسان. فكأنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان استلهم من هذا المعين الدينيّ، لذلك لا بدّ من مناقشة هذا التصوّر في ضوء العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والقانونيّة، وعليه يمكن تحليل قضيّة حقوق الإنسان بحسب التصوّر الإسلاميّ بالتفكير في النقطتين التاليتين:

– ما الدلالة التي يمكن أن تمنحها اليوم فكرة الأصل الإلهيّ حصراً لحقوق الإنسان؟ وكيف نتعامل مع ذلك التأكيد الفلسفيّ الذي يرى أنّ الإنسان يكتسب حقوقه بنضاله الاجتماعي والسياسي وعبر التقدّم الثقافي دون أن يكون مرتهناً إلى قوى غيبيّة يستمدّ منها حقوقه؟

– إلى أيّ اتّجاه فلسفيّ ينبغي أن نوجّه البحث عن أصول حقوق الإنسان وضمانات تطبيقها اليوم؟

الموضوع الثالث: الدول والأمم وحقوق الإنسان

يقدّم الخطاب الإسلاميّ حقوق اللّه (الفروض الشرعيّة الخمسة: الشهادة والصلاة والزكاة وصيام رمضان والحجّ إلى مكّة لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً) على حقوق الإنسان، لذلك فاحترام حقوق اللّه يؤدي بالضرورة إلى احترام حقوق الإنسان، كأن تكفل الزكاة حياة كريمة للفقراء. بيد أنّ الحقوق المحدّدة على هذا النحو داخل الميثاق الأساسيّ بين الخالق والمخلوق تشمل بدرجة أولى المؤمنين المشكّلين لجماعة روحيّة، ثمّ تمسّ من جهة الإمكان جميع النّاس بقدر استعدادهم للدخول في هذا الميثاق الدينيّ، ممّا يجعل مثلاً القسمة بين مؤمنين وكفّار في رحاب الدولة المسلمة القائمة تطرح أكثر من سؤال حول كونيّة حقوق الإنسان في الإسلام: كما أنّه داخل الأمّة نفسها نجد بعد الفتنة الكبرى انشطاراً أكبر أفرز جماعات متنافسة (السنّة والشيعة والخوارج)، وكلّ جماعة منها “تدّعي احتكار الحقّ، (الحقيقة والحقّ) الذي يدير شؤون أعضاء الجماعة “المستقيمة الرأي” (الأرثوذكسيّة) المثاليّة في علاقاتهم، في[كذا] الدول، وعلاقاتهم باللّه” (ص 187) والذي زاد الطين بلّه في ما يتعلّق بحقوق الإنسان داخل الأمّة المسلمة ذاتها وجود اختلافات مهمّة بين الإنسان الحرّ والرقيق والمرأة والولد فضلاً عن أنّ أهل الكتاب الذين هم في وضع الذمّيين الذين تحميهم الحكومة الإسلاميّة شريطة أن يدفعوا الجزية إنسانيّتهم رهينة أداء الضريبة، زد على ذلك أنّ المشركين هم خارج الضمانات التي تكفلها الشريعة الإسلاميّة، ومن ثمّ فالتفكير في حقوق الإنسان المحضة والكونيّة لم تثره سوى التشريعات الوضعيّة.

الموضوع الرابع: الأخلاق والسياسة في الإسلام الحالي

يرى أركون أنّ الإسلام الحالي يدهش جميع المراقبين بحدّة تعبيره السياسي؛ بمعنى أنّ هذا الخطاب له بعد سياسي نضالي، يدعونا إلى البحث عن أسس أخلاقيّة وفلسفة سياسيّة لهذا الخطاب تكشف عن قيمه ومدى توطّدها.

إنّ مسألة الخلط بين الروحيّ والزمنيّ، وبين الدينيّ والسياسيّ، هو خلط يقدّم بعناد من قبل الإسلام الحالي على أنّه سمة خاصّة بالإسلام. والملاحظ حاليّاً انحسار الشواغل الأخلاقيّة في الفكر الإسلاميّ، وهي حقيقة جديرة بالتسجيل والتحليل، فقد اختفى البحث اللاهوتي والتفكير الأخلاقي من الحقل العقليّ المسلم “منذ حلّ التلقين المدرسي وفكر المحافظة على “استقامة الرأي” (الأرثوذكسيّة) محلّ المناظرات المثمرة في الفترة الكلاسيكية” (ص 210).

ويذهب أركون إلى أنّ العمل الذي يقوم به العقل الفلسفي والعلمي كي يأخذ الدين على عاتقه ويحفظه من الانحراف عن مقاصده السامية عمل انقطع في الإسلام مع ابن رشد (ت 595هـ) وابن خلدون (ت808هـ) والشاطبي (ت672هـ)، لهذا فالإسلام الراهن لا يستند إلى مكاسب الفلسفة والنظر العقلي في أمّهات قضايا المسلمين. وحتّى في المستوى الأخلاقي ما يزال الفكر الإسلامي المعاصر يستخدم مفهوم الكليّة الأخلاقيّة المستمّد من القرآن، وخاصّة من السلوك الأخلاقيّ، مثلما تجسّد في شخص الرسول وصحابته، ويعتبرها المرجع الأخلاقي للمسلم المعاصر، والحال أنّ هذه المرجعيّة المثاليّة شكّلها المتخيّل الجماعي والرصيد الرمزي الأسطوري حول إسلام البدايات والشخصيات التي أقامت تجربة الحكم في المدينة.

الموضوع الخامس: راهن الثقافة المتوسطيّة

إنّ التعمّق في معرفة الثقافات المحليّة المتوسّطيّة والاتّجاهات الشموليّة التي أثّرت فيها يقتضي منّا في الوقت الراهن التفكير في بناء أربع وجهات بحث لتحصيل معرفة حديثة عن الثقافة المتوسّطيّة على النحو التالي:

– جدليّة القوى والبقايا: وهي تسمح بتصحيح المنظورات التاريخيّة والسوسيولوجية والفلسفية للثقافات ولتقاليد الفكر المرتبطة بالمجال المتوسطي (ص 233).

– الدراسة المقارنة: يجب أن تمتدّ الدراسة المقارنة بخصوص ثقافة المتوسط إلى اللاهوت والفلسفة والقانون والأعمال التاريخية والفولكلور والعقائد الدينية والشعائر وبنى القرابة؛ بمعنى أن ندرس مختلف أصعدة تجلّي الثقافة في نطاق لغويّ موصول بالمتوسّط.

– التوتّر المبدع بين اللغة والتاريخ والفكر: ويتطلب ذلك دراسة ثقافات المتوسط بالانكباب على دراسة الوثائق والمخطوطات والنقوش باللّغات القوميّة لهذه الشعوب، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى الجانب الأوروبي من المتوسط أم بالجانب العربيّ الإسلامي، وهنا يمكن الاستئناس بمكاسب علوم الإناسة والتاريخ والاجتماع للوقوف على ثراء ثقافة المتوسط، وهذا الأمر يستدعي القيام بأعمال ميدانيّة في هذه المناطق.

– التوتّر التربوي بين العقلاني والتخيّل: نعني هنا البحث في وجوه التكامل بين العقلاني والتخيّل بوصفهما وجهين مترابطين في كلّ فعل معرفيّ يقوده الفكر. فحين نتحرّر من التصوّر الثنائي الذي أقام حواجز بين الفكر والخيال والحقيقة والمجاز والعقل والأسطورة إلخ.. يمكن أن نمنح أنفسنا الوسائل الفكريّة المناسبة لإعادة تفسير تراثنا المتوسطي وفهمه.

وهكذا يحتاج راهن الثقافة المتوسّطة إلى ربطه بأصوله التاريخيّة الغابرة حتّى نفهم الأبنية السوسيولوجيّة والأنثربولوجيّة التي قام عليها قديماً وما تزال فاعلة في حياة شعوبه اليوم، وذلك بدراسة العقائد القديمة والشعائر والأعراف التي أنتجت هذه الثقافة المخصوصة في العالم، بل إنّ بعض أنماط السلوك لدى سكان المتوسّط لا يمكن تمثّلها خارج دائرة الثقافة الرمزيّة القديمة الراشحة بالخيال التي أنتجتها وضمنت أسباب استمرارها إلى حدّ الآن في كثير من التعبيرات الاحتفاليّة لاسيّما الجماعيّة منها.

4- قراءة تأليفية نقدية في الكتاب:

لم يفتح كتاب أركون نافذة واحدة على الإسلام، بل فتح نوافذ عديدة تتصلّ بالإسلام وقضاياه ماضياً وحاضراً، ومنها النصوص المؤسسّة لهذا الدين (القرآن والسنة) وكيفيّة تقبّلها والتعامل معها عند القدامى والمعاصرين خاصة أصحاب الحركات الإسلاميّة والمستشرقين، ومنها التساؤل عن وجود معرفة علميّة عن الإسلام في الغرب، ومنها البحث في معاني كلمتي “إسلام ومسلم”، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كلمات “تنزيل” و”قرآن كريم” و”سُنّة”. فضلاً عن المسائل الكثيرة المثارة مثل إشكاليّة الجماعة الإنسانيّة المثاليّة من منظور الإسلام ومن قبيل وضعيّة المرأة في المجتمع المسلم قديماً وحديثاً، ومن نحو مسألة العقائد في الإسلام ومسألة الوظيفة الكهنونتيّة التي يمكن أن توجد في الإسلام مجسّمة في القربان (نحر الخروف) أثناء أداء مناسك الحجّ، لأنّ هذا الصنيع فيه ضرب من ضروب الوساطة في تقدير أركون بين المسلم وربّه. يضاف إلى ذلك كلّه طرح أسئلة جديرة بالنظر والدراسة حول العلاقة بين السلطة الروحيّة والسلطة السياسيّة في الإسلام، وفي خصوص كتابة القرآن وكتبته وزمن كتابته والمنتفعين من وضعه في مصحف، هو في نهاية الأمر المدوّنة الرسميّة المغلقة التي تلزم المسلمين بقراءة أحاديّة لهذا النصّ المنفتح في أصله على معان متعدّدة. علاوة على إثارة صلة الإسلام بالعلوم وبالفلسفة ومنزلة التصوّف في الإسلام وبواعث انتشاره وقضيّة مفهوم الشخص في الإسلام.

ولقد تناول أركون في القسم الثاني من كتابه بمنطق السؤال الأكاديمي مواضيع إسلاميّة راهنة كموضوع حقوق الإنسان وأصوله الإسلاميّة وموضوع الدول والأمم والأحزاب وحقوق الإنسان وموضوع الأخلاق والسياسة في الإسلام الحالي وموضوع واقع الثقافة المتوسّطية اليوم التي تحتاج إلى بحوث وحفريات عميقة تكشف النقاب عن خصوصيّة هذه الثقافة التي تضرب بجذور عميقة في تاريخ شعوب المنطقة الزاخر بالطقوس والشعائر والأعراف والأساطير والرموز الدينيّة التي مازالت تفعل فعلها في حياة بعض سكّان المتوسّط خاصة “القبايل” الأمازيغ بالجزائر. وهذا المشروع العلميّ الموصول بدراسة ثقافة المتوسّط يقتضي تضافر اختصاصات شتّى مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإناسة وعلم اللّسانيات.

في الواقع، حرص أركون في هذا الكتاب على طرح أسئلة كثيرة تتعلّق بالإسلام وبحياة المسلم المعاصر متسلّحاً بثقافة دينيّة وتاريخيّة واسعة وبمكاسب العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الحديثة، وقد مكّنه ذلك من الخوض في مسائل تعتبر أبوابها موصدة، خاصّة من منظور رجال الدين والفقهاء وعلماء الإسلام. بيد أنّه لم يبن عن موقفه بوضوح وصراحة يقتضيهما منطق البحث الأكاديمي عندما تحدّث عن القرآن، إذ كان يصف هذا الكلام المنزّل بالخطاب دون أن يطلق عليه عبارة نصّ تاريخيّ، وهي العبارة المناسبة لما تدور عليه أفكاره حول طبيعة هذا النصّ المقدّس في الثقافة الإسلاميّة فضلاً عن البعد الانتقائيّ الاجتزائي في تعامل أركون مع القرآن في مسألة وضعيّة المرأة في الإسلام؛ فهو لم يذكر إلاّ الآيات الدالة على دونيّة المرأة في المنظومة التشريعيّة مبرّراً ذلك بكون الإسلام لا يريد أن يحارب أعرافاً جاهليّة راسخة حول منزلة المرأة يرفضها المجتمع القبلي السائد آنذاك، متجاهلاً مثلاً الآية التي تدين وأد البنات، ومن ثمّ تنقض مكانة دونيّة كانت عليها المرأة في الأعراف الجاهليّة. زد على ذلك النزعة اليقينيّة التي وسمت خطابه عندما يدلي بدلوه في القضايا التي يعالجها، وكأنّ ما يقوله أركون في شأنها هو القول الفصل، على حين أنّه يتعامل مع آراء غيره من أرباب الاختصاص الأكاديميّ بحسّ نقديّ ونظر عقليّ، ومن ثمّ نقف على مفارقة علميّة تحكم خطابه فيصبح اجتهاده في معالجة الإسلام وقضاياه بمثابة الأسيجة المعرفيّة التي لا يأتيها الخطأ من بين أيديها ولا من خلفها، وهو الباحث الذي سعى – ما وسعه جهده – إلى مراجعة الثوابت وتفكيك الأسيجة المعرفيّة طالما أنّ المعرفة الإنسانيّة نسبيّة ومحكومة بقانون التغيّر والتطوّر. يضاف إلى البعد اليقينيّ الذي يميّز كلام أركون على أفكاره وأعماله وقوفنا على نزعة التعالي والتهكّم بآراء غيره من الباحثين والنقّاد والمفكرين، ذلك أنّه في أغلب المناسبات التي يذكرهم فيها في هذا الكتاب يقلّل من شأن اجتهاداتهم وأعمالهم، يستوي في ذلك الجامعيّ المختصّ من العرب والغرب ورجل الدين والمفكر المسلم التقليديّ. فهؤلاء في نظر أركون يحشرون في خانة واحدة، لذلك يبدو أنّه يستعيد مفهوم “الفتوحات” الإسلامية في مجال نشر الدين مستخدماً إيّاها في سياق الحديث عن بحوثه العلميّة بوصفها “فتح الفتوح” لا في الفكر الإسلامي فحسب الذي درس الإسلاميات والفلسفة والتاريخ، وإنّما في الفكر الغربي الحديث برمّته، وحسبنا هذا المقطع من خطابه الوارد في الصفحة 122 من هذا الكتاب “وبما أنّني كنت أدرّس في السوربون منذ 1961 أمكنني أن أشهد على لامبالاة زملائي الفلاسفة، بتدريس الفلسفة العربية”، إذن انتبه أركون – بحسب المستخلص من كلامه- دون غيره من الباحثين إلى أهميّة دراسة الفلسفة العربية بروح علميّة معاصرة لذلك لا ينفكّ يحيل على أعماله باعتبارها سبقاً في هذا المجال البحثيّ أو ذاك، وآية على هذه النزعة المتعالية في خطابه قوله: “كنت قد شرعت بتعريف لهذه المنظومة، في دراستي “الإسلام في التاريخ” (مغرب- مشرق)” (ص 155).

فأغلب المواضيع المطروقة في الكتاب هي من اجتهاد أركون الشخصيّ. لذا فهو يتجاوز دوماً تقصير غيره في تناول موضوع من المواضيع على نحو التقصير الذي شمل نقد المنظومة المعرفية الإسلامية، إذ يقول أركون في هذا الصدد: “لقد حسبتُ حساب هذا التقصير، فحاولت أن أظهر أنّ ظاهرة الوحي، لم تعد مشكلة مقصورة على اللاهوتيّين” (ص 164).

وممّا يؤاخذ عليه هذا الباحث أيضاً عدم التزامه بالإجابة عن بعض الأسئلة التي طرحها أو طرحت عليه من قبيل ما نجده في جوابه عن السؤال الأوّل الموجّه إليه في الصفحة التاسعة والستين بعد المئة، إذ لم يجب عن القسم الأخير من السؤال، بل إنّ جوابه عن بقيّة السؤال فيه كثير من المواربة و”الديبلوماسية”، فكثيراً ما يلمّح أركون إلى رأيه دون الإفصاح عنه بطريقة علنية واضحة على غرار عدم تنصيصه باللّفظ الصريح على أنّ القرآن ليس نصّاً مقدّساً، بل هو نصّ تاريخيّ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حقوق الإنسان في القرآن، فهي غير موجودة بالشكل الذي نفهمه اليوم، لأنّ القرآن لا يتحدّث عن حقوق الإنسان، وإنّما يتحدّث عن حقوق اللّه على المؤمن، لكن أركون لم يقل ذلك بكلّ وضوح تمليه شروط البحث العلميّ خوفاً ربّما من ردّ فعل المسلمين خاصّة الغلاة المتطرفين منهم، وهذا الشكل في التعبير عن الأفكار يتجلّى بوضوح في تراجعه عن القول بأنّ القرآن نصّ أسطوري في موضع سابق من الكتاب، لذلك يوضّح المقصود من الأسطوريّ في موضع آخر من الكتاب على هذا النحو: “هناك تحليلات للقرآن مواضيعية وتصوّرية، لكّنها لا تفلح في استنفاد شبكات الارتباط التي تقوم بين المفردات الكثيرة التكرار، والتي لا تني تغتني باستعمال الاستعارة والرمز والأسطورة (واستخدام أسطورة يختلف عن الأسطورة الميثيولوجية)” (ص 67) علاوة على عدم إعلانه بطريقة شفّافة عن اعتناقه للعلمانية الغربية التي نقلت المجتمعات الأوروبية المعاصرة إلى مصاف التقدّم والرقي وأخرجتها من سلطة اللاهوت والغيب إلى سلطة التاريخ والإنسان، لهذا كان ينوّه بما فعله نموذج أتاتورك العلماني من تقدّم للشعب التركي، ومن ثمّ يتحوّل أركون من حيث لا يشعر إلى داعية من دعاة العلمانية والتقدّم، وينخرط في الخطاب النضالي من أجل الاعتصام بحبل العلوم والمناهج الغربية الحديثة، فكأنّها وحدها هي التي ستنقذ العرب والمسلمين من التخلّف والجهل والضلال، وبذلك وقع أركون في ما عابه على الفكر الإسلامي من نزعة نضالية جهادية دعوية طبعت خطابه، ومن ثمّ سقط في الإيديولوجيا التي كتب كتابه هذا من أجل نقدها ومحاربتها، ممّا جعله أحياناً ينساق إلى لغة المفاضلة أثناء مقارنته بين المجتمعات الغربية المعاصرة ونظيراتها العربية الإسلاميّة، مع أنّ لغة العلم تقتضي الحياد والوقوف على مسافة واحدة أمام المواضيع المدروسة. ثمّ إنّ الدافع الذاتيّ في دراسة مبحث من المباحث قد يكون الموجّه الرئيس في عمل أركون على غرار إلحاحه على ضرورة إعادة النظر في ثقافة المتوسّط اليوم، ذلك أنّ وراء الباعث العلميّ على الخوض في هذا الموضوع سبباً ذاتيّاً يحاول إخفاءه أركون خلف اعتبارات علميّة أكاديميّة، وقوام هذا السبب رغبة الباحث ذي الأصول المتوسطيّة القبائليّة في دراسة أصوله الثقافيّة الغابرة التي تستعاد اليوم في شكل بعض الشعائر الاحتفالية انطلاقاً ممّا لاحظه من طقوس وممارسات جماعية في منطقة “القبايل” بالجزائر مسقط رأسه.

هكذا وقفنا على بعض المواطن الجديرة بالنقد في كتاب أركون انطلاقاً من تحليل خطاب المفكّر نفسه مؤكدين في السياق ذاته إمكانية نقد كتاب الرجل من زوايا أخرى، لم ننتبه إليها في هذه المحاولة النقديّة المتواضعة.

خاتمة:

يتحلّى صاحب كتاب “نافذة على الإسلام” بمزايا علميّة كثيرة: كسعة الاطلاع على الديانات والثقافات القديمة خاصّة الموصولة بحوض البحر الأبيض المتوسّط ومعرفة مختلف الفرق والمذاهب الإسلاميّة وحسن قراءة المصادر العربية الإسلاميّة القديمة والتشبّع بثقافة العصر الحديث وبمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعيّة. هذا التكوين الجامع بين القديم والجديد مكّنه في هذا الكتاب من الحفر في مسائل عديدة في الفكر الإسلامي التقليديّ من المحرّمات والكبائر الموفية بصاحبها إلى الضلال والكفر، لأنّها تمسّ من جوهر العقيدة والإيمان، كأن ندرس القرآن دراسة علميّة بوصفه نصّاً تاريخيّاً أو أن نحلّل أعمال النبي محمّد، باعتباره إنساناً لا شخصيّة مقدّسة متعالية على التاريخ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى آل البيت والصحابة. لذلك يكمن فضل أركون في إخراج هذه القضايا المسكوت عنها إلى دائرة البحث والنقاش وفي إثارة الأسئلة المحرجة في الثقافة العربية الإسلامية.

غير أنّ هذه المزايا الكثيرة في الكتاب المدروس لا تحجب عنّا بعض المواطن الجديرة بالنقد في “نافذة على الإسلام”، من قبيل تعويل الباحث على الحدس والتخمين في معالجة بعض القضايا المطروحة، وهو ما يتعارض مع شروط العلميّة ومن نظير إسقاط نظريّات ومناهج غربية حديثة جرّبت على دراسة الفكر الديني الحديث في أوروبا على الحضارة العربية الإسلامية القديمة، وعدم الجرأة في بيان النتيجة العلميّة المستخلصة كعدم التصريح بتاريخيّة النصّ القرآنيّ وبتبنّي العلمانية الغربية، باعتبارها سّر نجاح الغرب وتقدّمه. فضلاً عن الطابع اليقينيّ الذي وسم أفكار أركون ونتائج بحثه في بعض المسائل، وهو الذي ينقد دائماً الأسيجة المعرفيّة، ممّا جعله يقع في بعض المواضع من كتابه في الدوغمائيّة التي اعتبرها نقيصة لدى غيره من المفكرين، لاسيّما أصحاب الفكر الإسلاميّ التقليديّ، كما أنّ اعتداد أركون بآرائه جعله يبخس قدر أعمال غيره من الباحثين، ويشعر بمركّب التفوّق المعرفيّ معتبراً أعماله العلميّة في بعض المواضع من هذا الكتاب فتح الفتوح في المعرفة الإنسانيّة. يضاف إلى ذلك ما وقفنا عليه من نزعة انتقائيّة اجتزائية في تعامله مثلاً مع النصّ القرآنيّ، إذ يذكر الآيات الدالة على دونيّة وضعية المرأة في الإسلام ساكتاً في المقابل عن الآيات التي تبرز إنسانية المرأة وحقّها في الحياة مثلها مثل الرجل، هذا إلى جانب ما شاب خطابه عن العلمانيّة ومناهج البحث الغربية والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة الحديثة من نزعة انبهارية دِعائيّة حوّلته في بعض الأحيان إلى مناضل يستميت في الدفاع عن مزايا هذه العلوم الغربية الحديثة.

ومهما يكن من أمر، فإنّ هذا الكتاب جدير بالقراءة، قادر على إثارة العقول بما يطرحه من أسئلة خطيرة تمسّ حياة المسلم المعاصر في عالم كثير المتغيّرات سريع الإيقاعات. فَحَسْبُ هذا الكتاب أن يطرح المسائل بجديّة وبحسّ نقديّ، وأن يدعوَ القارئ إلى التفكير فيها، أفلا تكمن قيمة الكتاب الجادّ زمن صدوره في تحريك سواكن القرّاء واستفزاز أذهانهم؟

المصدر: مؤمنون بلا حدود – حاتم بن الهادي السالمي

نافذة على الإسلام

للمزيد من الكتب، زوروا منصة الكتب العالمية

https://old.booksplatform.net/ar/product/the-future-of-islam-in-the-middle-east/

https://old.booksplatform.net/ar/product/muhammad-a-prophet-for-our-time/

This post is also available in: English (الإنجليزية)

TOP