الوصف
الشاعر والناقد شعبان يوسف مشغول دائمًا بالبحث فى المنسى والمهَمش فى تاريخنا الأدبى، وهو فى كل مرة يحاول أن يمنح هؤلاء المبدعين الذين عاشوا على هامش التاريخ الثقافى بعض الحق، بعد أن تمت إزاحتهم عن الصورة، إما بقرارات سياسية نتيجة مواقف معارضة، وإما لأنهم انشغلوا بالكتابة وشُغلوا عن ما حولها، بمعنى أنهم لم يروجوا لأنفسهم بما يكفى، وبما يضمن لهم الوجود المستمر.
وفى كتابه «المنسيون ينهضون» الصادر عن مؤسسة «بتانة» للنشر، يستعرض شعبان سيرة ومسيرة 20 شخصية أدبية لها إسهامات بارزة ومضيئة فى تاريخنا الثقافى والفكرى، وتجمع هؤلاء خصال مشتركة ثلاث: العمل الدؤوب، الإنجاز المهم، وقطعًا التهميش.
يحكى شعبان عن الناقد سيد خميس، الذى باع ميراثه من أجل الثقافة، والذى قدم عبد الرحمن الأبنودى فى ديوانه الأول «الأرض والعيال» الذى صدر عن دار ابن عروس، وهى الدار التى أسسها خميس بعد أن باع ميراثه من أرض زراعية، وجد خميس نفسه فى النقد الأدبى بعد أن بدأ حياته كاتبًا للقصة القصيرة، وانشغل بجانب خاص فى مجال النقد، وهو نقد شعر العامية المصرية: «يبدو أنه وجد نفسه أقرب إلى ذلك المجال لأنه تخصص فى ما لم يبدع فيه نقاد قبله أو بعده، وهو القراءات النقدية لشعر العامية المصرية، وربط نفسه بأبناء جيله الشباب، وأعطى نفسه بشكل مفرط لقضية هذا الجيل».
وجد سيد خميس نفسه قريبًا من أفكار اليسار، فدخل جماعة اليسار الجديد، وبعد فترة بدا لخميس أن بإمكانه التأسيس لماركسية جديدة، تقوم على قواعد مغايرة عن الماركسية المعروفة، وتحاول تلافى أخطائها، وبدأ يدرسها لأبناء جيله، وقال عنه إبراهيم أصلان فى «خلوة الغلبان» إنه كان يقرأ بالعين اليمنى، بينما يعلمهم الماركسية باليسرى. نتيجة تحركات سيد خميس ونشاطاته، اعتُقل فى 1966، مع الأبنودى وسيد حجاب وغالب هلسا وصلاح عيسى، وآخرين، غير أن حضور سارتر للقاهرة واشتراطه خروج كل المعتقلين منح سيد خميس ورفاقه الحرية من جديد.
أخرج خميس كتبًا مهمة؛ مثل «وجوه وأقفية»، وكتابه الآخر المهم «القصص الدينى بين التراث والتاريخ»، إلى جانب كتب أخرى لم يُعَد نشرها وتاهت ونسيها المثقفون ودور النشر، وذهب سيد خميس فى سفر أبَدى فنسوه هو الآخر.
كان غريبًا أن يعادى مثقف ومفكر كبير مثل عباس العقاد شابًّا صغيرًا اسمه عباس خضر، ويهدد أحمد حسن الزيات بأنه لن يكتب مجددًا لمجلة «الرسالة» ما دام فيها الولد «الهلفوت»، بحسب وصفه لخضر. ولكن شعبان يوسف يرجع السبب إلى أن المجلة التى كانت تبيع ستين ألف نسخة، ليس فى مصر فقط بل فى العالم العربى كله، بإمكانها أن تمنح شابًّا صغيرًا شهرة ومقروئية تضعه فى مقارنة مع العقاد، خصوصًا أن عباس خضر كان يشير فى مواضع كثيرة إلى مسائل تضايق العقاد، ومنها أنه لم يكمل تعليمه مثلًا. خشى العقاد أن تهتز صورته الأسطورية فى ذهن القارئ العربى. فى كتابه «ذكرياتى الأدبية»، حكى خضر عن كل الوقائع الثقافية والأدبية التى عرضت فى حياته العامة، بينما سرد فى كتابه الآخر الممتع «خطى مشيناها» حياته الأولى فى الطفولة والصبا والشباب، وحتى تخرجه فى كلية دار العلوم. ويقول عنه شعبان: «أعتقد أن عباس خضر من أبدع مَن كتبوا السيرة الأدبية».
ويعتبر كتابه «القصة القصيرة فى مصر.. منذ نشأتها حتى سنة 1930» حجر أساس فى مجال الدراسات الأدبية والتاريخية، ومرجعًا لكل مُهتم بهذا الفن وتاريخه الطويل.
«صحفيون معاصرون»، «أدب المقاومة»، «قصص أعجبتنى»، «غرام الأدباء»، كلها عناوين لكتب عباس خضر، الذى لم يكتفِ بكونه صحفيًّا أو كاتبًا فقط، بل مارس الإبداع أيضًا، وله عدة مجموعات قصصية وأربع روايات انشغلت بالتاريخ وعالجته بشكل جدلى.
ويتعجب شعبان يوسف من عدم التفات أحد من النقاد إلى هذا الرجل، وبخلاف نقاد قلائل جدا، منهم فؤاد دوارة، فإن تراث الرجل ومنجزه لم يحالفه الاهتمام على الإطلاق، وكان لابتعاده عن الأضواء وعدم إجادته تسويق أعماله دور أساسى فى نسيانه: «كان يكتب فقط دون أن يروج لكتاباته».
فى نظر شعبان يوسف، فإن الناقد الراحل «على شلش» كان نموذجًا للباحث والمؤرخ الأدبى، الذى حمل على عاتقه الاضطلاع بأعباء التأريخ الثقافى والفكرى والأدبى والفنى لظواهر وأحداث وألوان أدبية وشخصيات خلال القرن العشرين، وهو يفعل ذلك كله بمجهود عصامى، دون أن تتولى جهة ما تمويل مشروعه الفكرى المهم، غير أن مصيرًا سيئًا انتظره حيث التهميش والنسيان.
ويرجع شعبان أسباب انزواء علِى شلش إلى عوامل ثلاثة: الأول هو الانحيازات السياسية، خصوصًا أن شلش عاش فى فترة تعج بالاستقطابات الحادة على مدى عقدَى الخمسينيات والستينيات، ولأنه كان مُستقلا وغير مُنتمٍ لأى من هذه التيارات، فإنه لم يجد مَن يستند إليه ومَن يرعاه بخلاف آخرين وجدوا ذلك، وربما كانوا فى نصف موهبته، ومنهم عديمو الموهبة، ولكن الحظ كان متوفرًا لديهم. العامل الثانى هو اعتقاله فى 1967، بتهمة يصفها شعبان بالعبثية، وهى التخابر مع دولة أجنبية، ليقضى عامين فى السجن.
أما العامل الثالث، وإليه يعود ربما جزء كبير من تهميش علِى شلش، فهو ما يتعلق بأحواله المادية، إذ وجد نفسه فى العشرين من عمره مسؤولاً عن أسرة كبيرة تركها والده، ليعمل شلش فى مجال الترجمة، وتتفق معه مطبوعات «كتابى» على ترجمة وتلخيص الكتب والروايات الأجنبية، ولكن دون نشر اسمه. كانت موافقة شلش للحصول على مصادر الدخل المطلوبة منه، إلا أن هذا المجهود الضخم المنشور دون اسمه ترك أثرًا نفسيًّا سيئًا داخله، وإحساسًا بالمرارة. يصف شعبان يوسف، فى أحد فصول الكتاب، الناقد أنور المعداوى بـ«الناقد الضرورة» الذى كان ظهوره مُلحًّا وضروريًّا لطبيعة المرحلة التى ظهر فيها، حيث لمع لدرجة أن بات ظاهرة مثيرة للإعجاب وللغيرة أيضًا، حيث كان يكتب دون حسابات اجتماعية إلى الحد الذى اتهمه فيه معاصروه بأنه جاء لتحطيم المبدعين والنقاد خلال تلك الفترة. مع حلول عام 1945، بدا أنور المعداوى نجمًا ثقافيًّا، وتبلورت هذه النجومية فى مجلة «الرسالة»، واستمرت بعدها لعشر سنوات، شهدت الوهج الإبداعى والنقدى للمعداوى، الذى انضم إلى كتيبة المغضوب عليهم مع إحكام تنظيم الضباط الأحرار سيطرته على إدارة شؤون البلاد، ونجاحه فى إصابة بعض المبدعين بما يسميه شعبان يوسف «السكتة الإبداعية».
لم ينشغل المعداوى بالكتابة عن زعماء يوليو 1952، ولم يذكرهم على الإطلاق فى كتاباته، ومع الجو العام الجديد فكّر المعداوى فى تأسيس مجلة «الآداب» مع سهيل إدريس، وصدر العدد الأول فى 1953. لم ينسَ المعداوى، رغم النجاح، أنه مستبعد ومغضوب عليه من بلده، وغير مُرحب بكتابته فى مجلاته وصحفه، التى شهدت ميلاده ناقدًا ومفكرًا، فأصابه ضغط الدم، وفى الوقت نفسه فشلت علاقته العاطفية مع الشاعرة فدوى طوقان، وبحسب شعبان، فإن يوسف السباعى ترصده بشكل كبير ومارس عليه نوعًا من الاضطهاد، وفى صيف 1963، أصيب المعداوى بأزمة نفسية، سافر بعدها إلى قريته «معدية مهدى» بكفر الشيخ: «اختفى ما يقرب من تسعة أشهر كاملة، أقام خلالها فترة بالإسكندرية لا يقرأ ولا يتابع أى أحداث ثقافية، ولم ينتبه أحد إلى ذلك الغياب وربما استحسنه آخرون».
(نقلاً عن المقال)