الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
تشهد الفترة الممتدة منذ مطلع عام 2011، وحتى الآن، حالة من الفوران السياسي والاجتماعي التي تساهم بشكل تدريجي في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط؛ سواء على المستوى الداخلي، حيث الخلط بين تعزيز مطالب الإصلاح وبين تفشي النزاعات العنيفة، أو على المستوى الإقليمي، حيث تدفع هذه التطورات إلى إعادة تشكيل توازن القوى بين الدول العربية داخل الإقليم نفسه، وبينها وبين الدول المجاورة.
وفي خضم تلك التفاعلات النشطة في العالم العربي، يلاحظ أن الاتحاد الأوروبي لم يتمكن من لعب دور قوي ملحوظ منذ بداية أحداث “الثورات” العربية؛ وهو ما دفعه إلى ضرورة إعادة النظر في بعض المبادئ الأساسية لمنظوره الاستراتيجي في التعامل مع إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
في هذا الإطار صدر للكاتب ريتشارد يونجس Richard Youngs، كبير باحثين في معهد كارنيجي للسلام الدولي وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة ووريك، كتاباً تحت عنوان: “أوروبا في الشرق الأوسط الجديد: فرصة أم إقصاء؟”، يشرح من خلاله استجابة الاتحاد الأوروبي لأحداث “الربيع” العربي منذ أواخر عام 2010 وحتى أوائل عام 2014، ويوضح إلى أي مدى تغيرت سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه إقليم الشرق الأوسط خلال هذه الفترة، علاوة على بحث تأثير السياسات الأوروبية على مساعدة أو إعاقة الإصلاحات الديمقراطية بالمنطقة، وتأثير “الربيع” العربي على المصالح الأوروبية الاقتصادية والأمنية، وتوضيح العوامل المحددة لخيارات الاتحاد الأوروبي تجاه “الربيع” العربي.
سياسات الاتحاد الأوروبي والثورات العربية
يشير الكاتب إلى أن خفوت دور الاتحاد الأوروبي في بدايات “الربيع” العربي لا يقلل من أهمية التحديات التي فرضتها التغيرات المتسارعة في الشرق الأوسط؛ فعلى الرغم من أن أوروبا لم تلعب دوراً رئيسياً في إثارة هذه “الصحوة العربية”، فإنه قد فُرض عليها إعادة رسم خطوط استراتيجياتها الجديدة للاستجابة لعمليات التغيير المستمرة في العالم العربي؛ خصوصاً أن المحتجين في تلك الدول حملوا الأفكار نفسها التي أقرها والتزم بها الاتحاد الأوروبي في الشراكة الأورومتوسطية عام 1995، والتي أُجهضت نتيجة ضعف الإرادة السياسية لتنفيذها في الجانبين الأوروبي والعربي، مما دفع إلى ضرورة إيجاد دور أكثر فاعلية في إطار العلاقات بين أوروبا والشرق الأوسط “الجديد”.
ويرتبط فهم تطورات سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه دول إقليم الشرق الأوسط، من وجهة نظر الكاتب، بخمسة عوامل أساسية، وهي: 1- عملية صنع القرار التعاونية بين كل من دول أوروبا والشرق الأوسط. 2- تصدير قواعد الحكم الأوروبية لدول الإقليم. 3- العلاقة مع الفاعلين المدنيين من غير الدول. 4- الحسابات الواقعية للمصالح الاستراتيجية الخاصة للطرفين. 5-طبيعة التلاحم الأوروبي مع القوى الصاعدة الأكثر نفوذاً.
وقد لعبت كل تلك العوامل دوراً ما في العلاقات الأورومتوسطية، بيد أنها تغيرت من حيث طبيعتها بعد عام 2010، حيث يشير الكاتب إلى أن سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه دول “الربيع” العربي قد اتخذت منحى أكثر إصلاحية؛ فتم تطوير العديد من السياسات الأوروبية من الناحيتين الكمية والكيفية، بهدف دعم عمليات الإصلاح بشكل أكثر فاعلية وحساسية؛ بما يرسم مساراً متزناً يتزامن مع طموحات الإصلاحيين.
فقد أصبحت أوروبا أكثر حيادية في تعاطيها مع الرؤى المختلفة للإصلاح السياسي لجميع الفاعلين بما فيهم الفاعلين الإسلاميين، بالإضافة إلى قدرتها على الاستماع لوجهات النظر العربية المحلية فيما يتعلق بشكل الدعم الخارجي المفضل لهم. كما اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً أكثر مرونة بشأن الاقتصادات الليبرالية الجديدة؛ محاولاً بذلك دحض أحد أبرز الانتقادات التي وُجهت له سابقاً بشأن الضغط الذي يمارسه على دول جنوب المتوسط.
الثورات العربية والمصالح الأوروبية
يشير يونجس إلى أن المحاولات الحذرة لتوازن المصالح أكدت أن دعم الاتحاد الأوروبي للتغيير كان أقل من المتوقع. ويصف استجابة الاتحاد الأوروبي التغيير الذي حاق بالعالم العربي بـ”الفأر المتجمد” أمام تغيرات غير متوقعة؛ إذ لم تجتهد أوروبا في استباق الإصلاح، بل إنها أُجبرت على التعاطي معه كضرورة لاستمرار العلاقات لا كفرصة يمكن استثمارها. ففيما يتعلق بتطوير مصالحها الخاصة، تعاملت أوروبا مع “الربيع” العربي على أنه “خليط متذبذب بين الفرصة والمخاطرة”، واستمر هذا المنطق الهش طويلاً، بما يؤكد حقيقة أن “الربيع” العربي لم يكن له تأثير واضح، أحادي الاتجاه على المصالح الأوروبية المحورية.
ويدحض الكاتب ما أُثير بشأن أن “الربيع” العربي كان بمنزلة رفض حاسم للغرب، مؤكداً أن المصالح التجارية وأمور الطاقة ومحاربة الإرهاب والمصالح الأمنية كلها تخضع في النهاية إلى حسابات تحويلية وتعويضية، فلم يُعِق “الربيع” العربي المصالح الأوروبية، بل إن النقاشات الاستراتيجية المُطوَّلة بين الدول الأوروبية وصانعي السياسة هي التي أنتجت تلك “الاستراتيجيات الحذرة” في التعامل مع إقليم الشرق الأوسط.
كما أن تأثير السياسات الأوروبية على الشرق الأوسط بشكل عام كان محدوداً، فلم يكن الحضور الأوروبي كمان كان في العقود الماضية، فمع أنه كان أقوى في ليبيا، إلا أنه كان أضعف في كل من مصر بعد إسقاط نظام الإخوان المسلمين، وفي سوريا مع استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية ضد المواطنين، وهو ما مثَّل خسارة كبيرة للنفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط، كما دفع إلى استمرار الانتقادات المُوجهة للسياسات الأوروبية من جانب القوى المدنية في الإقليم.
محددات الخيارات الأوروبية تجاه الشرق الأوسط
يشير الكاتب إلى أن العوامل الخمسة المذكورة آنفاً تساعد في فهم وتفسير جزء من الاستجابة الأوروبية لأحداث “الربيع” العربي، الأمر الذي يتناقض مع ميل بعض الباحثين لتفسير السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي من ناحية واحدة؛ فدعمَّت العديد من المبادرات فكرة السياسات الأورومتوسطية المشتركة وتشاركية أساليب الحكم، فيما حاول آخرون تعزيز اقتراب تصدير قواعد وترتيبات الحكم الأوروبية لدول الإقليم.
وفي محاولة لضمان استمرار الحيوية المدنية السياسية في الإقليم، سعت البرامج الأوروبية إلى إيجاد محاولات جادة ومتماسكة لتعميق وتوسيع نطاق الروابط مع الفاعلين من غير الدول من المنظمات الاجتماعية، بما زاد من وضوح ملامح ديناميات الحكم العالمية التي ترتكز على المواطن في المقام الأول.
وعلى الرغم من تلك التوجهات، فقد كسبت الدول الأعضاء سيطرة أكبر على سياسات الشرق الأوسط؛ إذ ربطت استجابتها بحالة اللايقين الاستراتيجية للربيع العربي؛ بما جعل سياساتها الواقعية أكثر عقلانية من ناحية، ومكَّنها من إضفاء بعض التعديلات على سلوكياتها بما يتكيف مع المعطيات الجديدة التي فرضتها الأحداث من ناحية أخرى. وباختصار، أصبحت سياسة الاتحاد الأوروبي أكثر تعددية في طبيعتها، وأكثر إنتاجية وتنوعاً في اتجاهاتها داخل إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد أشار الكاتب إلى أن تلك المجموعة من الملاحظات ليست شاملة بالطبع، لكنها تساعد في معرفة إلى أي مدى تغيرت السياسات الأوروبية تجاه الشرق الأوسط بعد عام 2010، وتأثير تلك التغيرات على الاتجاهات المتنوعة داخل الإقليم وكذلك المصالح الأوروبية.
خلاصة القول، إنه نتاجاً للاستراتيجيات الانتقائية التي اتبعتها أوروبا تجاه دول “الربيع” العربي، كان الأداء العام للاتحاد الأوروبي أقل تفاعلاً ونفوذاً وتأثيراً مما كان عليه في العقود الماضية، وهو تطور غير صحي في حد ذاته، سواء للعرب أو لأوروبا؛ وهو ما يتطلب ضرورة تعميق العلاقات مع دول الشرق الأوسط بشكل أكثر وضوحاً وشفافية بعيدة عن المواقف المترددة.
وقد تم توجيه بعض الانتقادات للكتاب المشار إليه، تمثلت أبرزها في أنه يعتمد نطاقاً تحليلياً واسعاً، ويرتكز على عدد كبير من الاقترابات والأسئلة البحثية من خلال العناصر الخمسة التي ذكرها الكاتب، وهو ما يجعل الرؤية غير مُحددَة ومُشتِتَّة للقراء بما يجعلهم يتساءلون حول الغرض الحقيقي من وراء هذا الكتاب، لكن على الرغم من ذلك يظل الكتاب مليئاً بتفصيلات حول مواقف دول الاتحاد الأوروبي من أحداث المنطقة، ويقدم تحليلات مفصلة يمكن قراءتها مرة أخرى حول مستجدات ومتغيرات الدور الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
إعداد: باسم راشد
This post is also available in: English (الإنجليزية)