الوصف
يقولُ المثل الفرنسي «من السهل جداً أن تبدأَ بالثورة ولكن من الصعب أن تنتهي بالسلام». زيادة على ما توصل إليه الفرنسيون لك أن تُضيف ما بات سمةً لمعظم الثورات العالمية، وهو المنعرجات التي تمرُ بها وقد تنتهي إلى عكس ما توخاهُ الثوارُ. وهذا من مفارقات الحراك الثوري.
تُناقشُ الكاتبة الإيرانية مريم مَجيدي في باكورتها الروائية «ماركس والدمية» الصادرة عن المركز الثقافي العربي، مصير الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه. ومن بين الفئات والشرائح الاجتماعية التي اندمجت في تيار الثورة انفردت مجموعة بالهيمنةِ على جهاز السُلطة، وتَمَّ تهميش المُعارضين لهذه النتيجة المَريرة.
وكان اليساريون في مقدمة من طالتهم حملات المُلاحقة والتنكيل، لذا تتبعُ المؤلفة الأيام التي تلت رحيل الإمبراطور انطلاقاً من معاناة أسرتها اليسارية، وتفاقم موجات العنف ضد من لا يدخل تحت عباءة النظام الجديد. وبهذا تبدأُ دورة أخرى من الاستبداد الذي لا يختلفُ عن سابقه، إلا في حلته الكهنوتية، وفقاً لما تقدمهُ الفتاة التي أبصرت النور بعام بعد قيام الثورة، ويُطلقُ عليها اسمُ مريم.
إذ يأتي المشهدُ الاستهلالي بعد الإهداء والعتبات النصية، وهي عبارة عن مثل تيبتي ومقطع من قصيدة ناظم حكمت. مُعبراً عن مَناخ مُتخمٍ بالقهر والنزوع إلى الإلغائية، حيثُ يقبعُ رجل في الزنزانةِ يقاوم الجنون بنقش اسم على الحجر بإبرة خياطة صغيرة.على هذا المنوال يقضي أيامه مؤكداً بفعلته هذه عدم نسيانه للرضيعة مريم التي لم تَكُن إلا كاتبة الرواية.
الذكريات
لا تسيرُ أحداث الرواية وفقاً لخط زمني تصاعدي، بل تتناثرُ ذكريات الراوية على خريطة النص مُرفقة بعض المقاطع بتواريخ مُعينة إذ تشيرُ الراوية إلى اللحظة التي تغادرُ فيها إيران مع الأم بعدما أُرغمت الأخيرة على اللحاق بزوجها في فرنسا. ويهمها التوقف عند تفاصيل الإجراءات المُتَشَدِدة في المطار قبل السماح بالسفر، حيثُ أنَّ التهاون في الحجاب يثيرُ غضب الموظف المُلتحي، إضافة إلى ذلك تضعكَ الكاتبةُ أمام الظروف التي لا تدع خياراً سوى الرحيل، أمام شخصيات خابَ أملهم بالثورة والتهمت عتمة سجن إيفان سني عمرهم.
ويأتي الحديث عن تجربة السجن على لسان «سمعان» الذي قضى ثماني سنوات قيد الاعتقال، والأغربُ في ما يتمُ سرده عن هذه المرحلة هو محاولة إمحاء أثر أصوات المُعارضة وشيطنة الخارجين من مظلة النظام، بإقامة المقبرة باسم (مقبرة الملعونين) تضمُ رفات من كان له حلم، وما اقتنعَ بما رأه من كوابيس ما بعد الثورة.
وفي هذا السياق تستعيدُ الكاتبة شخصية عباس الاسمُ الذي يمرُ عليه المُتلقي في صفحة الإهداء، إذ تتناولُ بداية معرفتها بهذا الشخص عندما كان يزور المنزل الكائن في حي طهرانبارس. لافتةً إلى ما يجب أن يتصفُ به أفراد هذه الجماعة المَحظورة من الصرامة في التكتمِ على مكان تعقدُ فيه الاجتماعات، ومن ثُمَّ تنتقلُ إلى مشهد الأُمِ التي نكبها وقوع عباس في قبضة رجال النظام وما حملته من فردة حذائه التى مُنع من انتعالها. وهذا ما ينطبعُ في ذهن الطفلة ذات السنوات الست. ومن الذكريات التي أوردتها مريم مجيدي في أعطاف عملها عملية دفن الكتب وطمرها تحت التراب، لأنَّ ما يخالف أدبيات النظام يُصنَف ضمن التابوهات الفكرية.
التَمَزُق
شأن مُعظم الكتاب الذين اختبروا حياة المنفى وشغلتهم تحديات الهُوية والبيئة الجديدة، فإنَّ مؤلفة «ماركس والدمية» تكشفُ حالة تمزق البطلة بين هويتين، فهي من جهة يشدها الحنين إلى مكونات الموطن الأول من الأجواء والأطعمة ودفء الأُسرة، ويحتمُ الموقف من جهة أخرى التأقلم مع خصوصيات المُجتمع الفرنسي، وما يعمق أزمتها في هذا الوضع هو حاجز اللغة، الذي يسبب لها الإحراج على مختلف المستويات الحياتية. ويزيدُ من كوابيسها الأمر الذي يستدعي مراجعتها للطبيب النفسي، وبالتالي إن شبح المنفي يندس إلى روح الأُسرة ولا تتمكن أجواء المدرسة فك عقدة الطفلة، بل أصبحت بكماء تفقد التواصل مع أقرانها الطلبة، لذا تنتقلُ إلى الصف الذي تصفه بالمغسل، وهو بمثابة مصفاة مخصص لأبناء المهاجرين.
وما يجمع بين هؤلاء هو الأخوة في المنفى والحنين والبؤس، على حد قول الراوية.
هنا يقفزُ السردُ إلى مرحلة أخرى ويكون المتلقي أمام شابةٍ يافعة تدرسُ الماجستير وتتذكر مغزى الترتيبات المُتبعة في المدارس الفرنسية، التي تهدف إلى صناعة هوية جديدة لمن ينتمي إلى فضاءات غير فرنسية، وذلك ما تسميه بالتطهير. يُذكر أن بطلة الرواية تعاني من صراع اللغات حين تندمجُ مع الفرنسية يطالبها الأبُ بالتمسك بلغتها الأم. وتتواردُ في الرواية اقتباسات من شعر الخيام بالمُقابل نادراً ما توظفُ الكاتبة في متون سرديتها مفردات مُعبرة عن الثقافة الفرنسية، إذ يدور في الفقرة الأخيرة الحوار بين سمعان وابنة اخته مريم حول الفنان الفرنسي بريل، ويسردُ الأول الظروف التي تعلم فيها اللغة الفرنسية، إلى جانب ومضات عن أعلام الفكر الاشتراكي أمثال مكارينكو الذي يمارسُ الأبوان أفكاره عن الملكية الخاصة علميا بإقناع مريم بالتخلي عن الألعاب والدمى للفقراء.
الرحلة
تبدو شخصية البطلة شغوفة بالرحلة والانتقال من مكان إلى آخر ومن المواقع التي تسافر إليها بكين وأسطنبول، كما لا تنقطع عن زيارة طهران وعندما تعود إلى هذه المدينة لأول مرة بعد انقضاء سنوات من التغرب والدراسة والتشرب بالثقافة الفرنسية، ترفض العودة إلى فرنسا وتقع في غرام شاب من بني قومها، وتعشق ندوبا على جسده، كما تعاين مرابع الطفولة برفقة سمعان، فإذا بالمكان الذي كان مدفناً للكتب تحول إلى مبان شاهقة.
ضفْ إلى ذلك ينحسرُ النقاب عن وجه آخر للمدينة تعجُ بحفلات وسهرات صاخبة، غير أن عين الرقيب تظل بالمرصاد للمُخالفين ونعتهم بأوصاف شتى، لكن كل ذلك لا ينفع في نزع رغبة الحياة لدى جيل يتطلع نحـــو أفق جــــديد، ومن أجل ذلك أعـــلن الثورة في عام 2009 وهو ما لا تفوت الكاتبة الإشارة إليه. وما يجدر بالذكر أن الثيــــمات التي تتـــكئ عليها الرواية هي المنـــفى والحنين وثنـــائية الثقافــة لذا تختار مريم الأدب المقارن مجالاً لتخصصها، وما يلفت النظر أن اختيارها يكون على عمر الخيام وصادق هدايت، وكلاهما من إيران، فالأول كان عميقاً في نظرته الإنسانية، والثاني يمثلُ المثقف الذي أراد الجمع بين الأصالة والحداثة.