الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
’البيانات تجعلنا أكثر غباء‘.. هذه هي المفارقة التي تشكل الملمح الأساس للحياة، على الأقل في النصف الشمالي من العالم حيث تعبث التكنولوجيا بكل شيء. في ضوء ذلك يلجأ الإنسان إلى بذل مزيد من الجهود من أجل التوصل إلى طرق أكثر فعالية في إدارة التحميل الزائد للبيانات.
يلخص الكوميديان الإنجليزي، ديف جورمان، هذا الوضع في العنوان الساخر الذي اختاره لكتابه Too Much Information: Or: Can Everyone Just Shut Up For a Moment, Some of Us Are trying to Think (سيل من المعلومات: أو: هل يمكن أن يصمت الجميع للحظة؛ فبعضنا يحاول التفكير). ربما ينتزع هذا العنوان منا الضحك، لكنه – في واقع الأمر – يساعدنا على التماهي مع مخاوف عميقة تعيث في دواخلنا نتيجة خروج العالم فعليا عن حدود فهمنا، وإيغاله في تجاوز نطاق سيطرتنا وتحكمنا.
وإذا كنا بالفعل نقع تحت تأثير حالة من الإنكار الهستيري لهذه الحقيقة، فإن الكاتب الإنجليزي، جيمس بريدل، يدق بقوة ناقوس الخطر في كتابه New Dark Age: Technology, Knowledge and the End of the Future (العصر المظلم الجديد: التكنولوجيا والمعرفة ونهاية المستقبل).
في ثنايا هذا الكتاب، الذي نشر في يونيو 2018، يدعونا بريدل إلى الانخراط في مواجهة مباشرة مع أزمة تناقص فهمنا للعالم. وعبر اشتباك عميق مع قضايا متنوعة في مجالات مختلفة، بدءا من الطيران، ووصولا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومرورا بصناعة الأدوية وعلم المناخ، يبين بريدل بما لا يدع مجالا للشك أن ثقافة البيانات باتت تمثل تهديدا وجوديا للجنس البشري، ونذيرا بفناء نوعه.
وبينما نترقب أن يرسم لنا الكتاب خارطة العودة إلى المعرفة التي تؤدي بنا إلى بر الأمان، يداهمنا بفرضية مفادها أننا كمن يسبح في منطقة انعدام جاذبية على غير هدى، وتتلبسنا حالة من عدم اليقين. تبدو هذه الفرضية مثيرة للاهتمام وللقلق في آن، لا سيما أن بريدل وظف مجموعة متنوعة من استراتيجيات التفكير في التكنولوجيا بصورة مختلفة. فبريدل لا يزال معروفا حتى يومنا هذا بتطوير ما أسماه مشروع New Aesthetic (الجماليات الجديدة) الذي يُعنى باستخلاص وتسجيل دلالات البيانات الصادرة عن العالم الرقمي، مثل مراكز البيانات وطائرات المراقبة.
وبينما يحول مشروع “الجماليات الجديدة” كل ما هو غير مرئي إلى مرئي، يطالبنا كتاب “العصر المظلم الجديد” بالتفكير في كل ما هو غير قابل للتفكير، أو حتى التصور. “إذا كنت لا تحب الأحاجي ولا تروق لك المتناقضات، فعليك أن تثبت حزام الأمان وتتشبث جيدا؛ فالكتاب مليء بالألغاز والتعقيدات”.
يعترف بريدل نفسه أن الأمر تطلب منه نضالا مريرا حتى يتمكن من إتمام هذا العمل، إذ راوده “إحساسا بالخجل من الحديث عن متطلبات الحاضر، وشعور بالوهن أمام تحديات اللحظة الراهنة … لكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا عن التفكير، أو يدفعنا إلى أن يفشل بعضنا بعضا”.
ينبع هذا الإحساس بالخجل والوهن من حقيقة مؤلمة، هي أن إيماننا العميق بالبيانات يخذلنا بقوة الآن. كان من المفترض أن تحملنا تلال المعلومات إلى عالم أفضل، وفقا للمنطق الذي هيمن على العقل الغربي بدءا من عصر التنوير. ومن ثم، فإن التحذير من انهيار العلاقة بين توافر البيانات واتخاذ القرارات الصائبة يضرب بقوة في جميع جوانب الحياة. ما يحاوله بريدل من خلال هذا الكتاب هو مناقشة جميع هذه الجوانب معا.
تبدو الصورة التي يرسمها الكتاب مروعة. فالباحثون يتعاملون مع سيول البيانات التي يوفرها الخبراء بصورة انتقائية، ولا يأخذون منها – حتى لو بصورة عفوية – سوى ما يعزز النتائج التي يتوصلون إليها. أدى ذلك إلى خلق العديد من الأزمات على مستوى كافة القطاعات. فصناعة الأدوية، على سبيل المثال، لا تحقق أي تقدم يذكر على مستوى إنتاج عقاقير جديدة. وتمتد الأزمة نفسها إلى الأجهزة الاستخباراتية. ففي عام 2016، أعلن ويليام بيني، مسئول المخالفات في وكالة الأمن القومي الأمريكية، أن “99% من بيانات الاتصالات المتوافرة للوكالة لا قيمة لها”. ولا يختلف الحال كثيرا في سائر القطاعات.
لا يتوقف الأمر عند حدود أن البيانات يمكن أن تتحول إلى عبء يثقل كواهلنا ويضللنا؛ فالكتاب يرسم صورة مخيفة لعالم ينبذ المنطق السليم والحدس البديهي، ويسلم قياده بصورة بغيضة إلى البيانات. في هذا السياق يقدم بريدل مجموعة من النماذج الكارثية التي نتجت عن هذا التوجه، الذي يطلق عليه ’الانحياز للأتمتة‘ (أي الانحياز لكل شيء يعمل بصورة أوتوماتيكية آلية)، تتضمن حوادث طيران مروعة، وحادثة السياح اليابانيين الذين اتبعوا إرشادات جهاز SatNav (جهاز للإرشاد الملاحي عبر الأقمار الصناعية) المثبت بسيارتهم حتى سقطوا في البحر في أستراليا.
أما الأكثر رعبا على الإطلاق فهو الفصل المخصص لأزمة المناخ التي يعتبرها الكاتب بالأساس “أزمة فهم ومعرفة … فما نعتبره طقسا في اللحظة الآنية يتحول إلى مناخ يسود العالم”. ويؤكد بريدل أن المناخ يمثل النموذج الصارخ لعجزنا المهين عن فهم العالم والتحكم فيه.
ينتهي الجزء الأول من الكتاب عند حدود التحليل النظري لجوانب الأزمة، ويخصص الكاتب الجزء الثاني لتقديم حلول عملية في مواجهة ما يعتبره “واقعا كارثيا سيفضي بنا إلى العدم”.
يطرح بريدل حلولا عملية في محاولة لرسم خارطة الخروج من هذا المأزق الوجودي.
يرى بريدل أن الخطوة الأولى على طريق التصدي لهذه الأزمة تتمثل في نبذ كل ما ينطوي على ما يسميه “التفكير الحاسوبي”، الذي يصر دائما على اللجوء إلى الإجابة السهلة، وهي: “ما يتم جمعه كبيانات يتم نمذجته على أنه حقيقة الأمور، ثم يتم تطويره في ظل افتراض ضمني بأن الأمور لن تتغير بصورة راديكالية أو تتحول عن سيرتها الأولى”.
تكمن المشكلة في أننا ألِفنا هذه المنهجية في التفكير حد الإدمان. في هذا السياق يقارن بريدل بين “تعطشنا الشديد للبيانات” و”تعطشنا الشديد للنفط”، فكلاهما نهمان لا يشبعان، ومدمران لا يُبقيان.
ربما يبدو التشبيه هشا، كما يقر بريدل في مرحلة لاحقة من الكتاب. فالمعلومات – على عكس النفط – لديها القدرة على أن تكون موردا مفتوحا ومتجددا ولا متناه. رغم ذلك، فقد تحولت اليوم إلى أي شيء غير ذلك. فعادات استهلاك البيانات التي تسيطر علينا في الوقت الراهن تبطن تكلفة بيئية باهظة. وكما يشير بريدل: “عندما تزداد سرعة الثقافة الرقمية، ويتضاعف نطاقها الترددي، ويستفحل اعتمادها على الصور، فإنها تصير أفدح ثمنا وأشد تدميرا”.
ومهما كانت صعوبة تغيير هذه الثقافة، فليس أقل من أن نبطئ إيقاع ممارستنا المتطرفة لها، وأن نكبح جماح اندفاعنا المجنون ورائها. يمثل هذا السبب الأساس في رواج نوعية معينة من الكتب، مثل الكتاب الأكثر مبيعا The Organized Mind: Thinking Straight in the Age of Information overload (العقل المنظم: التفكير القويم في عصر التحميل الزائد للمعلومات)÷he Organised Mind: Thinking Straight in the Age of Information overload حول عن سيرتها السابقة”. ، لعالم الأعصاب الأمريكي الكندي، دانيل ليفيتين، الذي يقدم فيه نصائح عملية وإستراتيجيات ناجعة لإدارة عالمنا المتخم بالبيانات بفاعلية أكبر.
فيرسم المؤلف خطا مستقيما يربط بين شبكة الإنترنت وقصة The Library of Babel (مكتبة بابل)، وهي قصة قصيرة تعرض لمكتبة خيالية لا نهائية للأديب الأرجنتيني، خورخي لويس بورخيس. يهدف بريدل من وراء هذا الربط إلى الدعوة إلى تأسيس “فئات وهيئات جديدة ومختلفة جذريا يمكن أن تساعدنا في الاستفادة من أنظمة المعلومات المتشابكة والمتداخلة”.
لكن.. مَن المنوط باختيار نظام التصفح؟، أو – بتعبير بريدل – “مَن أمناء المكتبة الجدد؟” ربما تخمد ردة الفعل القوية التي أثيرت ضد شركة Big Tech بعد فضيحة كامبريدج أناليتيكا (حيث ذكرت شركة فيس بوك أن شركة كامبريدج أناليتيكا للاستشارات السياسية يمكن أن تكون قد حصلت بطريقة غير مشروعة على معلومات شخصية لما يقدر بنحو 87 مليونا من مستخدمي فيس بوك). لكن شيئا جوهريا لم يتغير. وستحتفظ شركات فيسبوك وجوجل وأبل وأمازون بقوتها، وسيبقون حراسا غير نظاميين للمكتبة اللانهائية التي رسمها بورخيس، رغم أنهم اثبتوا مرارا وتكرارا أنهم ليسوا أهلا لثقتنا.
يعيدنا هذا مجددا إلى قضية عدم اليقين التي عرض لها الكتاب في جزئه الأول (وعرضنا لها في المقالة الأولى). إن خوف الإنسان من الظلام ليس مطلقا، وإنما يرجع إلى سبب ما؛ فالإنسان يخاف تحديدا عندما يكون معصوب العينين بينما يستطيع من حوله الرؤية.
عند هذه النقطة يصطدم تفكير بريدل بعقبة كؤود. ففي جزء لاحق من الكتاب يعترف بريدل أن التكنولوجيا “محرك أساسي لعدم المساواة في قطاعات عديدة”، وأن أحد أهم أسباب ذلك هو “الغموض الذي يكتنف الأنظمة التكنولوجية نفسها”. جميعنا يعرف أن المعرفة أحد أهم أسباب القوة، وعلى مدى التاريخ وقع من لا يمتلكونها فريسة لاستغلال من يمتلكونها.
في الفصل الافتتاحي، يقتبس بريدل من الروائي الأمريكي، هوارد فيليبس لوفكرافت: “…يوما ما سيفتح تجميع المعلومات المتشظية آفاقا مرعبة على الواقع، ولن يؤهلنا موقعنا المتردي من الإصابة بلوثة عقلية جراء ما تكَشًف لنا، أو الهروب من النور المميت إلى سلام وأمان عصر مظلم جديد”.
برغم ما ينطوي عليه هذا الاقتباس من إيحاءات مروعة، يبقى السؤال: كيف يمكننا الاستفادة بهذا ’السلام والأمان‘؟ إن لوفكرافت يعلم يقينا أن الإنسان عندما اكتنفه الظلام راح يملأه بالإيمان بالخرافات. وفي تاريخ أوربا، يطلق على الفترة الأولى من العصور الوسطى اسم ’العصور المظلمة‘.. تلك الحقبة التي أثخنتها حروب باسم الدين وصراعات باسم المدنية أدت في النهاية إلى انهيار حضاري ساحق.
ربما يرى الذين يميلون إلى سردية نهاية العالم تشابهات بين سرديتهم وعصر ما بعد الحقيقة الذي نعيشه الآن، حيث تبدو مجتماعاتنا أكثر استقطابا، وأكثر إيمانا بالقبلية والإثنية والقومية. ويمثل التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وفوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة مجرد أعراض جديدة لتوجه قديم يتغذى على إحساسنا المزمن بالقلق.
ورغم محاولات بريدل لسبر أغوار المشهد الآني، إلا أنه يفشل في تقديم أسباب مقنعة وراء تفضيل الإنسان ’حالة عدم اليقين المثمر‘ على ’حالة الظلام‘ التي تتلاعب بها الشركات المتعطشة للربح والجماعات المتطرفة ومنظمات التحريض عبر الإنترنت.
رغم ذلك، يبقى كتاب “العصر المظلم” محاولة شجاعة تدق نواقيس الخطر حيال تهديد وجودي ينذر بفناء الجنس البشري، وتطرح حلولا للتحرك على صعيد مواجهة الكارثة قبل أن يتجاوزنا الزمن.
This post is also available in:
English (الإنجليزية)