الوصف
تسترجع الساردة انطلاقا من الذاكرة وبضمير الأنا، حكاية زوجة مسؤول سياسي يوقعها «الفيسبوك» في غرام شخص مغربي، ثم يتم اختطافها من طرف جماعة إرهابية وإخراجها بعد فترة بعد إجراء عمليات تجميل من طرفهم وتغيير هويتها واعتبارها سفيرة سلام. تحاول الكاتبة في مختلف هذه الصفحات بث بعد تجريبي في لغتها وتستفيد في اللحظة التاريخية المعاصرة لها، وهي تطرح أسئلة عديدة من أهمها سؤال الجسد وهو سؤال آخر بدأ يستقطب الاهتمام النقدي.
لعبة اللغة:
تعتمد فتحية بن فرج سردا كلاسيكيا في غالبه، يقوم على سارد واحد منهمك في السرد بضمير الأنا، وعلى تقديم الأحداث مثلما وردت في ترتيبها الزمني ولكنها تعول على اللغة لإحداث مسافة جمالية وتحقيق جماليات روايتها. فهي تمزج سردها بالخطاب الشعري وتضخ في نصوصها شواهد مختلفة وتستحضر اللهجات المحلية، وتحتفي بلغة التواصل الاجتماعي الافتراضي.
النثري والشعري:
يتسلل الخطاب الشعري إلى الرواية، عبر لغة تحتفي بالاستعارات والتراكيب والصيغ الشعرية، ما ينعكس على المقاطع الوصفية المتنوعة التي تنهل فيها الكاتبة من أساليب الرومنطيقيين. فنجد مقاطع تحتفي بتصوير الزمن:
«في المساء لما مدت الظلال واشتد اخضرار الواحة ميلانا إلى الزرقة وقفت».
وتقابلنا مقاطع أخرى تمعن في تصوير الطبيعة والتفاعل مع وقعها على الذات مثل قولها «اختفيت بين غابات النخيل المترامية على اليمين والشمال في طريق ضيقة متلوية متعرجة، تزاحمها بعض الصخور الجرداء فبدا النسيم عليلا والمكان ظليلا حتى انتهى الشجر والبشر وقحل المكان وأسفرت الصحراء عن وجهها الحقيقي».
*الشواهد:
وإثراء لجمالية لغتها توظف الكاتبة لعبة كتابة اليد الثانية، على حد تعبير أنطوان كومبانيون، فنجد استحضارا لشواهد من أعمال أدبية مختلفة فتقتحم الرواية أصوات بابلو نيرودا ومحمد بنيس و أحلام مستغانمي ومحمودالمسعدي وقاسم حداد وعبدالرحمن منيف وغيرهم، مستفيدة بذلك من جماليات الشاهد الأدبي. نختار من هذه الشواهد مقطعا من قصيدة عدنان الصائغ:
المطر حزين
وكذلك قلبي
ترى أيهما أكثر ألما
حين تسحقها أقدام العابرين
اللهجات المحلية:
وتثري الكاتبة لغتها بحضور اللهجة المحلية وتداخلها مع الفصحى في مقاطع حوارية مختلفة منها: أهلا بك… يا مرحبا …واش راك؟ لاباس». ومنها أيضا: «راه الماء مقطوع عندكم ؟حتى تقطعي كل هاد المسافة باش ديري دوش».
*لغة التواصل الاجتماعي:
والمتأمل في اللغة وسجلاتها يظفر بملاحظة تتعلق بهيمنة لغة التواصل الاجتماعي على جانب من الرواية فتحضر مفردات ومعاجم الفيسبوك مثل الرسالة والنافذة فنجد «أسدل جمال الدين الستار على ركن التراسل بيننا «، و«فتحت الحساب»، و«شرعت في تكوين كلمة السر بفتح صفحتي»، وغير ذلك من السجلات اللغوية الحديثة المتصلة بالتواصل الافتراضي . ويتخذ الحوار شكل محاورات مطولة، ومكررة بين عاشقين على شبكة التواصل الاجتماعي بلغة أدبية. ولعل هذا التوجه يصل الرواية برواية «عشيقة آدم» للمنصف الوهايبي، ويتقاطع معها وينضم إليها في صنف الروايات التي تعتمد تخييل التواصل الاجتماعي.
*توظيف التاريخ:
تستفيد الرواية من اللحظة التاريخية وتحاول توظيفها متحررة من قيود الكتابة التاريخية، معتمدة على الذاكرة وهو ما يبرر حضور التاريخي في هذه الرواية، فتحاول كتابة الراهن التونسي بعيد الثورة بطريقة ساخرة ترصد الإحباط الذي يسري إلى النفوس «ها نحن التونسيون أصحاب الأنفة صرنا نشرب حليب سلوفينيا صدقة ومساهمة في إنجاح ثورتنا، كيف لا وثورتنا ما زالت بعد في المهد تحتاج الحليب وصرنا نأكل في عيد الأضحى لحم خرفان رومانيا «.
وتستحضر الكاتبة واقعة اغتيال شكري بلعيد صباح ذلك الأربعاء، وما أحدثته في الشارع التونسي… يردد المذياع مقولته» سيلجؤون إلى العنف كلما زاد اختناقهم، كلما زادت عزلتهم السياسية وكلما تقلصت شعبيتهم». وتردد القنوات خبره «في المساء ازداد المأتم حدة، وأنا أتنقل بين المحطات التلفزية فلا أجد غير الحديث عن شكري ولا أسمع غير صوت شكري، ولا أشاهد غير تسجيلات له يده تنقر على الطاولة، وهو ما ينفك يحلل وضع البلاد «.
الجسد حالما
يبدو الجسد سؤالا مهما في الكتابة الروائية العربية، وإذا كانت مبادرات تحريره روائيا رجالية، فالكتابة النسائية العربية بدورها تجرأت على هذا الموضوع، واقتحمت حديث المغامرات الجنسية وكتابة خصائص الجسد الأنثوي.
ولعل رواية «ذاكرة الظل» تضاف إلى هذه التجارب. وهو ما جعلها ذاكرة جسد أنثوي يحافظ على خصائصه ويخوض صراعه فيظهر في صور مختلفة.
يبدو الجسد في القسم الأول من الرواية حالما باحثا عن اللذة، مشتهى من خلال العلاقة التي تقسمها الساردة مع الكهل المغربي، عبر جهاز التواصل، التي تحولت إلى علاقة جنسية مرغوب فيها. فالجسد يمارس رغبته واشتهاءه بدوره: «كنت ممددة على السرير والأمواج تتقاذفني هنا وهناك، وذراع جوجو لا تكاد تفلت خصري، بينما ينفلت الزمن من عمر يوم الأحد سريعا، بدون أن أفطن حتى غمرني نعاس آخر لذيذ أشبه بأرجوحة أحلام وئيدة الذهاب والإياب».
*الجسد منتهكا
ولكن الجسد يغدو منتهكا بعد تعرض الساردة إلى الاختطاف، يمارس المختطفون عليه شهواتهم ورغباتهم ويعشقهم ويتلذذهم. صار الجسد منتهكا «تتناوبون على اغتصابي وتسجنونني داخل الكهوف والجدران بعيدا عن زوجي و أبنائي». وصار يخوض مغامرة مراودة جلاديه: «ألم ينتهك جسدي طويلا ومرغت كرامتي في الوحل، بدون أن أتمكن من الثأر لنفسي؟ فما ضر لو زدت على الحساب مضاجعة أقررها بنفسي بعد مرارة الرذيلة فيها تفتح لي أبوابا من جديد لن تزيدني عارا كبيرا أكثر مما حصدت في الكهف». بل صار هناك حنين واشتياق: «لم يزرني الرجل عدة ليال متتالية فشعرت بالاشتياق له. لعل صور الجسد في هذه الرواية لا تختلف عن تمثلاته في الرواية العربية الحديثة، فهو جسد في علاقة متواصلة مع اللذة في مختلف أوضاعه، إذ يحضر الجنسي في مختلف المراحل التي مرت بها الساردة، ويظل الجسد حاملا لرغباته ومرغوبا فيه. ويمكن القول إن الكاتبة غامرت بكتابة جريئة للجسد.
لعلنا نخلص إلى أن «ذاكرة الظل» رواية متشعبة فهي قائمة على عدة تقاطعات: الافتراضي والواقعي، الجسد الحالم والمختطف، السيرذاتي والموضوعي، التخييلي والتاريخي. وهي على هذا كتابة مغامرة بما فيها من جرأة وتقاطع مع الثقافة الرسمية.
القدس العربي