أثر مدرسة القضاء الشرعي على الفكر الإسلامي المعاصر

عنوان الكتاب أثر مدرسة القضاء الشرعي على الفكر الإسلامي المعاصر
المؤلف د. محمد عبد الوهاب غانم
الناشر دار المقاصد
البلد بيروت
تاريخ النشر 2018
عدد الصفحات 524

أشتري الكتاب حقوق الترجمة

الوصف

في العام 1839م أصدر السلطان العثماني عبد المجيد، فرمانا يقضي بتنظيم الدولة على العثمانية وفق النظم الغربية، وعرف الفرمان بـ”خط كلخانة”، ومنذ تلك اللحظة وعلى مدار أربعين عاما أخذت التشريعات والقوانين الغربية تغزو دولة الخلافة، حتى أنشئت المحاكم المختلطة التي اقتطعت الكثير من اختصاص القضاء الشرعي، ورد المصلحون العثمانيون على هذا الاعتداء التشريعي بإصدار مجلة “الأحكام العدلية” التي كانت أول تدوين للفقه الإسلامي في المجال المدني في إطار بنود قانونية، على المذهب الحنفي، وامتد ظهور المجلة ستة عقود حتى توقفت في العام (1882).

وفي التجربة المصرية توسعت كثافة الامتيازات الغربية في المجال القانوني والتشريعي، وعرفت مصر ثلاثة أنواع من الأقضية، هي: المحاكم المختلطة[1]، والمحاكم الأهلية والقضاء الشرعي، ومنذ اللحظات الأولى لدخول الاستعمار البريطاني عام 1882 اتجه إلى تبديل القوانين، إذ لم يكتف الاستعمار باحتلال الأرض، ولكن  امتدت يده الأثيمة إلى احتلال التشريع، فرد المصريون على ذلك بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي.

ويأتي كتاب “أثر مدرسة القضاء الشرعي على الفكر الإسلامي المعاصر”[2]، تأليف د. محمد عبد الوهاب غانم، ليحكي قصة إنشاء تلك المدرسة التي امتد عمرها (23) عاما، لكن امتد أثرها في الفكر والفقه الإسلامي طويلا.

قصة الإنشاء

سبق إنشاء مدرسة القضاء الشرعي[3] محاولة لإصلاح الأزهر قادها الشيخ محمد عبده، لكنها واجهت عقبات كبيرة، رغم أنها اقتصرت على تطوير طرق الامتحانات، وتنظيم شؤون الطلاب، ولم تمس الإصلاحات نظام التدريس والمناهج وإدخال العلوم الحديثة، كما جاء إنشاء مدرسة در العلوم التي تحمس لإنشائها الشيخ محمد عبده عام 1872، وهدفت لإعداد المعلم بطريقة عصرية قوية.

كان الشيخ محمد عبد صاحب منهج إصلاحي يرتكز على البدء بالتعليم، لذا أراد أن يصلح المحاكم الشرعية التي يتقاضي الناس فيها، وذلك عن طريق إصلاح مناهج التعليم الأزهري، وتحديث الطرق المستخدمة في التعليم لتحسين مستوى الخريجين الذي سينعكس حتما على عمل تلك المحاكم.

واغتنم الشيخ محمد عبده حديثا بينه وبين الخديو عباس حلمي الثاني ليطرح عليه فكرة إنشاء مدرسة القضاء الشرعي، فتحمس لها الخديو، وفي (5 نوفمبر 1899) قدم الشيخ محمد عبده تقريرا إلى ناظر الحقانية (وزير العدل) طالب فيه بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي، وفي (أبريل 1905) شُكلت لجنة برئاسة الشيخ محمد عبده، مفتي مصر وقتها، لإعداد لائحة المدرسة المقترحة، ووضع نظامها الدراسي، وتحديد الكتب المقررة، ومدة الدراسة، والميزانية، لكن وفاة الشيخ محمد عبده، أخرت التنفيذ، وظن البعض أن المشروع انتهى، إلا أن تلامذته الشيخ محمد عبده، أحيوا مشروعه على صفحات مجلة المنار، ثم قام وزير المعارف سعد زغلول باتخاذ خطوات تنفيذيه لإنشاء المدرسة، لم يعترض عليها الاحتلال الإنجليزي.

رصد للمدرسة ميزانية من وزارة المعارف عام 1907، إلا أن الخديو عباس تغير رأيه وعارض إنشاء المدرسة بشدة تحت دعوى أنها تسلب الأزهر جزءا من اختصاصه، وأن المدرسة يُراد منها هدم الأزهر، وبعد ضغوط كبيرة تمت الموافقة على إنشاء المدرسة في (12 من المحرم 1325هـ=25 فبراير 1907م) وكان هدفها تخريج القضاة والمفتين، وتحمل سعد زغلول عبء القيام بهذه المهمة الكبيرة، لذا أسند إلى ابن أخته “عاطف بركات” مهمة إدارتها، فكان أول ناظر لها، واستطاع بركات أن يجعل منها خلية نشطة في الارتقاء بتدريس العلم الشرعي.

الإنجليز ومدرسة القضاء الشرعي

ولكن لماذا تحمس اللورد كرومر-المندوب السامي البريطاني في مصر- لفكر إنشاء مدرسة القضاء الشرعي؟

الحقيقة أن فهم ذلك لابد من رده إلى أن الإنجليز كانوا حديثي عهد باحتلالهم لمصر، وكانوا يروجون أن احتلالهم  لمصر قصير، فهم  احتلوا مصر بعد ثورة عارمة امتدت على طول البلاد، هي الثورة العرابية، ورغم أنها انتهت بهزيمة العرابيين في معركة التل الكبير إلا أن الروح الثورية، ما يزال أثر لهيبها في قلوب الناس ووجدانهم، لذا كان الإنجليز يدركون أن قابلية الثورة موجودة فعلموا على تخدير الوعي الوطني وعدم استثارته من خلال القيام بترضيات للمجتمع المصري، ومن ثم لذا أراد كرومر أن يظهر في ثوب المصلح الراغب في تطوير البلاد وليس قهرها واحتلالها.

الأمر الثاني أن كرومر كان يأمل أن تخرج المدرسة قضاة يفكرون بعقلية الغرب، ويكونوا بديلا عن جيل الشيوخ الأزهريين الذين رغم جمودهم إلا أنهم كانوا الوسط المقاوم بعنف للاحتلال الإنجليزي.

نظام التدريس

احتضن سعد زغلول المدرسة منذ أن كانت فكرة حتى أصبحت كيانا ينبض بالحركة والنشاط، لذا اختار لها أكفأ المدرسين، فكانت مزيجا متنوعا من المعارف من خيرة الأزهريين، وخرجي الجامعات الغربية، إضافة إلى أستاذة ذوي مكانة في العلوم الطبيعية، فكانت المدرسة بستانا متنوع المعارف والمشارب، ولم يكن للمدرسة نظير في الشرق بسبب هذا التنوع الفريد، حتى وصفها السلطان حسين كامل-حاكم مصر- قائلا:” أعتقد أنه ليس عند الثلاثمائة والستين مليونا من المسلمين الذين في العالم مدرسة تماثل هذه المدرسة”.

كان عدد الأستاذة عند نشأة المدرسة عام 1908 حوالي (24) أستاذا، منهم (11) من الأزهر، وفي العام 1909 وصل عدد الأستاذة إلى (31) منهم (24) من علماء الأزهر، ونجح هؤلاء في الارتقاء بمكانة القضاء الشرعي.

كانت يدرس الطالب في المدرسة العلوم الشرعية إلى جانب العلوم اللغوية، والقانونية، وعلوم الإدارة، والطبيعة والجغرافيا والتاريخ، والحساب والرياضيات، ووضعت شروطا لاختيار الطلاب، منها أن يكون درس في الأزهر عدة سنوات، وأن يكون حسن السيرة، صحيح الجسم، يحفظ نصف  القرآن على الأقل.

كان النظام في المدرسة صارما ودقيقا، فلم يكن هناك مجال لتهاون أو تقصير، وكان العدل هو الميزان الذي رفعته المدرسة شعارا ومنهجا في سيرها، ومن صرامتها أنه لم يكن للراسب الحق في إعادة الامتحان، ولا البقاء في المدرسة، كما كانت تنظر في ملابس الطلاب وتشترط هندامها وجودتها، فعملت على تنمية الذوق والتحضر في نفوس الطلاب، وكان يمنح الطالب راتبا شهريا، ووجبة مجانية في المدرسة، وبلغ من عنايتها أنه في فترة الإجازة الصيفية أن تنظم ما يشبه دورات للقراءة بمكافأة حتى تنهض بمستوى الطلاب، ويقول أحمد أمين في ذلك :”قضيت زمانا في هذه المدرسة جدا لا هزل فيه، وتعبا لا راحة معه..فدرس بالنهار، وتحضير بالليل..وقد صبرت على هذا الدرس، فلم استرح نهارا ولا ليلا، ولا جمعة ولا عيدا، حتى ولا في الإجازة الصيفية” كان هذا النظام الصارم والجاد له أثره في تخريج أهم نخبه فقهية وفكرية عرفها الفكر الإسلامي في مصر.

وكان لجنة امتحانها مكون من شيخ الأزهر (أو من ينوب عنه) إضافة إلى مفتي الديار المصرية، وكبار شيوخ المذاهب، ويمتحن الطالب وقتا قد يمتد إلى أربع ساعات كما سرد الشيخ حسنين مخلوف في مذاكراته أن امتحانه امتد لأربع ساعات.

التنافس والنهاية

وقع تنافس بين مدرسة القضاء الشرعي وبين الأزهر ودار العلوم رغم أن مدرسي مدرسة القضاء الشرعي كانوا من الأزهريين ومن مدرسة دار العلوم، فقد شعر مدرسي دار العلوم بالمنافسة بعدما صدرت أصوات تطالب بضم مدرسة دار العلوم إلى مدرسة القضاء الشرعي، لتكون قسما من أقسامها، كما أن الإقبال على دار العلوم تناقص بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي.

أما الأزهر، فكما يقول الشيخ رشيد رضا:”وما زال الأزهر بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي في أمر مريج” ولعل ذلك يعود إلى ظن الأزهريين أن خريجي مدرسة القضاء الشرعي سيستأثرون بالمناصب في المحاكم الشرعية دونهم، ويزاحمونهم في التدريس، بما يمتلكونه من كفاءة وتكوين شرعي وعلمي متين، لذا نظم الأزهريون اعتصامات ضد المدرسة مطالبين الأزهر بإصلاح التعليم داخله، وتضمين العلوم العصرية ضمن مناهجه، وإلغاء المدرسة.

ولعب الشيخ الأحمدي الظواهري، شيخ الأزهر، دورا في إلغاء المدرسة، وذلك بعد صدور قانون إصلاح الأزهر في (1349هـ=1930م) القاضي بإعادة تنظيم الجامع الأزهر، وقضى بإنشاء ثلاث كليات هي الشريعة ، وأصول الدين، واللغة العربية. وبذلك وضعت النهاية لتلك المدرسة، حيث تم استغلال وفاة الزعيم سعد زغلول عام (1927) الداعم الأول للمدرسة، للانقضاض عليها.

ومن أهم مدرسي وخريجي تلك المدرسة، الشيخ محمد الخضري بك، الشيخ مصطفى عبد الرازق، وإبراهيم مدكور، وأحمد أمين، وعبد الوهاب عزام، والشيوخ: محمد أبو زهرة، وحسنين مخلوف، وعلي حسب الله، وعبد الوهاب خلاف، أمين الخو

مصطفى عاشور/ إسلام أون لاين


[1] أنشئت المحاكم المختلطة عام 1875، وكان قضاتها أجانب ومصريين، واستمرت حتى ألغيت عام 1936
[2] الكتاب صادر عن دار المقاصد للطباعة والتوزيع والنشر، بالقاهرة، في طبعته الأولى 2018، في (524) صفحة
[3] الفكرة الأولى لإنشاء مدرسة القضاء الشرعي لعلي باشا مبارك، أما بنائها النظري والفكري فكان للشيخ محمد عبده، أما التنفيذ فكان للزعيم سعد زغلول
TOP