الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
تمثّل كرة القدم الرياضة الأكثر شعبية اليوم على الصعيد العالمي. يكفي للبرهان على ذلك معرفة عدد عشرات، بل مئات الملايين من المشاهدين، الذين يتابعون مبارياتها على شاشات التلفزيون. ومئات الآلاف من المشجعين الذين لا يترددون في التواجد بمدرّجات الملاعب لـ”دعم” فرقهم.
ولا شك أن لاعبي كرة القدم من لاعبي الأندية الكبرى أصبحوا بمثابة “نجوم عالميين” شكّلت سيرة حياتهم موضوع كتب لاقت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.. شعبية هذه اللعبة تشهد عليها أيضا السلسلة الطويلة من الكتب التي جعلت منها موضوعا لها والتي تشهد رفوف المكتبات الجديد منها باستمرار.
من بين الكتب التي قوبلت بالكثير من الاهتمام في فرنسا ذلك الذي يحمل عنوان”تاريخ شعبي لكرة القدم” لمؤلفه الصحفي الرياضي “ميكايل كورييا”. وهو يكرّس الكتاب لشرح الدور الذي لعبته كرة القدم “اجتماعيا وسياسيا” منذ إقرارها كممارسة رياضية “شعبية” خلال مسارها التاريخي.
يشير المؤلف بداية أن كرة القدم تثير منذ أكثر من قرن من الزمن نقاشات ساخنة، خاصّة بين الأوساط الشعبيّة. ذلك على خلفية واقع أن هذه اللعبة لها تاريخها ووظيفتها بالنسبة لهذه الأوساط، كما بالنسبة لبقية مكونات المجتمع. من هنا يجد في كرة القدم “أكثر من رياضة” تستمر 90 دقيقة بدقة متناهية. بل تندرج بمفهومه في إطار نقاش مجتمعي له أبعاده السياسية والاقتصادية والطبقية.
ويعيد المؤلف قوّة جذب كرة القدم إلى “بساطتها” واستمرارية قوانينها منذ نسختها “الأصلية” في عام 1863. هذا بالإضافة إلى تواضع مستلزمات ممارستها حيث لا تحتاج أكثر من “كرة” و”زاوية شارع ” أو “قطعة أرض شاغرة”. وينقل المؤلف عن اللاعب البرازيلي الشهير ــ سابقًا ــ “سقراط” قوله أن هذه اللعبة تستدعي: “الجمال أوّلاً والفوز ثانيًا والفرح خاصّةً”.
وفيما هو أبعد من تعليقات “الخبراء” يركز المؤلف على القول أن كرة القدم كانت أوّلاً وخاصة “وسيلة تحرر للكثير من المهمّشين في المجتمعات المزدهرة في الغرب بعد الثورة الصناعية الكبرى وما أنتجته من منظومات سياسية”. والإشارة أن المهمّشين المعنيين ينتمون بأغلبيتهم إلى الشرائح الشعبية وفي مقدّمهم سليلي الأقليات الأثنية وأبناء الهجرة وغيرهم من الأكثر فقرًا في المجتمعات المعنية.
الجملة التي اختارها المؤلف لتكون “نقطة الانطلاق” في عمله “التأريخي” من المنظور الذي يرى فيه مسار كرة القدم منذ انتشارها عبّرت عنها “لافتة” رفعها مشجعو “النادي الإفريقي” في تونس، بتاريخ 4 يناير 2017، أثناء لقاء فريقهم مع منتخب نادي “سان جرمان الباريسي. تقول جملة اللافتة: “كرة القدم أوجدها الفقراء وسرقها الأغنياء”.
وُلدت اللعبة “تاريخيًا” في بريطانيا في أواسط القرن التاسع عشر حيث تمّ بناء مؤسساتها و” سنّ قوانينها الـ 17″ التي لم تتغيّر كثيرًا حتى اليوم. وسرعان ما وجد فيها أرباب العمل الصناعيين مع فجر الثورة الصناعية “وسيلة لفرض سيطرتهم على العاملين لديهم، وصرفهم عن الاهتمام بتغيير أوضاعهم”.
وهكذا تراوحت سياسة أولئك الصناعيين بين “القمع والتدجين”، حسبما يقول أحد العناوين الفرعية في الكتاب. هذا مع الإشارة أن “الثورة الصناعية ساهمت كثيرًا في عمران بريطانيا…وأعادت تشكيل المجتمع الفيكتوري ــ نسبة إلى الملكة فيكتوريا”.
يشير المؤلف في هذا السياق إلى مقولة صادرة عن المؤرّخ البريطاني “اريك هوبسباوم” الذي رأى أن “كرة القدم جسّدت منذ نهاية القرن التاسع عشر نوعا من “المعتقد الدنيوي لدى الطبقة العاملة البريطانية”. معتقد لعب فيه “النادي” دور الكنيسة و”الملعب” مكان العبادة والمشجعون هم المتعبدون، حسب تصنيف المؤرّخ الشهير.. هذا مع ارتباطها بالمشاعر الوطنية، إذ لا يمكن مثلاً نسيان “هزيمة البرازيل المفاجئة أمام الأورغواي” عام 1950 ومات أحدثته من “جرح جماعي في المجتمع البرازيلي”.
إن المؤلف يشرح على مدى الـ 22 فصلاً التي يتألف منها الكتاب كيف أن لعبة كرة القدم التي بدأت “رياضة” ذات مضمون مجتمعي “احتلّت مكانها ومكانتها في قلوب الشرائح الشعبية” حيث “مثّلت نوعا من المقاومة حيال المنظومة القائمة بمكوناتها المختلفة”، قد تحوّلت إلى نوع من “الرياضة الصناعية”.
ويكرّس المؤلف العديد من الصفحات لشرح التحوّل الكبير في دور الطبقة العاملة التي كانت تشكّل في بريطانيا في عام 1867 نسبة 70 بالمائة من البريطانيين حسب الإحصائيات المقدّمة. ويصل من خلال ذلك إلى القول إن كرة القدم آلت إلى “رياضة تجارية” في عصر العولمة. هكذا غدت النوادي الكبرى تعمل كما أنها “ماركات” تعمل في مجال التسويق والترويج.
ينقل المؤلف عن أحد مدراء نادي برشلونة الإسباني مقارنته بين ناديه و”والت ديزني” حيث قال “لديهم ـ في والت ديزني ــ ميكي ماوس ولدينا ليونيل ميسي”. ويؤكّد “كورييا” أن هذه المقارنة فيها قدر كبير من الصحّة شارحا أن “مشجعي كرة القدم أصبحوا بمثابة مجرّد مستهلكين”.
الأمثلة التي يضربها المؤلف على ما يسميه “الجنوح الوظيفي” لكرة القدم من “فعل رياضي شعبي” إلى “فعل استعراضي تجاري” كثيرة. هكذا يشير أنه ما بين عام 1990 وعام 2011 ارتفع ثمن بطاقة الدخول لمشاهدة مباراة بكرة القدم في ملعب “انفيلدرود ــ ملعب نادي ليفربول البريطاني”.
ووصل ثمن بطاقة الاشتراك السنوي ــ عام 2015 ــ الأقل ثمنا لحضور مباريات “نوادي الدرجة الأولى” في بريطانيا حوالي 600 يورو. أبناء الشرائح الأكثر فقرًا أصبحوا يشاهدون المباريات على شاشات التلفزيون. ذلك في الكثير من الأحيان على خلفية “اقتصادية”.
والمظهر التجاري لعالم كرة القدم المعولمة طال أيضًا، كما يشرح المؤلف، جوانب عديدة أخرى ليس أقلّها الارتفاع ” الجنوني” لمرتبات اللاعبين الشهرية حيث بلغت الملايين أحيانًا وحي ث “لم يعد معروفًا مع أيّ واقع اقتصادي تتناظر”. هذا ناهيك عن عشرات، بل مئات الملايين، من الدولارات التي يتم دفعها مقابل “انتقال لاعب” من نادي إلى آخر.
المصدر: مجلة فكر
This post is also available in: English (الإنجليزية)