الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
يقدم كتاب “ارتقاء الحياة: الاختراعات العشرة العظيمة للتطور – Life Ascending: The Ten Great Inventions of Evolution” لعالم الكيمياء الحيوية نيك لين تاريخًا موجزًا لما سماه “أهم الاختراعات” التي جاء بها التطور لعالمنا.
لطابعه الأكاديمي، تمتاز كتابات لين بالنكهة الأكاديمية المُفصلة دائمًا، ما جعل مات ريدلي، مؤلف كتاب “تَطور كل شيء” يصف كتابه ارتقاء الحياة قائلًا:
قبل أن نبدأ بمراجعة بعض من المباحث التي وضعها لين في كتابه “ارتقاء الحياة: الاختراعات العشرة العظيمة للتطور”، نحتاج أن نوضح معنى “الاختراع”، ليس المقصود تطوريًا بالاختراع التطبيقات الفعلية التي وصل لها العلماء من خلال نظرية التطور (مثل فرع الطب التطوري Evolutionary medicine والذي – بناءً على معرفة تطورية – استطاع تفسير العديد مثل الأوبئة والسرطان وأمراض المناعة) ولكن يعطي لين تعريفًا خاصًا لكلمة “الاختراعات” بناءً على بضعة معايير:
المعيار الأول، أن يكون “الاختراع” ثوريًا فيما فعله، وأثر على الكوكب بأكمله أو على الأقل جِنس ما بأكمله، على سبيل المثال البناء الضوئي، العملية التي حولت كوكب الأرض إلى كوكب غني بالأكسيجين (والذي من غيره لما كان وجود الحيوانات ممكنًا)، وفي الواقع يُفسر الكثير من العلماء زيادة الأكسجين في غلاف الكوكب بزيادة الحياة، ولعل العالمين بنظرية التطور يعلمون جيدًا إحدى المشاكل التي تعجز عن تفسيرها، وهي الانفجار الكامبري، الذي يظهر فيه مجموعة كبيرة من الحيوانات بشكل مفاجئ في السجل الأحفوري.
وقد تتعدد التفسيرات التطورية والجيولوجية لهذه الظاهرة، وإن من أشهرها التفسير الذي نشره عالم الكيمياء الحيوية جراهم أ لوجان عام 1995، والذي يفرض أن هذا الانفجار كان سببه الزيادة المفاجأة في الأكسجين في غلاف الأرض.
يمكننا أن نأخذ العين، والذي وضع لها لين مبحث كامل في كتابه، فعلى الرغم من أنه قد يُنظر إليه على أنه اختراع “غير عالمي” مثل البناء الضوئي، إلا أنه أثر بشكلٍ غير مباشر في جميع الكائنات الحية، من المؤكد أن الحركة والعين أدت لتحرك العديد من الحيوانات للبحث عن الطعام، مما سيغير من وجود حيوانات أخرى (ستتحول إلى فريسة) وسيقل ظهورها في السجل الأحفوري، وستظهر أنواع أخرى جديدة.
المعيار الثاني، هو أن يكون الاختراع مثيرًا للاهتمام اليوم، يعطي لين مثالين بعيدان على ذلك وهما: الجنس، والموت. كلا المبحثين مثيرين للاهتمام والاستغراب، على سبيل المثال لماذا قد توغل الكائنات الحية نفسها في الجنس، البحث عن شريك، والأسوأ من ذلك الحفاظ عليه، بينما كان بإمكانهم فقط أن يستنسخوا أنفسهم في هدوء؟
المعيار الثالث هو الابتعاد عن التطور الثقافي، مثل اللغة والمجتمعات البشرية والمشاعر، العديد من هذه المباحث قد ظهرت بدعم غير مباشر من الانتقاء الطبيعي والتطور، لا يمكن وصفها على أنها “اختراعات” تطورية بحته، بل يجب أن تُدرس ضمن نطاقها الثقافي/الاجتماعي.
ارتقاء الحياة – أصل الحياة
من المنطقي أن يكون المبحث الأول هو أصل الحياة، والأخير هو الموت، أهم حدثين يحدثان في تاريخ الأرض، وكذلك أكثرهما إثارةً للجدل، فتعريف “أصل الحياة” ومصدرها مثير للتخبط حتى في المجالس التطورية العلمية. فما هي “الحياة”؟ وكيف ظهرت؟
منذ 3400 مليون سنة، بدأت أول علامات الحياة على كوكبنا فيجش كبير من البكتيريا، قد خلفت تلك البكتيريا علاماتها ليس فقط على صورة حفريات من الكربونيات، بل أيضًا داخل جميع أشكال الحياة البكتيرية، ما السمات المميزة في أشكال البكتيريا الأولية التي سمحت لها بالتواجد؟
وفق مبادئنا الإحصائية الحديثة، إذا كانت فرصة وجود حياة في جميع أنحاء الكون تبلغ واحدًا من مليون مليار، فثمة إذًا فرصة لوجود حياة على كوكب واحد في مكان ما من كل مليون مليار كوكب في الكون.
لا يرغب العلماء في الخوض -كما نوهت- في هذا النوع من النقاش الذي سيتفرع إلى ميتافيزيقيات غالبًا، يقوم علماء مثل فرانسيس كريك وفريد هويل بالإجابة على أسئلة كهذه بـ “لا يمكننا التحديد”، أو كما قال كريك في إحدى المرات: “إما بمحض الصدفة والاحتمالات المعقدة، أو كائنات فضائية ذكية”، وعلى الرغم من أننا لا نرى أي دليلًا على هذا، إلا أننا لا يمكننا أن ننكر أي من هذين الاحتمالين.
يؤيد كريستيان دي دوف أقوالًا كهذه، لست أعني هُنا “الكائنات الفضائية” بالتحديد، ولكن ظُهور الحياة بشكل مفاجئ وليس “تطورها”، يرى كريستيان أن الكيمياء تؤكد لنا أن الحياة يجب أن تظهر سريعًا، ولا يمكن أن تكون ناتجة عن تفاعلات استمرت ألاف السنين (كما تفرض نظريات الـ Primordial soup) فجميع التفاعلات الكيميائية يجب أن تحدث بسرعة وإلا فإنها لا تحدث، وإن كان هناك تفاعل يحتاج الكثير والكثير من الوقت (مليارات السنين) لينتهي، فإنه لن يحدث أصلًا، ستتحلل مواد التفاعل في هذه الفترة الطويلة.
ونحن جميعًا متأكدين أن أصل الحياة ما هو إلا عملية كيميائية، إذًا يرى كريستيان أننا يجب ألا ندرس التاريخ الجيولوجي الطويل للأرض قبل ظهور الحياة، فإنها لم تظهر إلا في غضون آلاف السنين (المدة اللازمة لتفاعل بدائية الحياة من وجهة نظره).
المعضلة التي تظهر في أصل الحياة، هي أن العلم يبحث عن القواعد التي تُنتج الحياة، وليس الاستثناءات التي أدت لوجود حياة، فإن كانت الحياة ظهرت “صُدفةً” أو من خلال كائنات فضائية، فلن يستطيع العلماء أن يجيبوا على سؤال كهذا أبدًا.
تجربة ميلر يوري: بداية الرحلة
تعد تجربة ميلر يوري من واحدة من أهم التجارب المشابهة لمبدأ (الحساء البدائي – primordial soup) أثناء دراسة ستانلي ميلر للدكتوراه في ذلك الوقت عندما قام بإحدى أهم التجارب التي سيقوم بها طيلة حياته، والتي قد يندم عليها كذلك حت وفاته في عام 2007.
ملأ ميلر دورقًا زجاجيًا كبيرًا بالماء ومجموعة من الغازات كي يحاول محاكاة ما اعتبره الغلاف البدائي لكوكب الأرض في ذلك الوقت وهي: النشادر، الميثان، الهيدروجين، ومن خلال هذا الدورق قام ميلر بتمرير بعض الشرارات الكهربية داخل الدورق كي يحاكي البرق، ثم انتظر لعدة أشهر إلى أن عاين النتيجة بنفسه، وكانت أكثر مما يتمناه.
نجح ميلر بتحضر حساء يحتوي على بعض الأحماض الأمينية (وهي الوحدات الأساسية لبناء البروتين). كانت هذه التجربة هي الأشهر على الإطلاق في تاريخ العِلم، وعند ظهورها لأول مرة في الخمسينات، أحدثت ضجة إعلامية -غير علمية- لم تحدث من قبل مع أي تجربة علمية.
ولكن خسرت التجربة كم كبير من جمهورها حين ظهرت أبحاث أثبتت أن الغلاف الجوي لم يكن به أي من النشادر والهيدروجين، ثم كانت التجارب الأخرى التي حاولت أن تُقلد الحساء (مع تمثيل واقعي أكثر لطبيعة الغلاف الجوي) مخيبة للآمال.
لم تعد تجربة الحساء البدائي من بعد ذلك سوى أمرًا مثيرًا للاهتمام لأنه استطاع تكوين بعض الأحماض الأمينية، ولكنه فشل في غير ذلك أن يكون تفسيرًا لأصل الحياة. بالرغم من ذلك لا يزال للحساء البدائي جمهور غير قليل يظهر في كل مرة يتم الإعلان فيها عن إيجاد أحماض نووية على بعض النيازك أو الكواكب الخارجية.
المشكلة في الحساء البدائي، حتى وإن كان حقيقيًا، أنه لا يفسر أبدًا أصل الحياة، فماذا سيفعل الحساء؟ جرب أن تأخذ حساء والدتك أو أي مادة عضوية تريد أن تسميها “حساء” وضعها لملايين السنين على أحد الكواكب الخارجية أو في فناء منزلك، هل ستخلق “حياة”؟ بالطبع لا، ستتحلل فقط محتويات الحساء إلى مكونات أبسط بمرور الزمن، ومن الطريف أنك إذا حاكيت ما فعله ميلر أكثر، وقمت بتمرير بعض الكهرباء، فكل ما ستفعله هو أنك ستزيد من سرعة تحلل الحساء.
المداخن
المداخن تُعد أحد التفسيرات الأكثر قبولًا اليوم (أو على الأقل أكثر من الحساء البدائي)، بدأت القصة في القرن الخالي عندما رُصدت تيارات مياه دافئة صاعدة عند جزر جالاباجوس، لم يكن الأمر مثيرًا للاهتمام حتى السبعينيات عندما هبطت غواصة أمريكية لتبحث عن الـoceanic hydrothermal vents (والتي سنعرفها اختصارًا بمداخن المياه).
لم يكن من الصادم أن تجد تلك الغواصة الفوهات المائية، فكان من المؤكد وجودها، ولكنها كانت صدمة كبرى أن توجد مجموعة متنوعة من الحياة في أعماق هذا الأخدود، كانت هناك ديدان يبلغ طولها أقدام، ومحار وحيوانات بحرية يصل حجمها لأطباق الطعام، وإن كانت لا تثير دهشتك وجود هذه الحيوانات، فيجب أن تثيرها وفرتها، كانت هذه الحيوانات في الأخدود بكثافة تفوق كثافتها في الغابات والشعب المرجانية، مع أنه في هذا الأخدود المظلم لا يوجد سوى المداخن السوداء، لا يوجد شمس تأخذ منها الطاقة.
إذا رأيت هذه الصورة أعلاه، وكنت عالم جيولوجيا ولك بعض المعرفة بالبيولوجيا والكيمياء، فلعلك تعلم جيدًا أن هذا آخر ما يمكن أن تتواجد عنده الحياة، مع مداخن سوداء ينبعث منها كبريت وكبريتيد هيدروجين -القاتلين للكثير من الكائنات- فكيف تتواجد على حواف تلك الفوهات ديدان ضخمة وأسراب من الجمبري وكأنها تبحث عن الحياة، إنها لا تحاول فقط أن تتحمل الظروف القاسية، بل تستمد الحياة منها أيضًا.
الإجابة العلمية هي الـDisequilibrium، أو انعدام التوازن. تتخلل مياه البحر الصهارة الموجودة أسفل المداخن، وتنتج الأملاح ككبريتيد الهيدروجين، الذي تأخذه بكتيريا الكبريت لتستخلص الهيدروجين منه وتربطه بثاني أكسيد الكربون، والنتيجة: مواد عضوية. هذا التفاعل هو ما يخلق الحياة في هذه الفوهات ويسمح لها بالازدهار دون وجود مصدر لضوء الشمس.
لم يمر وقتٌ طويل حتى لفتت تلك الفوهات انتباه العلماء المعنيين بدراسة أصل الحياة كجون باروس، حلت المداخن العديد من التساؤلات في فرضية الحساء البدائي، أبرزها هي الديناميكا الحرارية، فالمداخن لا تقترب من قريب أو بعيد بمفهوم التوازن الديناميكي، بيد أن هذا التفاعل كان مختلفًا في سنوات الأرض المبكرة، ولم تكن القوى المحركة للتفاعل معتمدة على الأكسجين وكبريتيد الهيدروجين كما هي اليوم، فلابد من أن عملية التنفس قد استغرقت وقتًا طويلًا لتصبح بهذا الشكل المعقد ويستحيل أن تكون هي مصدر الطاقة التي استخدمته الخلايا الأولى، ولكن، كما يفترض جونتر فاختزهاوز، كان المُحرك الأساسي لهذا التفاعل هو تكوين بيريت الحديد.
ابتكر فاختزهاوزر مخططًا كيميائيًا مميزًا للغاية عن أصل الحياة، الطاقة التي تنتج من تفاعل البيريت ليست كافية لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مادة عضوية ولكنها كافية لتكوين أول أكسيد الكربون، وهو الغاز الموجود بالفعل في الفوهات الحمضية.
لكن المشاكل لا تنتهي هنا، فنحن نعاني من مناطق ضعف أخرى كمأزق التركيز، فإن وضعت أي جزيئات عضوية في الماء ستحلل جميعها وتنفصل عن بعضها ويستحيل أن تلتقي ببعض مرة أخرى مكونة بوليمرات، يقترح علماء آخرون مثل مايك راسل نظرية مناظرة لنظرية فاختزهاوز والمداخن السوداء، المشترك بينه وبين نظرية فاختزهاوز أن المداخن تلعب دورًا مهمًا فيها، ولكنهما يختلفان أشد الاختلاف، يعتمد أحدهما على النشاط البركاني والآخر على نقيضه، وأحدهما على القوليات والآخر على الأحماض، لن أخوض في تفاصيل النموذجين أكثر من هذا وسأترك لك رحلة الاكتشاف في باقي الفصل، لننتقل لمبحثٍ آخر.
الجنس
لن يسمح لنا مقالٍ قصير كهذا بالحديث عن جميع المباحث بإيجاز -كما ذكرت- ولكن قد يمكننا أن نتحدث عن واحد أو إثنين، لذا فضلت اختيار أكثر مبحثين تشويقًا لي. سبق وأن تحدثت عن مبحث الجنس البشري في مراجعة لكتاب القرد العاري لعالم الحيوان ديفيد موريس وكتاب علم النفس التطوري لديفد بوس، إلا أن المبحث يختلف في كتاب لين يختلف تمامًا عن نظرية الذين ذكرتهما.
فنحن هنا لسنا بصدد تفسير الجنس اجتماعيًا من منظور تطوري (كما فعل موريس وبوس، فقاما بتفسير الأشكال الاجتماعية التي يأخذها الجنس في حياة البشر بناءً على أساليب تطورية)، بل نحن بصدد النظر إلى هذه الظاهرة في جميع أنواع الكائنات الحية، من الزهرة الصغيرة وحتى الإنسان.
تقول إحدى النكات المشهورة التي تُنسب تارةً لأينشتاين وتارةً لستيفن هوكينج، وهي في الواقع لبرنارد شو، إنه كانت هناك ممثلة مسرحية جميلة للغاية حاولت أن تغريه بنفسها قائلةً: “ما رأيك بأن ننجب طفلًا؛ سيكون نموذجًا مثاليًا بجمالي الباهر وعقلك العبقري“، فرد شو: “ولكن ماذا سيكون حاله إذا نعم بجمالي أنا وعقلك أنت؟“.
وفي الحق أن شو هنا لا يظهر فقط براعته الساخرة بل أيضًا عبثية التكاثر الجنسي، لطالما فرض العلماء التطوريين أن البقاء “للأصلح”، الذي سيصمد أمام جميع الظروف البيئية الصعبة، ولكن ما أن يتكاثر هذا الأصلح جنسيًا سينتج عنه توليفة غير مطابقة له تمامًا، بل بالعكس قد تُشتق من جيناته الفاسدة، ولم يلحظ البشر هذا إلا نادرًا لذا نجدهم يؤسسون مؤسسة مثيرة للسخرية، وهي “بنك نوبل للحيوانات النووية” والتي تحتوي على حيوانات منوية لجميع من حازوا نوبل في العلوم.
كان عالم الكيمياء جورج والد من أكثر الناس الذين لاحظوا هذه العبثية، فعندما طُلب منه أن يتبرع بسائله قال للمؤسسة إنهم يجدر بهم أن يأخذوا سائل والده الخياط، فهو من أنجب عالمًا، ولكن “سائلي المنوي لم ينجب إلا عازف جيتار عادي (يقصد ابنه)“.
إذًا، لماذا قد يريد أحدٌ أن يُفسد مزيج ناجح (كالمزيج البيولوجي الذي وصل له فردٌ ما) من خلال خلطه مع مزيج آخر قد لا يكون ناجحًا تمامًا، أو حتى لو كان ناجحًا -كحالة برنارد شو- فإنه قد ينتج مزيجًا أسوأ؟ (يرجى الانتباه أن حديثنا يصب تمامًا في الجانب البيولوجي وحسب، ولسنا بالضرورة نتحدث حتى عن الحالات البشرية) لما لا نستنسخ المزيج الجيد فحسب ونقضي على أي فرصة لوجود مزيج سيئ؟
لنضرب مثالًا على ما يحدث بمرض الأنيميا المنجلي (sickle-cell anaemia)، هو في الأساس مرض وراثي تتوقف فيه خلايا الدم الحمراء عن الانضغاط داخل العشيرات الدموية، ينتج هذا المرض في الأساس عن وراثة جينين لم يقم الانتقاء الطبيعي بالتخلص منهما على مر الزمان، لم لا؟ لأن وجود أحدمها أمر مفيد جدًا! فنحن إذا ورثنا نسخة سليمة وأخرى فاسدة من أبوينا، فإن النتيجة لن تكون فقط سلامتنا من الوباء، بل سنكون محصنين من الإصابة بالملاريا، إذ أن وجود إحدى الجينين السليمين عندنا يبدل من طبيعة خلايا الدم الحمراء ما يحصنها من دخول الملاريا بها، ولن تستطع أن تتحول إلى الشكل المنجلي الضار لعدم اكتمال الجينين.
ولكن هذه الفائدة تقودنا لمشكلة أخرى، فإنه بعد أن ينجو الأطفال من الملاريا والأنيميا المنجلية، سيكون الجينين موجودين عند كليهما، وإذا تكاثر هذان الطفلان (لا جنسيًا، فرضًا بإمكانية التناسخ) فسينجب أطفال آخرين سليمين مثلهما، ولكن عندما سيتكاثران جنسيًا -وهذا ما يحدث- فإن الأجيال القادمة ستكون في ورطة، فالتكاثر الجنسي لا ينقل الجينات فقط بل يخلطها، فإن نصف الأطفال سينتقل لهم الجينات، ولكن ربعهم فقط سيأخذ النسختين المعيبيتين من الجين ما سيصيبهم بأنيميا الخلايا المنجلية، والربع الأخر سيحصل على جينين سليمين، أي أنه سيصاب بالمرض. إذًا فالتكاثر الجنسي في هذه الحالة إذا كان ينقذ البعض من الإصابة بالملاريا، فإنه يعرض حياة أكثر من نصف الجيل للخطر مباشرةً.
نحن إذًا بدأنا الحديث عن عيوب التكاثر الجنسي التي لن ننتهي، ويمكننا أن نذكر هنا كتاب جاريد دياموند “لم الجنس ممتع”؟ فشيء كهذا لا يجب أن يكون ممتعًا على الإطلاق، بل خطر كبير يهدد وجود الكائنات الحية يجب أن تحذر منه، ومن الطريف أن دياموند أغفل عن تقديم إجابة في الكتاب؛ لو لم يكن ممتعًا، لما عرضت تلك الأنواع حياتها للخطر.
أعتقد أننا لا نحتاج الحديث عن التكاليف العالية للجنس، ولا أقصد هنا تحديدًا تكلفة العثور على شريك أو حتى الحفاظ عليه، والتي قد تكون باهظة للغاية، ولكن نعني بالأخص التكلفة البيولوجية والتي يصعب إدراكها في المجتمعات البشرية.
ولنضرب مثالًا على ذلك في إحدى الكائنات التي حرفيًا تقوم بعملية انتحارية لأجل الجنس، وهو الطاووس، فذيله الرائعة الذي يدل على خصوبته الذكرية ولياقته، يشكل دون أدنى شك عقبة كبيرة تحول بين بقائه حيًا.
داروين وفائدة الجنس
كان داروين من أوائل من حاولوا أن يصلوا لفائدة للجنس، وكان براجماتيًا كعادته في بحثه عن فائدته، فكان يرى أن الفائدة الرئيسية هو أنه نشاط تهجيني لأبوين لا قرابة بينهما -غالبًا- هو أنسب وسيلة لمعاناة وراثية أقل مما إذا كان الأبوين بصلة قريبة، أو إن كانا واحدًا (في حالة التكاثر اللاجنسي)، الأمثلة على ذلك كثيرة، إذا كنت لا ترصدها في جواز الأقارب المنتشر ببعض الدول العربية، فيمكنك أن تعود للمالك الأوروبية القديمة لتجد معاقين ومعتوهين جاءوا نتاجًا عن زواج الأقارب.
الجنس -بالنسبة لداروين- هدفه الأول هو زواج ما قد نطلق عليه “الأباعد” وليس المتقاربين، ومن الطريف حقًا حياة داروين كانت دليلًا محزنًا على هذا، بيد أن زوجة داروين، إيما ويدجوود، كانت ابنة عمه وقد مات لهما عدد من أطفالهما العشرة نتاجًا عن أمراضهم الوراثية.
يتضح في كلام داروين الجهل التام بالجينات، التي لم تكتشف وقتها، ولكن سنستعير لفظ “النشاط التهجيني” ليشمل الحديث عن الجينات، عدا ذلك فكلامه صحيح، فإن زواج الأباعد أقل عرضة لجيل من المرضى الذين يموتون في طفولتهم، وسيبقى عدد أكبر من الجينات للأجيال القادمة، ولكن أيًا يكن، هذا يفسر لنا لما لا يجب أن نمارس الجنس مع أقاربنا، ولكنه لا يفسر لنا لماذا نمارس الجنس من الأصل.
الخطوة الأولى في الجنس هو اندماج الخليتين (الحيوان المنوي/البويضة) اللذين يعطيان مجموعة من الكروموسومات تكون مجموعتين كاملة في النهاية للبويضة، قليلًا ما تكون المجموعتان متشابهتين، وإن كانت أحدهما به جينات فاسدة فيمكن للآخر أن يمحو آثارها، وهنا تكمن قوة النشاط التهجيني الذي تحدث عنه داروين، ففي الناحية الأخرى يرفع زواج الأقارب احتمالية الإصابة بالأمراض الوراثية لأنك ستحمل نسختين فاسدتين من نفس الجين.
الخطوة التالية تكون في تجديد الخلايا الجنسية التي يمكن اعتبارها المفتاح الرئيسي للتكاثر الجنسي، تعرف عادة بالانقسام الاختزالي (meiosis)، وهو أيضًا من أصعب الانقسامات تفسيرًا، إلا أنه مميز لأن الكروموسومات فيه تتحرك أمام نظائرها وتحتضنها ثم تنقل فجأة إلى قطبي الخلية.
تحدث هنا مرحلة تدعى بالعبور، في هذا الانقسام وفي تلك المرحلة يخلط التكاثر الجنسي الجينات لصياغة تراكيب جديدة وخلق تواليف جينية لم تخلق من قبل، وهو يفعل ذلك خلال الجينوم كله وكأنه يحاول توزيع ورقة لعب يحصل فيها جميع المتنافسين على عدد عادل من الأوراق.
ولكن، لماذا؟ لا يجب أن أخوض في الإجابة أكثر من ذلك وإلا أفسدت الفَصل كله عليك، لذا سأتركك تستكشفه بنفسك من خلال قراءة كتاب “ارتقاء الحياة: الاختراعات العشرة العظيمة للتطور” لعالم الكيمياء الحيوية نيك لين.
This post is also available in: English (الإنجليزية)