الوصف
هذا الكتاب الجماعي الذي كتبه عدد من الباحثين المهتمّين بالشأن الإفريقي، وأشرف على تحريره خبير متضلّع بالشؤون الإفريقية، يلقي الضوء على منطقة واسعة وقضيّة واحدة وهي أن من الواضح أن الجيش والسياسية لا يجتمعان، إذا يُعتبر تدخل العسكريين في الحياة السياسية بوجه عام منافيًا للتقاليد والقيم الديمقراطية. وربما يُعزى ذلك لجملة من العوامل أبرزها أن بنية عمل المؤسّسة العسكريّة وأسلوبها الذي يقوم على التدرّج القيادي ومبدأ تنفيذ الأوامر دون نقاش لا يتفقان مع روح النظام الديمقراطي.
وإذا أخذ المرء بعين الاعتبار المحاولات الانقلابيّة الفاشلة التي تعرّضت لها معظم النّظم الحاكمة في إفريقيا؛ فإننا نستطيع أن نحصي ما يربو على مئتَيْ انقلاب، أبقت كثيرا من دول إفريقيا ضعيفة، وفقيرة، وجاهلة. غير أن هذا التعميم لا يُغني عن الاطلاع على تفاصيل هذه المأساة التي صنعتها الجيوش وطبّقها العساكر في القارّة كما تشرح وتوثّق هذه النصوص.
الدور السياسي للجيوش
يأتي الفصل الأول الذي كتبه الدكتور أحمد عبد ربه بعنوان “الاتجاهات الحديثة في دراسة الدور السياسي للجيوش” متفحّصاً منظور الدراسات الغربية في علم الاجتماع العسكري.
ويقول إنه يهيمن ذلك الحقل على التنظير الأميركي. إذ يعدّ العمل الأبرز في هذا السياق دراسة هنتغتون “الجندي والدولة: نظرية وسياسة العلاقات المدنية – العسكرية”، والتي كتبها خلال الحرب الباردة، وهو تنظير لا ينطبق على السياق الأفريقي كما يرى الكاتب.
يميز هنتغتون في هذا الكتاب بين المهنية والعمل أو الوظيفة. “والفرضية الأقوى في الكتاب” على حد تعبيره أن الضباط يشكلون مهنة تقوم على مجموعة أخلاقيات يلخصها المؤلف في مكونات منها: الخبرة (في هذه الحالة الخبرة في إدارة العنف)، والمسؤولية، والكوربوراتية (أي وجود جسم متعاضد). يلاحظ عزمي بشارة في كتاب له عن الجيش والسياسة أن تعريف هنتغتون للعناصر الثلاثة لمهنية العسكر المشتقة من الهيمنة بحد ذاتها، وليس الاحتراف المشتق من وظيفتهم هو بحد ذاته إعادة تعريف الجيش بوصفه طبقة اجتماعية ذات مصالح محددة، ووعي تلك المصالح وآليات تعاضدية، وجعل تعامله مع المجتمع وفئاته من منطلق مصالح هذه الطبقة بوسائل التعاون والتفاوض والصراع.
المشكلة في حالة دول أفريقيا أن مؤسسة الجيش برزت بعد الاستقلال بوصفها الجهاز الأقوى الذي راهن عليه المجتمع والقوى الغربية على السواء في بناء الدولة. و(الاستقلالية المهنية) مكنته من تحقيق استقلالية فعلية عن المؤسسة السياسية، حيث يكون وزير الدفاع نفسه عسكرياً، ويتصرف الجيش بميزانيته من دون رقيب أو حسيب، ويدير علاقات حتى مع الخارج من دون المرور بالحكومة، ويصبح جلّ همّه الحفاظ على امتيازاته التي ربما تتسع لتشمل قرارات سياسات الحرب والسلم، وهي ظاهرة عرفتها معظم دول أفريقيا، إلى درجة أصبحت همّ الجيش الرئيس، وأصبح الاستيلاء على الحكم سبيلاً وحيداً للحفاظ على الامتيازات وحمياتها من احتمالات التحول الديمقراطي ومخاطره.
إشكاليات العلاقات المدنية العسكرية
في الفصل الثاني الذي كتبه الدكتور حمدي عبد الرحمن بعنوان “الجيوش والسياسة في أفريقيا” فإنه يعترض لإشكاليات العلاقات المدنية العسكرية في أفريقيا منذ الاستقلال وحتى مرحلة ما بعد الحرب البادرة. ويشير إلى أن طبيعة تأسيس الجيوش الأفريقية تعود لعهد الاستعمار، ويقول “كان الدور المنوط بالجيوش الأفريقية يتمثل في قمع الشعوب مع دعم وحماية النظم القائمة، ولا يزال دور هذه الجيوش غير معروف في كثير من الأحيان، كما أن الدور المهمين للقيادة السياسية في عقد دولة الحزب الواحد منذ أواخر الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات حيث كان الحزب مرادفاً للدولة”، وهذا يفسر بسبب أن الجيش برز بوصفه جهاز الدولة الأكبر والأقوى والأكثر انضباطاً من بين جميع مؤسسات الدولة والمجتمع.
ولاحقاً، يقول حمدي، عمد كثير من الزعماء الأفارقة بعد الاستقلال إلى التوظيف السياسي للجيوش الوطنية بمعنى استخدامها لتحقيق غايات سياسية مثل قمع المعارضة السياسية وحشد التأييد السياسي للنظام الحاكم، وأفضى ذلك إلى حدوث موجة من الانقلابات العسكرية منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، فخلال الفترة من 1966 وحتى 1978 شهدت أفريقيا اكثر من مائة انقلاب عسكري ومحاولة انقلابية، وبحلول عام 1978 كان ما يزيد عن نصف دول القارة يحكم بواسطة العسكريين. بل إن كثيراً من هذه الدول قد خضع للحكم العسكري منذ استقلالها أكثر من فترة خضوعها للحكم المدني.
وللحدّ من هذه الانقلابات، أعلن الاتحاد الأفريقي (سادك) وجماعة شرق أفريقيا والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) رفضهم الانقلابات والتغيرات غير الدستورية في الحكومات، بيد أن هذا الرفض يفتقر إلى الحزم والمصداقية، كما يقول حمدي، مضيفاً أن الانقلابيين يعلمون ذلك جيداً، وعادة ما يرسخ العسكر أقدامهم بالحكم ويوعدون بنقل سريع للسطلة، ثم تأتي الانتخابات الموعودة وكأنها عملية تطهير ثانية يبرز فيها عسكري بلباس مدني، ألم يكن كومباوري نفسه انقلابيا أطاح صديقه الثوري توماس سانكارا عام 1986 في مؤامرة إقليمية ودولية لم تعرف أبعادها بعد؟ والعجيب أن هذا الانقلابي، والكلام للدكتور حمدي، أضحى يلقّب بحكيم أفريقيا ويقوم بدور الوسيط في النزاعات السياسية في الغرب الأفريقي.
كل ذلك يعني، يقول المؤلف، أننا أمام حلقة مفرغة من الانقلابات بأشكالها المنوعة، ولكن النتيجة واحدة في جميع حالات تدخل الجيش وهي: موت السياسة.
في الفصل الثالث يتطرق الدكتور محمد عاشور إلى حالة جنوب أفريقيا من خلال دراسة طبيعة وتطور العلاقات المدنية العسكرية، وأثر تلك العلاقة في مسار التحول الديمقراطي في البلاد ومستقبله.
ويشير الباحث إلى أن الجيش في جنوب أفريقيا مرّ في تحولات عدة، كان أهمّها الذي شهده النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، في أعقاب انتخابات 1994، وإعلان جنوب أفريقيا دولة ديمقراطية بعد خروجها من الحكم العنصري. وبحكم مكانتها السياسية والاقتصادية تمكّنت من حكم مدني معقول.
في الفصل الرابع تستعرض الدكتور هالة ثابت تاريخ ونشأة وتطور القوات المسلحة النيجيرية منذ العهد الاستعماري وحتى العصر الحالي، ثم تتناول بالتحليل بالتركيبة الاجتماعية والبنية المؤسسية للجيش، ومنها تنطلق لمناقشة الدور الذي لعبه الجيش في الحياة السياسية النيجيرية منذ الاستقلال، وهو دور سلبي بالأعمّ، فنيجيريا التي يطلق عليها “عملاق أفريقيا” تمتلك قوة سكانية هائلة، وتحتل المرتبة الثامنة عالمياً في تصدير النفط باحتياطي يبلغ 17 مليار برميل، رغم ذلك، تواجه عرقلة في التحول الديمقراطي بسبب التدخل العسكري تارة بالحكم المباشر وتارة بالحكم من وراء ستار.
عسكرة التحول الديمقراطي
وفي الفصل الخامس يناقش الباحث سيد أبو فرحة “عسكرة التحول الديمقراطي في موريتانيا”. ويقول “إن الحالة الموريتانية المرتبطة بعلاقة الجيش بعملية التحول الديمقراطي تقدم حالة نمطية لانقسام الدراسات على المستوين الأفريقي والعربي على السواء. فقد تحدث البعض في أعقاب انقلاب عام 2005 في نواكشوط عن إمكانية قيادة الجيش للتحول الديمقراطي في دولة ما، بيد أن موريتانيا لم تنتظر طويلاً لتثبت عدم رجحان الافتراض الثاني بانقلاب لاحق كشف عن إشكالية عميقة في العلاقات المدنية العسكرية وهي مبدأ السيطرة المدنية”.
إن العلاقة بين الجيش والتحول الديمقراطي في موريتانيا معقدة، إذ تسبقها علاقته بالدولة واعتبارات نشأتها ونشأته، والخبرة المتراكمة في هذه العلاقة، يقول أبوفرحة. “بيد أنه يمكن الجزم وفقاً للخبرة العملية خاصة في موريتانيا أنه لم تكن العلاقة بين الجيش والتحول الديمقراطي في صالح الأخير، وهو ما يتوقع استمراره حال استمرار الظروف المصاحبة لها”.
جدلية المقرطة والعسكر
أما في الفصل السادس والأخير الذي كتبته الدكتورة رواية توفيق بعنوان “جدلية المقرطة والعسكر: تحدي الحرب ضد الإرهاب في كينيا” فتتناول فيه حالة مغايرة لأنماط الجيوش الأفريقية غير المحتلة في الحياة السياسية، فكينيا من الدول الأفريقية القليلة التي لم تشهد تدخلاً مباشراً للعسكريين للسيطرة على السلطة السياسية، ولكن وكما تقول الباحثة لا يعني ذلك أن الجيش كان بعيداً عن التجاذبات السياسية. وفي ظل الوضع الطائفي المبني على الاستقطاب الإثني في البلد، وممارسات الفساد واللجوء إلى منح الامتيازات للقادة العسكريين لضمان ولائهم، انعكاسٌ بيّن على السياسية الكينية عبر تقوية الاستقطاب الإثني والعلاقات الزبائنية.
إضافة لذلك، تتحدث الباحثة بوجود مؤشرات تهديد متصاعد للمؤسسة العسكرية في ضوء تزايد دور وأهمية الأخير، بعد تدخل كينيا في الصومال وبدئها الانضواء تحت ما يسمى “الحرب على الإرهاب”. وهي مؤشرات تهدّد بإقحام المؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية والاجتماعة. ويخلق كيانات جديدة لا تخضع للرقابة وتتّخذ من محاربة الإرهاب ذريعة لإساءة استخدام السلطة، وانتهاك الحقوق الساسية التي كفلها الدستور الجديد (2010).
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية