الوصف
تجديد المنهج في تقويم التراث
“لقد نحونا في تقويم التراث منحى غير مسبوق، ولا مألوف، فهو غير مسبوق لأننا نقول بالنظرة التكاملية، حيث يقول غيرنا بالنظرة التفاضلية، وهو غير مألوف لأننا توسلنا فيه بأدوات مأصولة، حيث توسل غيرنا بأدوات منقولة”.. هكذا يعبر الفيلسوف المغربي د. طه عبد الرحمن عن منهجه الجديد في قراءة التراث العربي الإسلامي، إيمانًا منه، بأن التراث كان ولم يزل “روحًا لا حياة لفكر دونها”.
لذلك أخذ على عاتقه مهمة إعادة قراءة النص التراثي بشكل يبرز حضوره، ومكانته، وتميزه، في مواجهة المشاريع الفكرية التي حاولت هدمه باستخدام أدوات الحداثة الغربية وآلياتها التفكيكية.
من هذا المنطلق، شكل التراث محورًا أساسيًا في فكر عبد الرحمن، إلى الدرجة التي جعلت مواطنه المفكر المغربي عباس أرحيله، يؤكد أنه “لا يمكن الحديث عن مشروع طه عبدالرحمن الفكري، من دون التوقف عند أعماله المخصصة لقراءة التراث العربي الإسلامي”.
وهي الأعمال التي سعى فيها عبد الرحمن إلى تقديم نظرية تكاملية لفهم التراث واستيعابه، بعيدًا عن تلك المشاريع التي تناولت التراث العربي الإسلامي بمنهجيات حداثية غربية أرادت إحداث قطيعة معه، والتي تصدى لها الفيلسوف مبينًا تهافت أفكارها، وضعف حجج أصحابها، وسطحية نظرتهم للتراث، وانقلاب القيم عندهم.
وفي هذا الإطار يأتي كتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث” ليؤصل فيه نظرية تقويمية تكاملية لفهم التراث واستيعابه والاستمداد منه، من خلال منهج رصين، يدعو إلى الارتباط بالتراث روحاً ومنهجاً، والتمسك به علماً وعملاً، في مواجهة تلك العقلانية المجردة، والنظرة التجزيئية، في قراءة التراث.
صدر هذا الكتاب في مرحلة زمنية مبكرة ومهمة من مراحل مشروع عبد الرحمن الفكري والفلسفي، الذي وصف بأنه “مشروع يُحقق للهوية الإسلامية العربية مجال تداولها عقيدة ولغة وفكرًا، قدم من خلاله نظرية تُحصن الهُوية منهجيًا، وتحميها من التشويه والذوبان، نظرية تكاملية خالفَ بها المتداول من أعمال تقويم التراث”.
وفي تصديه للمشاريع الفكرية الحداثية التي حاولت تقويض التراث، لم يقابل عبد الرحمن الهدم بالهدم، بل قابل الهدم بالبناء، فجعل اعتراضاته على الدعوة إلى الانقطاع عن التراث طريقًا ممهدًا لإنشاء نظرية مستقلة، حرص فيها أشد الحرص على استيفاء مقتضيات المنهجية، التي يزعم أصحاب هذه الدعوة القيام بها. واستخلص من تأملاته أن أصحاب تلك الأفكار سلكوا مسارًا معكوسًا في تقويم التراث مستندين إلى مناهج وافدة، ظلمت التراث ظلمًا كبيرًا، فكانوا عاجزين عن الاستقلال عنها، والإتيان بما يقابلها، فقاموا بتطبيقها دون وعي أو إدراك منهم، وربما دون فهم أيضا.
وعلى الرغم من اعتراض عبد الرحمن بشدة على تلك المشاريع، إلا أنه لم ينزلق نحو جدال عقيم وصخب لا طائل منه، فجاء أسلوبه هادئًا، وسلسًا، لكنه لم يخل من القوة، والصرامة، والجدية في الطرح، والتحليل، والنقاش، مستوعبًا كل التساؤلات التي قد تتبادر إلى ذهن القارئ، وكل الاعتراضات التي يمكن أن يوجهها له أصحاب الرؤى المخالفة، إنه جدال هادئ التزم آداب الاعتراض الراسخ.
قسم عبد الرحمن كتابه إلى ثلاثة أبواب، احتوى كل باب على مجموعة من الفصول، غطي كل واحد منها قسمًا من موضوع الباب، فخصص الباب الأول للنظر في التقويم التجزيئي للتراث، وتناول في الباب الثاني جانب تداخل المعارف التي اختص بها التراث أما الباب الثالث، فتناول الجانب الثاني من جوانب التكامل في التراث، وهو جانب تقريب المعارف.
منهجية أخلاقية
خصص المؤلف الباب الأول الذي جاء بعنوان “إبطال التقويم التفاضلي للتراث الإسلامي العربي” لنقد النظرة التفاضلية في تقويم التراث وقد حدد في مقدمة هذا الباب المنهجية التي اعتمد عليها في بحثه والتي قال إنها ثمرة إتباع المبادئ النظرية والعملية.
وأولى المبادئ النظرية التي اعتمدها عبد الرحمن هو التخلص من الأحكام المسبقة، أو الجاهزة، التي اعتاد بعض الباحثين والمفكرين إطلاقها بصدد التراث، ونشرها بين جمهور المشتغلين به.
وثانيها، هو تحصيل معرفة شاملة، بمناهج المتقدمين من علماء الاسلام، ومفكريهم، في مختلف العلوم، مع تحصيل معرفة كافية بالمناهج الحديثة، تمكن من القدرة على تجاوز طور تقليد المناهج، واقتباس النظريات إلى طور الاجتهاد في صنع المناهج، ووضع النظريات.
أما ثالث هذه المبادئ النظرية، فهو استخدام أنسب الوسائل في وصف كل قسم من أقسام التراث، حتى تكون الأحكام صادرة بعناية لتصفح أقصى ما يمكن من جزئيات التراث المختلفة.
وأما المبادئ العملية فأولها التخلص في الأحكام التي يحكم بها على التراث، من الفصل بين جانب المعرفة، وجانب السلوك، حيث يرى فيلسوفنا أن هذا الفصل وقع فيه معظم المشتغلين، بالتراث فكان يُحكم عليه، بما لا يعمل به، ويُقرر بشأنه مالا يصدقه فعله.
وثاني هذه المبادئ العملية، التي اعتمدها المؤلف في بحثه هو تحصيل المعرفة بأصول العمل في التراث، وهي “المنفعة في العلم” و”الصلاح في العمل” و”الاشتراك في طلب الصواب”. معتبرا أن العلم النافع هو ما كان باعثًا على العمل المتعدي، نفعه إلى الغير، وأن العمل الصالح هو ما كان نفعه متعديًا إلى الآجل، وأن الصواب المشترك هو ما كان متحصلاً بطريق مجالسة العلماء ومحاورتهم. وثالث هذه المبادئ هو الاجتهاد في تجديد تكوينه العقلي، بالتزام المقتضيات العملية للتراث.
ويشرح الفيلسوف منهجية بحثه، موضحًا أن التزامه بهذه المبادئ النظرية والعملية دفعه لأن يأخذ بمنهجية تعتمد أساسًا مسلكًا حواريًا موصولاً بالطريقة التي اشتهرت بها الممارسة التراثية وهي طريقة “أهل المناظرة”. هذه الطريقة – كما يوضح الفيلسوف- شملت جميع دوائر المعرفة الاسلامية العربية وهي تُبني على وظائف منطقية تأخذ بمبدأ الاشتراك مع الغير في طلب العلم وطلب العلم بالمعلوم، كما تُبني على قواعد أخلاقية، تأخذ بمبدأ النفع المتعدي إلى الغير أو إلى الآجل.
الوقوع في “فخ التناقض”
ينتقل عبد الرحمن بعد ذلك ليكشف عن المظاهر الأساسية التي يتجلى فيها تجزئ التراث، والأسباب العامة التي أفضت إلى هذه المظاهر التجزيئية، فيرى في الفصل الأول، أن مسالك التقويم التي غلب الأخذ بها عند النقاد والمؤرخين، وعند النظّار والمنظّرين، من الباحثين المعاصرين، عربًا أو مستشرقين، آثرت الاقتصار على نقد مضامين التراث، من دون الوسائل التي عملت على توليد هذه المضامين، وتشكيل صورها، وهذا هو التقويم التجزيئي الذي دلل عليه.
وبعد إثبات دعواه هذه، ينتقل عبد الرحمن في الفصلين الثاني والثالث إلى تحليل نموذج المفكر محمد عابد الجابري الذي يعتبره من أكثر النماذج التقويمية للتراث، التي وقعت في فخ التجزيء من خلال بناء منهجه على آليات وافدة أوقعته في “فخ التناقض”. ويرى فيلسوفنا أن نموذج الجابري دخلت عليه آفتان عظيمتان، الأولى آفة التعارض بين ادعاء عدم التجزيء، أو ادعاء التكامل، والثانية هي آفة القصور في تحصيل المقتضيات الاجرائية للآليات التي وقع التوسل بها في تقويم التراث.
اتخذ الجابري – وفقا لعبد الرحمن- موقفًا تفاضليًا واجتزائيًا من التراث، فتناول في كتبه الثلاثة “نحن والتراث” و”تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” المفاهيم الأساسية التي وردت في دعوى التقويم التجزيئي التي دلل عليها منها مفهوم “النظرة التجزيئية”، في مقابل “النظرة الشمولية”، ومفهوم “الآلية المنتجة”، في مقابل “المضمون الفكري”.
وكان نتيجة استخدام الجابري آليات عقلانية تتصف بالتجريد، وآليات فكرانية تتصف بالتسييس، فقد انساق – بحسب عبد الرحمن- إلى إنكار ما كان من مبادئ التراث الاسلامي، العربي، فهو لا يأخذ بالتجريد ولا يقر بالتسييس، ولقد اندفع إلى القدح في العاملين بهذه المبادئ الأصلية، والتشنيع بآرائهم ومواقفهم، ومن هذه المبادئ الجمع بين القيمة الخلقية والواقع، والجمع بين القيمة الروحية والعلم، والجمع بين القيمة الحوارية والصواب. حتى أن الجابري لم يحط بالتقنيات الاجرائية والضوابط المنطقية للآليات التجريدية، والتسييسية، التي اقتبسها وأنزلها على التراث، فاستخدم آلية التخصيص العقلي، لكنه أساء استخدامها بحمل العقل على مدلول هو نقيض المراد من النصوص الأجنبية التي اعتمدها.
وتوسل الجابري بآلية المقابلة غير أنه أفسد هذا التوسل بأن طابق في المعقولات واللا معقولات بين ما لا تجب المطابقة بينه وعارض فيها ما لا تجب المعارضة بينه كما استعمل آلية التقسيم، إلا أنه أساء هذا الاستعمال بأن زاوج فيها بين المعايير المختلفة واستخدم آلية المماثلة لكنه أفسد الاستخدام بأن أسقط عناصر أساسية من صورتها الاستدلالية فضلاً عن تأوّل نصوصها على خلاف مقصودها.. هذه الآليات العقلانية والفكرانية الغربية التي اعتمدها الجابري في نظرته للتراث وبناء نموذجه التقويمي، أوقعته في فخ النظرة التجزيئية، بموجب تفاوت مقتضيات هذه الآليات مع مقومات التراث.
وذهب عبد الرحمن إلى أبعد من ذلك في نقده لنموذج الجابري، وأكد أن عدم معرفة الأخير بتقنيات وضوابط هذه الآليات وكيفية استخدامها على وجهها الصحيح، أدى إلى تضاعف أخطاء نظرته للتراث وتزايد تهافتها، فبالإضافة إلى سوءة التجزيء بسبب تقليد آليات الغير، نتجت سوءة أخرى، وهي فساد التجزيء بسبب نقص العلم بتقنيات هذه الآليات.
النظرة التكاملية للتراث
الباب الثاني خصصه عبد الرحمن للحديث عن النظرة التكاملية للتراث، والتي ينطلق فيها من معيارين: أولهما تحقق التداخل والتقريب في مجموع المعارف التراثية، مع مراعاة النظر والتمحيص في العلوم الأقرب والبعد إلى المجال التداولي الإسلامي العربي، والتي حددها في أربعة علوم هي “أصول الفقه”، “علم الأخلاق”، “المنطق الصوري”، “الفلسفة الإلهية”.
والمعيار الثاني هو التعرض لشرائط الرد على اعتراضات خصوم النظرة التكاملية، وما صاحبها من تجزئ معرفي، وأيضا تجزئ قطري مشرقي ومغربي أندلسي.
قسم الباب الثاني إلى ثلاثة فصول، عالج في الأول التقويم التكاملي والبناء الآلي للتراث، من حيث كونه يهتم باستكشاف الآليات الإنتاجية التي تصلح لمختلف العلوم، وتستحكم في مضامين النصوص التراثية، وهي آليات مادية وأخرى صورية. وفي ذلك يرى عبد الرحمن أن علاقة الآلية بالعلم علاقة جذرية، حيث اصطبغت في تعاملها أو استيعابها للمضمون التراثي بصبغات الخدمة والعمل والمنهج، وفي كل صبغة تبدو ملامح العلاقة قوية بين الآلية والتراث في التناول والمقصدية والنتائج.
وعالج الفصل الثاني التداخل المعرفي الداخلي وتكامل التراث، باعتبار التداخل في العلوم ناتجًا عن الممارسة التراثية، تراتبيًا، وتفاعليًا، ولم يأت كلام عبد الرحمن مرسلاً، ولكنه جاء مدعومًا بحجج قوية ومنطقية، مستشهدًا في تحليله ونقاشه وبرهنته على صدق دعواه بما ورد في المصنفات الإسلامية الشهيرة، وآراء مؤلفيها، كما عند “ابن حزم” في رسالة “مراتب العلوم” و”الغزالي” في “ميزان العمل” و”الشاطبي” في “الموافقات”.
جاء الفصل الثالث أكثر ملامسة لجزئيات الدعوى المطروحة حول التداخل المعرفي، الخارجي، وتكامل التراث.
وقد اعتمد هنا إنتاج “ابن رشد” في مجال الفلسفة الإلهية، نموذجًا أثبت من خلاله أن التشكل بين العلوم لا يعني الانفصام، وإنما يعني الترابط والمطابقة، وأن مسألة التداخل واردة فيما أسماه “بالمسكوت عنه” في النصوص الرشدية.
وقد أثبت عبد الرحمن في نهاية تحليله لهذا الباب، بالحجة والبرهان، دعواه بصدد البناء التكاملي للتراث مبينًا أن أهم مظاهر الشمول في هذا التكامل هو تداخل المعارف التراثية وأهم مظاهر التتميم هو تقريب العلوم المنقولة.
كما أثبت فيلسوفنا أيضًا دعواه المتعلقة بالتداخل الداخلي، الذي حدث بين علمي الأخلاق وأصول الفقه، فبيّن كيف أن علم الأخلاق، يزود علم الأصول بقواعد راسخة، وشرائط محكمة، وقيما زكية، داخلاً في نسبة راسخة معه، ومفيدًا فروع الفقه، إفادة شاملة.
وأثبت دعواه الثانية، التي تتعلق بالتداخل الخارجي، الذي تم بين الفلسفة الإلهية، وعلم الكلام، مبينًا كيف دخل علم الكلام، في الإلهيات، من طريق آليات الإستشكال، التي تتعلق بمضامين المفاهيم، والاحكام الكلامية، وآليات الاستدلال، التي تتعلق بطرق استنباط المسائل الكلامية.
ضروب “التقريب الفاسد”
انتقل المؤلف بعد ذلك لاستجلاء “النظرة التكاملية للتراث الإسلامي العربي”، وهو عنوان الباب الثالث من كتابه، وهذه النظرة استدعت عنده تحليل ومناقشة ما أسماه دعوى “التقريب التداولي” (وهو مصطلح خاص به) منطلقًا من كون التقريب هو “وصل المعرفة المنقولة بباقي المعارف الأصلية” أو ما يوجزه “جعل المنقول موصولاً” وبما أن الوصل في جوهره وصل بما هو أصلي فإن التقريب هو “جعل المنقول مأصولاً”. موضحا أن المنقولات التي تواردت على التراث تنوعت في مواضيعها ومناهجها وأن أصنافا مختلفة من هذه المنقولات تزامنت وتفاعلت فيما بينها وأن أشكال التقريب التي خضعت لها استمرت على مدى الأطوار التي تقلب فيها هذا التراث مستخلصًا من ذلك أن هذا التنوع في المنقولات والتفاعل بين أصنافها والاستمرار في تقريبها ما هو إلا دليل آخر على أن التكامل وصف راسخ في الممارسة التراثية.
قسم هذا الباب إلى أربعة فصول، تناول الأول أصول مجال التداول الإسلامي العربي باعتباره “الدعامة الأساسية التي تستند إليها نظريته في تكامل التراث”، وأيضًا لكونه أداة من أدوات تقويم التراث، لذلك اهتم المؤلف بتحديد مفاهيمه، وأركانه وقواعده، والإجابة عن التساؤلات المفترضة حوله. ومن خلال التحليل والشرح المدعوم، يستخلص عبد الرحمن النتائج المتوقعة ويتحدد المجال التداولي الإسلامي العربي في العقيدة واللغة والمعرفة.
وحلل المؤلف في الفصل الثاني عناصر أصول التقريب التداولي الإسلامي العربي، مستندًا إلى ما ورد في كتابات الفلاسفة والمناطقة وعلماء الشريعة، وغيرهم، فالعنصر الأول وهو “خصوصية التقريب التداولي” ورأى أنه مرتكز على مبدأين هما التمييز والتضاد، ومن خلالهما يكشف الدعوى الخاصة بالتقريب بمفاهيمها وأوصافها المتباينة.
أما العنصر الثاني وهو “الآليات الصورية للتقريب التداولي” فترتكز على أنوع كثيرة من آليات أهمها: آلية الإضافة والحذف، والإبدال والقلب، والتفريق والمقابلة، وانتقل بعد تعريف هذه الآليات إلى المجال التطبيقي لإثبات الدعاوى المثارة، مؤكدًا صدق التوجه في الطرح. ثم تناول ضروب “التقريب الفاسد” وشرائطه وآفات وظائفه التداولية. وهو العنصر الثالث من عناصر أصول التقريب التداولي الإسلامي العربي التي تحدث عنها.
وفي الفصل الثالث ناقش عبد الرحمن “آليات تقريب المنطق اليوناني”، تطبيقًا للدعاوى المطروحة في الممارسة التراثية في المنقول المنطقي. وقد وزع هذا الفصل على مباحث تختص بتحليل ونقاش موضوع علم المنطق المعنوي والفكري، ومنهجه التجريدي، سواء تعلق الأمر بالعمل في التقريب اللغوي “الاستعمال”، أو العقدي “الاشتغال” أو المعرفي “الإعمال” تطبيقا على ثلاثة نماذج هي ابن حزم، الغزالي، ابن تيمية. مؤكدا أن المنطق متغلغل في التجريد موضوعًا ومنهجًا، وأن تقريبه اقتضى صرف هذا التجريد الفاحش، فتولى ابن حزم، رفع التجريد اللغوي الناتج عن اعوجاج عبارته، وقام الغزالي، برفع التجريد العقدي الذي نتج عن ترك طلب الآجل، فيما تولى ابن تيمية رفع التجريد، الناتج عن ترك اعتبار العمل جملة وتفصيلاً.
ويثبت فيلسوفنا في الفصل الرابع والأخير، دعوى التقريب التداولي للأخلاق، مبينًا كيف أن علم الأخلاق، وإن تعلق بموضوع عملي، فإنه سُلك فيه مسلكًا تجريديًا تطلّب التصحيح، فتم تصحيح المفاهيم الأخلاقية باستيفاء مقتضيات الاستعمال في باب الدلالة والاحالة، كما تم تصحيح أحكامه بإقامة مقتضيات الاشتغال في باب الايمان بالله، ومعاني الفطرة، وجرى تصحيح مجموع المفاهيم، والأحكام الأخلاقية، باستيفاء مقتضيات الإعمال المعرفي في باب التطبيق الظاهر والتحقيق الباطن.
وتُعنى مباحث هذا الفصل بالتقريب اللغوي في علاقة المعنى الاصطلاحي الأخلاقي، بالمعنى اللغوي، والتقريب العقدي، من حيث المفهوم، ومن حيث المبدأ والتقريب المعرفي اعتمادًا على علاقة العقل باللغة، وناقش عبد الرحمن الآراء المختلفة، في أدق جزئياتها، موضحًا بصورة كبيرة الصلة المتينة، التي تربط الشريعة الإسلامية، ومدى استفادتها من النظريات الأخلاقية، اليونانية، والفارسية.
ويبقى أن نشير إلى أن هذا الكتاب، وإن كانت مادته فكرية، وتتناول موضوعًا ليس بالسهل استيعابه، لغير المتخصصين، إلا أن سهولة اللغة ودقة المصطلحات، وذكاء العرض، مع تسلسل الأفكار، ومزجه الأدب بالفلسفة، كل ذلك جعل الكتاب يسيرًا في استيعابه، ممتعًا في قراءته، وهذا ليس بالأمر الجديد على كتب طه عبد الرحمن وأسلوبه.
تجديد المنهج في تقويم التراث
لمزيد من الكتب .. زوروا منصة الكتب العالمية