أدب الغناء في العصر العباسي

عنوان الكتاب أدب الغناء في العصر العباسي
المؤلف مزنة كمال
الناشر دار الوراق للنشر
البلد الأردن
تاريخ النشر 2019
عدد الصفحات 220

أشتري الكتاب حقوق الترجمة

الوصف

مقدمة الكتاب

يسعى الإنسان منذ خُلق لتحقيق استمراره في الحياة بالبحث عن مقومات وجوده. وفي غمرة سعيه نحو الأمثل، شاقته صور الجمال في الوجود، وأعجبه ما رأى وما سمع من أشكال الكون وألوانه وأصواته، فكان الجمال محرضاً معرفياً دفع الإنسان إلى البحث عنه، والسعي إلى معرفته، ومن ثم التعبير عن مواقفه منه في سُبُلٍ شتى تطورت عنها أنواع الفنون، فكان الفن انعكاساً للشعور الإنساني بالجمال، وتعبيراً عن رغبته في أن يحيط نفسه به في حال غيابه، ووسيلة من وسائل التواصل بينه وبين أبناء جنسه.

وتفاوتت مراتب الفن بحسب ترقي الإنسان من المادي المحسوس إلى المجرَّد المُدرَك، وكانت الموسيقى أرقى الفنون، وأعلاها شأناً، لتجردها التام عن التشكل والتحيّز، فهي تمثل سعي الإنسان إلى عالم المطلق الذي يشتاقه ويحن إليه، لأنه عالم روحه الخالدة التي لا تحدها حدود، ولا تقيد حريتها قيود.

ولما اشتركت الموسيقى بالنص المغنَّى أصبح الغناء أكثر الفنون قدرة على الانتشار، وأشدها أثراً في المتلقّي.

إن الإنسان هو نفسه في كل زمان ومكان، والحاجات الروحية التي ولدت معه، والتي هي المحرك الأول للإبداع الفني عامة والغنائيّ خاصة، ستظل قائمةً في نفسه تبحث عما يروي ظمأها. واليوم، أضحت هذه الحاجات أكثر إلحاحاً من ذي قبل، بسبب طغيان المظاهر المادية على الوجود الإنساني، وتغييبها للبعد الميتافيزيقي فيه، والناظر إلى واقع الموسيقى والغناء عند العرب اليوم لن يحتاج إلى جهد كبير ليرى أن الذوق الجمالي وبخاصة في فن الغناء قد أصابه الكثير من التشويه في هذا المجال.

وقد نجانب الصواب إن ألقينا باللائمة في ذلك على المتلقي وحدِه وفسادِ ذوقِه، وإنما أصل المسألة أعمق من ذلك بكثير، إنها تعود إلى جوهر وجود الإنسان، وإلى مجمل العوامل التي تساعد على توفير الجو الملائم له سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً. فالعالم العربي يتعرض إلى غزو ثقافي ساهم بشكل أساسي في غياب الإبداع في ميادين الحياة المختلفة عامة، والفنية منها خاصة.

ومن أجل تصحيح مسار الثقافة العربية اليوم، لا بد للمثقفين من استلهام التراث لتصحيح الواقع، بجعله مقياساً ومعياراً نقيس عليه واقعَ النص الغنائي إبداعاً وتلقياً، ومن هنا كانت فكرة هذه الدراسة التي تأمل أن تساهم في صياغة فلسفة جمالية للغناء والموسيقى، وتأصيل ذلك بالاعتماد على التراث الحضاري للعرب المسلمين.
ومما لا شك فيه أن لكل حضارة وعياً جمالياً غنائياً خاصاً بها، وهو وعيٌ يشترك مع الحضارات الأخرى بعناصر كثيرة، وينشأ عن مجمل العوامل الاجتماعية والثقافية والمعرفية والفكرية. وقد أسهمت الحضارة العربية الإسلامية في هذا الفن إسهاماً راقياً لا يمكن تجاهله، ولكن الوعي الجمالي السماعي عند العرب المسلمين لم يقتصر على

الموسيقى المجردة وحدها التي كانت تقع ضمن اهتمامات الفلسفة من خلال ارتباطها بالعلوم الفلسفية وبخاصة الرياضيات، كما نرى ذلك على سبيل المثال عند الفارابي وابن سينا؛ وإنما ارتبطت الموسيقى عندهم بالنص الشعري المغنَّى.
وقد رأت الدراسة أن يكون مجال بحثها مقتصراً على القرنين الرابع والخامس الهجريين، لأن الحضارة العربية الإسلامية في هذين القرنين كانت قد بلغت أوج ازدهارها وتطورها في كافة العلوم، وبخاصة في فني الغناء والموسيقى، حيث نجد نصوصاً كثيرة تعود إلى ذلك العصر وما سبقه من عصور، وهي نصوص فلسفية أو فكرية تنظيرية تشرح جماليات الغناء وما يحدثه من أثر في النفس.

ومما لا شك فيه أن بدايات هذا التنظير تعود إلى القرن الثالث، ولكنها نُظِّمت وبُلورت في القرنين الرابع والخامس، ولذلك فإنه لا بد لهذه الدراسة من الاستفادة من بعض الكتب السابقة على العصر المحدد، لأن هذا العصر نتيجة وامتداداً للعصور السابقة من جهة، ولعثورنا على بعض النصوص المنقولة من كتب السابقين من جهة أخرى.

وقد استعانت الدراسة ببعض الأخبار التي تعود إلى ما قبل عصر الدراسة المحدد، وذلك طلباً لاستكمال صورة الغناء في ذلك العصر، ولأن هذه الأخبار تم ذكرها في كتب تعود إلى القرنين الرابع أو الخامس، إذ كانت وظيفة مؤلفيها جمع الأخبار المتعلقة بالغناء منذ ظهوره حتى زمان المؤلف.

وينبغي التنبيه على أن هذه الدراسة لن تهتم بفن الغناء بوصفه علماً من الناحية التقنية والرياضية، وهو ما يهم الدراسات الموسيقية النظرية من حيث مزايا الآلات الموسيقية وتقسيم الألحان على السلم الموسيقي والنغمات، بل ستبحث في الوعي الجمالي لهذا الفن من حيث إبداعه وتلقيه، وقد كان للعرب المسلمين نتاج خاص فيه، يتراوح بين التلقي الانفعالي والموقف الفردي والتنظير الفكري، وتناثر ذلك كله في كتب الأدباء والمتصوفة والفلاسفة.

وتكمن إشكالية الدراسة في التضارب بين النصوص التراثية الناتج عن الازدواجية بين النظري والتطبيقي، فالمواقف النظرية كانت تتوافق مع النظرية المعرفية المرتكزة أساساً على الفكر الديني في إطار العقيدة الإسلامية التي هي مصدر الفكر في كل نواحيه، أما الجانب التطبيقي فنجد التأرجح بين الإفراط والتفريط.
وقد اعتمدت الدراسةُ الأسسَ النظريةَ معياراً لها في دراسة الجانب التطبيقي، لأن التطبيق يجب أن يتبع التنظير وينسجم معه، والحكم عليه لا يمكن أن يكون إلا بالاعتماد على معيارٍ متَّفقٍ عليه في الحضارة المعنيَّة، وسوف تهتم هذه الدراسة بالعلاقة بين المعيار والواقع الغنائي وأثره الجمالي في العصر المحدد. وستضع هذه الإشكالية في خدمة الهدف منها، وهو إيجاد المعيار الذي نقيس عليه واقعَ النص الغنائي إبداعاً وتلقياً

ولأن المجتمع هو الوسط الذي تولد فيه مختلف أنشطة الإنسان العلمية والعملية والفنية؛ فإن الدراسة ستتبع منهجاً استقرائياً تحليلياً ثقافياً اجتماعياً، وهو منهج يتأسس

على فكرة العلاقة الوثيقة والجدلية بين ثقافة المجتمع وكل الفنون التي ينتجها، فلا ينتج الإنسان في إطار المجتمع فناً لا يلائمه ولا يرد على حاجاته الجمالية.

TOP