الوصف
أزمة الضمير
يتناول الناس في أحاديث المجالس التي تدور بينهم شؤونا وشجونا كثيرة، ومن أهم هذه الشؤون أحوال الأمة الحاضرة والماضية. ونجد من هذه الأحاديث ما يسر ويمتع، كما نجد منها ما يؤلم أو يعبر عن حيرة وتساؤلات.
وقد كنا منذ الصغر وحتى الآن نسمع القصص التاريخية عما فعله العرب والمسلمون من أعمال عظيمة، وما قاموا به من الفتوحات ما هزموا من أعداء منذ موقعة ذي قار البسيطة المتواضعة إلى حطين وعين جالوت، فيشعر الإنسان بالزهو والنشوة، ويتخيل الأبطال وهم يختالون في مواطن الفخر والبطولة الفذة التي تعطي الإنسان المثل الأعلى المحلق، وتجعله يؤمن بأنه من أمة متميزة.
وعندما يتقدم العمر قليلا ويصير الطفل يافعا فإنه يأخذ في فهم أمور لم يكن يسمع عنها أو يعرف شيئاً، ويتساءل فلا يجيبه أحد بأكثر من القول بأن هذه أشياء انتهت، وأنها كانت مقدرة من الله سبحانه وتعالى، وأنه من الأفضل ألا يبحث فيها أو يحاول تفهمها، ويجد الامتناع عن الإجابة عامّا حوله، وكأنما كل من حوله يقو ل له: لا تحاول التفكير، ولا تكثر من التساؤلات، وعليك ألا تتجاوز هذه الحدود!
ثم يتقدم الإنسان ـ ذلك الطفل ـ أكثر وأكثر في عمره، ويدخل المدارس الثانوية ويعرف شيئا من التاريخ الموجز من خلال المناهج التي تعطيه المعلومات، ولكن بشكل منتقى مصفى لا شائبة فيه، وتكثر في تلك المناهج الأصوات العالية المنبعثة عن تلك المعارك والفتوحات وعن الفخر بها وبمجد العرب والمسلمين.
ثم يزداد تقدما في العمر، ويصبح شابا له القدرة على الفهم وعلى الاستماع بشكل أحسن، ويتمكن أيضا من الاطلاع المباشر على مصادر التاريخ، ويكتشف أن الأشياء التي يتهامس بها الناس في مجالسهم ولا يُطلعون عليها أبناءهم قد أصبحت متاحة له دون أية حواجز أو موانع أو رقابة من أحد.
يجد التاريخ بكتبه ومصادره تتكلم بوضوح وتروي كل شيء عن الفتنة الكبرى مثلا وأطرافها وملابساتها، وما قاله فلان أو فعله فلان .. فتكون المفاجأة الصاعقة له، ويصاب بالذهول ويأسف لأن أساتذته والمناهج التعليمية وكل الذين كانوا يتحدثون في مجالسهم لم يصارحه أحد منهم بشيء من ذلك، ولم يحاولوا تهيئته نفسيا أو مخاطبته عقليا لكي يتفهم هذه الأمور ويتعقلها ويعرف أنها صادرة عن بشر لهم أخطاؤهم ولهم فضائلهم العظيمة التي لا تنكر، فهم ليسوا ملائكة بل بشر ممن خلق الله، وهم من أفضل هؤلاء البشر ولا شك.
ويرى الإنسان أيضا أن هناك مواطن في التاريخ تسبب له الألم والحيرة ، وباختصار تسبب له أزمة ضمير، وتجعله في حيرة كيف يتلمس الطريق، وكيف يحدد موقفه ورأيه في الأسباب النتائج، وهو لا مفر له من فعل ذلك لأن له عقلا خلقه الله.
لهذا كله حاولنا في هذا الكتاب أن نضع أيدينا على بعض مواطن الألم التي تسبب أزمة الضمير، وحاولنا ـ على قدر ما يسر الله من قدرة على فهم الأمور ـ أن نجتهد في التعليل والتفسير والتبرير، وهو أمر لا بد أن يضع في الاعتبار طبيعة الإنسان ذاته وطبيعة الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها ، وكذلك لابد أن يضع في الحسبان طبيعة التحولات المختلفة من عقائدية واقتصادية واجتماعية وثقافية وما أنتجته هذه التحولات من تفاعلات عنيفة ومفاهيم جديدة.
ولم نُقـْدم على طرق هذا الموضوع إلا لأن الثقة موجودة أولاً، ولأن التفهم الواعي موجود ثانياً: فالثقة في النفس أولاً موجودة ولله الحمد، والثقة ـ ثانياًـ أن هذا البحث ليس تجاوزاً لحدود العقل أو الدين أو الخلق أو تعدياً على أية حرمة من الحرمات التاريخية ـ لا قدّر الله ـ بأي شكل من الأشكال أو بأية شبهة.
وإذا وردت فيه أية معلومات أو أخبار غريبة أو غير مألوفة فقد أشرنا إلى المصدر الذي أخذناها منه كما في الأبحاث العلمية الموثّقة حتى لا يظل قول لأحد أو انتقاد لمنتقد.
أما التفهم الواعي فهو تفهم لطبيعة الإنسان وقبول لكل ما يمكن أن يصدر عنه في حدود صفاته الإنسانية، وبالتالي عدم لومه أو إصدار حكم معين عليه طبقا لأي قانون، لأنه لا يجوز أن يُنصّب الكاتب من نفسه قاضيا يحاكم الآخرين فيبرّئ أو يدين، ولا مبرر له لكي يفعل ذلك.
إننا بحاجة إلى فهم هذه الحقيقة جيداً، فلا ننسى أبدا أن الموضوعية والنظرة السليمة تقتضي أن نتفهم طبيعة الإنسان وأن نلتمس له العذر الذي لا ننتحله انتحالا كما يفعل بعض الناس، أو نتغاضى تغاضي من يتجرع مرارة الهزيمة وهو يضمر عدم القناعة.
هذا الكتاب في ستة فصول وخاتمة موجزة ، فالفصل الأول يبين المقصود بأزمة الضمير، وما هي أبعادها وآثارها، وعلاقاتها خاصة مع تأنيب الضمير ومع الاغتراب.
أما الفصل الثاني فقد تناولنا فيه الانقسامات والفتنة الكبرى وحجمها وآثارها في خلق أزمة الضمير في نفوس المسلمين وإثارتها لكثير من المشكلات، وكيف أنها أسفرت عن نتائج لا تزال أصداؤها تتجاوب حتى هذه الأيام.
وتناول الفصل الثالث الفـَرْق بين الفِـرَق والأحزاب الإسلامية وأسباب نشوئها، وقد حدد الفصل أسبابا داخلية لنشوئها وأسبابا أخرى خارجية، كما ألمحنا إلى أشهر هذه الفرق وأسباب معاداتها لبعضها، وما أحدثه كل ذلك من زيادة الطين بلة في تغذية أزمة الضمير في النفوس.
وتطرّق الفصل الرابع إلى سيرة بعض الخلفاء والحكام والأمراء في الدولة الإسلامية خاصة الأموية والعباسية. وكان لا بد من النظر إلى الفرق بين المثل الجاهلي الأعلى وبين الإسلامي الأعلى، مع بعض نماذج من سيرة هؤلاء الخلفاء وغيرهم.
وقد حاول الفصل تفسير استمرار المد الإسلامي في كل المجالات رغم كل المعوقات.
وفي الفصل الخامس رأينا كيف أن الحروب الصليبية كانت مرحلة مشرقة في تاريخنا ، فهي مرحلة البطولة والأبطال سواء في زمن صلاح الدين والأيوبيين أو في عصر دولتي المماليك ، ومع هذا كانت هناك بعض نقاط الألم التي أوضحناها في مكانها المناسب من الفصل المذكور.
أما الفصل الأخير فقد تناول مرحلة جديدة هي مرحلة السبات في العهد العثماني، وهذه مسألة ذات تعقيدات خاصة نظرا لاختلاف نظرة الناس وآرائهم في تقييم الحكم العثماني. فكان أن تناولنا هذا الموضوع ببعديه المذكورين (أي بالرأيين المتعارضين في الحكم العثماني)، ثم بالنتيجة التي أسفر عنها سقوط الدولة ، وهي تمزق الوطن العربي ووقوعه في قبضة الاستعمار الأوروبي، وهو يعاني من التخلف الشديد ومن الفراغ الحضاري العام: فلا حكومة ولا جيش ولا اقتصاد، ولا يوجد أي شكل لكيان سياسي يمكن أن يملأ هذا الفراغ بعد سقوط الدولة العثمانية.
وكان لكل هذه التطورات آثارها في زيادة حيرة الأجيال وعدم وضوح الأهداف أو وضوح خط السير الموصل إليها على أبواب هذا العصر. وكل هذا أسهم في احتدام أزمة الضمير، أزمة الحيرة وعدم القدرة على الاختيار الواعي الحرّ المسئول. وقد توقفنا على أبواب العصر الحديث (في القرن العشرين) مع نهاية الدولة العثمانية، وكانت النية تتجه إلى تناول أزمة الضمير في هذا العصر إكمالاً للكتاب، ولكن ذلك كان سيجعله كتاباً مملاً وثقيلاً حجماً ومادةً، فاكتفينا بتناول الناحية التاريخية التي مرت بها الأزمة تاركين البقية لتكون موضوع كتاب آخر إن شاء الله يتناول المعادلات الصعبة والجديدة التي أمام الضمير في هذا الزمن ومنذ مواجهة العرب لأنفسهم ومسئولياتهم بعد أن كان العثمانيون أولياء أمورهم.
إن أزمة الضمير حقيقة واقعة لا يلغيها إنكارنا لها، ولكن يمكننا أن نتفهم أسبابها ونستوعبها ، وهي أسباب تاريخية بحثناها في هذا الكتاب، وأسباب معاصرة تحتاج إلى كتاب آخر ـ كما أشرناـ، والارتباط بين الجانبين (التاريخي والمعاصر) ارتباط وثيق، بل ليس من الخفي أن كثيرا من الأسباب المعاصرة امتداد للأسباب التاريخية، أو هي ذاتها وقد أخذت أشكالا أو مظاهر جديدة أو بقيت على حالها في ظروف أخرى. كما أن هناك أسبابا أفرزتها ظروف العصر الحديث بكل ما جرى فيه من أحداث ويجري ليزيد الطين بلة بتعميق جذور أزمة الضمير في عصرنا هذا.
إن أية أمة لا يمكنها أن تغير من وقائع التاريخ الماضية، ولكنها تستطيع بكل تأكيد أن تصنع المستقبل بالطريقة التي تختارها، فإذا كان هذا الاختيار واعيا لأبعاده وأسبابه ونتائجه؛ فإنه سيكون رشيدا يبني صرح المستقبل بقوة وأمان . وليس أقدر من (الممارسة العملية) على تعليم الإنسان و ترشيد خطواته، تلك الممارسة التي تتراوح بين الخطإ والصواب، ثم تطمئن إلى الصواب وتتمسك به وتبتعد عن إمكانية الخطإ مرة أخرى ، وكفى بذلك هدفا وغاية.
وهذه الممارسة نستقيها من دراستنا للتاريخ دراسة واعية يقودها العقل، ولا يجوز لأحد أن يحجر على العقول، بل هو لن يستطيع ذلك ولو حاول، كما أنه ليس من حقه ادعاء الوصاية على تاريخ الأمة وقيمها ومثلها، أو محاولة توجيه تفكير الآخرين طبقا لعقليته واعتقاداته أو منهجه الفكري ـ إن كان له أي منهج . كما أنه لا أحد يطلب الأجر أو يرجوه من أي إنسان إن هو أحسن عملاً، ولا يخاف أحدا إلا الله ويرجو رحمته إن هو أساء أو أخطأ.
فإذا كنت وفقت إلى شيء مما أهدف إليه فهذا فضل كبير من الله يمتن به عليّ، وله وحده الحمد والشكر، وعليه التوكل وبه الاستعانة. وإذا فاتني شيء أو حصل تقصير فيكفي أن المحاولة كانت اجتهاداً مخلصاً، وأسأله تعالى ألا يحرمني أجريْ من اجتهد فأصاب أو أجر من اجتهد فأخطأ. والحمد لله أولاً وآخراً .
حسن منصور
أزمة الضمير
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية