الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
عنف بلا نهاية
يلعب المكان هنا دورًا خاصًا. فدائمًا وأبدًا كانت أماكن أو “مواطن العنف” تنفتح كي تواصل بث العنف والسماح به – بدءًا من الاستعمار مرورًا بمعسكرات الاعتقال وصولاً إلى المنطقة التي مزقها الإرهاب. حيث أسهمت هنا خلفية بابروفسكي بوصفه عارف بإرهاب حكم ستالين: فهو يعرف الهوات السحيقة من تاريخ العنف جيدًا ويعرف كيف يصفها بوضوح وتغلغل صادم. في تركيزه على إلحاق الألم بأحد والمعاناة منه (“إذا لم يكن هناك أحد يتألم فلن يكون هناك عنف”) يضع باربروفسكي مفهومًا ضيقًا للعنف مقارنة بعلوم اجتماع العنف الأخرى: فهو لا يريد أن يتحدث عن العنف المنظم أو الإدراكي، عن العنف دون فاعل محدد، بل يركز على كون العلاقة بين الجاني والضحية مباشرة. ليحيد بهذا قاصدًا عن الامتداد حديث العهد في مفهوم العنف – ولكنه قد يغفل كذلك وجهات نظر مهمة عن العنف في أنظمة اجتماعية معقدة تعتبر الوحشية الجسدية المباشرة أمر مكروه، بينما تسمح بأشكال العنف غير المباشرة.
بالطبع لا تتسم كل المواطن والحقب بالعنف بقدر متساوِ، مثلما يميز بابروفسكي: هناك إمكانات للنظام الاجتماعي والسياسي الذي يعيق نشأة مواطن العنف ويعاقب الوحشية استباقيًا. إلا أنه لا وجود للأمن المطلق قبل الانزلاق إلى اعتيادية العنف، لأن نُظم الأمن يمكن أن تنقلب إلى نقيضها العنيف: فقد أخفى مُنظِّر الدولة في القرن السابع عشر توماس هوبز إمكانية إرهاب الدولة، التي تصبغ القرن العشرين وحاضرنا كله دون شك.
رغم أن الكتاب غير السميك حجمًا مكتوب بأسلوب مفهوم، إلا أنه – وبسبب وضوحه – يعد كتاب مطالعة ينطوي على تحدِ: إذ يتيح بابروفسكي الفرصة لشهود على أسوأ لحظات العنف في تاريخ الإنسانية الحديث كي يتحدثوا، من روندا إلى أوشفيتس. ورغم كل هذا التشاؤم يمثل هذا الكتاب نص مطالعة يتسبب في إفاقة ويحوي استنتاجات مهمة سياسيًا. فقط عندما نعترف بالإمكانية المستدامة للأسوأ يمكننا أن نعمل على مواجهته: من خلال إحكام إغلاق مواطن العنف، حيثما تنفتح.
ولد يورج بابروفسكي عام 1961، وهو أستاذ بقسم تاريخ أوروبا الشرقية في جامعة هومبولت في برلين وصدر له العديد من الكتب والمقالات عن تاريخ روسيا والاتحاد السوفيتي
This post is also available in: English (الإنجليزية)