الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
لماذا علينا أن نكترث بالشعبوية؟ هذا سؤال تجيب عنه ناديا أوربيناتي، أستاذة كرسي للنظرية السياسية في جامعة كولومبيا، في كتابها “أنا الشعب..” بالقول: إن حقيقة ظهور هذا المصطلح باستمرار في السياسة اليومية والمنشورات الأكاديمية كاف لتبرير الاهتمام البحثي به، ولأنه “يحوّل ديمقراطياتنا” إلى شيء آخر.
إن الذين تجتذبهم الشعبوية أصبحوا أكثر عددا، و”اهتمامهم بها سياسي في المقام الأول”، وهم لا ينظرون إليها بوصفها أمرا عارضا أو مجرد رد فعل على “مأسسة الحكم والأحزاب الراسخة” بل باعتبارها أيضا “دعوة مشروعة للسلطة من الناس العاديين الذين أخضعوا لسنوات للدخل المتدني والنفوذ السياسي”، إنهم يرونها كذلك، بحسب أوربيناتي، سلاحا قد يستخدمه اليسار لهزيمة اليمين “الذي شغل تقليديا منصب الوصي على الخطاب الشعبوي واستراتيجيته… (سيما وأنها) قد تجاوزت إلى حد بعيد، موطنها السابق، أي أمريكا اللاتينية” ووجدت لها موطىء قدم راسخ في حكومات دول أوروبية وفي الولايات المتحدة الأميركية.
وتضيف: “باتت (الشعبوية) نمطا سياسيا يقع بين الحكم الدستوري والديكتاتورية، إذ أنها أظهرت أوجه تشابه عائلي بالأنظمة السياسية التي تقع على طرفي نقيض معها.. فهي تنمو اليوم في مجتمعات تتحول نحو الديمقراطية ومجتمعات ديمقراطية بالكامل. وهي تتخذ أنموذجها الأكثر نضجا وإزعاجا في الديمقراطيات التمثيلية الدستورية”.
حكم مختلط
تدرس أوربيناتي في كتابها الشعبوية كحركة تطمح إلى الوصول إلى السلطة بمقارنتها بالديمقراطية التمثيلية، وترى أنها تشكل نمطا جديدا من حكم مختلط يحرز فيه جزء من السكان سلطة متفوقة على الجزء الآخر أو الأجزاء الأخرى، “وهي (الشعبوية) تخوض هذا الأمر باستخدام (ما تدعوه أوربيناتي) تمثيلا مباشرا: تطوير علاقة مباشرة بين الزعيم والناس”.
وتحلل في الفصل الأول مقولة “مناهضة مؤسسة الحكم” باعتبارها روح الخطاب الشعبوي وهدفه. وتحلل في الفصل الثاني كيفية تحويل الشعبوية في السلطة لمعنى ركيزتين من ركائز الديمقراطية: الشعب والأغلبية، إلى معنى آخر، إذ “تعرّف الشعب بجزء من المجتمع، جاعلة الأغلبية قوة حاكمة لهذا الجزء في مواجهة الجزء الآخر أو الأجزاء الأخرى”، وهو ما تعتبره المؤلفة “تشويها جذريا” للديمقراطية التمثيلية.
لقد طالب تشافيز الشعب بالولاء المطلق قائلا: “أنا لست نفسي.. أنا لست فردا، أنا الشعب.. ولا ينقذ الشعب إلا الشعب، وأنا سأكون أداتكم”.
وفي الفصل الثالث تبيّن كيف تناهض الشعبوية الحزبوية، عندما تحول التمثيل إلى استراتيجية للوصول لتمركز السلطة، التي تزعم أنها تتحدث باسم كل الشعب، “في حين (أن خطابها) يشمل البعض ويرفض وأحيانا يقمع أولئك الذين يعيشون على الهامش، لأنهم غير راضيين، أو لأنهم ينتمون إلى ثقافة أو طبقة أو فئة عرقية لا تتوافق مع تلك الممثلة في الحكومة الشعبوية وأغلبيتها”.
وتقدم أوربيناتي في الفصل الرابع نموذجين لحالتين معاصرتين من الحركات الشعبوية: حركة النجوم الخمس الإيطالية، وحركة “بوديموس” (قادرون) الإسبانية. وهما حركتان تزعم كل منهما أنها “حركة مناهضة للأحزاب، وولدت بوصفها كذلك، وأطرت كل منهما نفسها باعتبارها توجد خارج التمييز التقليدي بين اليمين واليسار”.
سلطة شعبية بدون أحزاب
تحت عنوان “صناعة النزعة الفئوية وروح الشعبوية” تشير أوربيناتي إلى أن الزعماء الشعبويين يتصرفون تماما مثل زعماء الأحزاب لكن مع ذلك يظل من الصعب اختزال الشعبوية بحزب، ذلك أنها تركز بشكل أساسي على سياسة تتعارض مع انقسامات الأحزاب. وتستخدم هنا كمثال الحكومات الشعبوية في أمريكا اللاتينية وتحديدا حكومة هوغو تشافيز، حيث تبرز سياسة تهدف إلى “مماهاة” السلطة الشعبية مع الحكم في أحواله كافة، لكن بغير أحزاب.
تقول: “بتلمس الأصوات المناهضة لنظام سياسي فاسد..، دخل تشافيز السياسة عبر إنشاء حركة اجتماعية خاصة به على هيئة اللجان البوليفارية الشعبية وجماعات مدنية شتى طورت مقترحات لإصلاحات دستورية متنوعة. لكنه حالما تولى السلطة مأسس تلك الحركات تدريجيا في منظمة حزبية داخل الدولة، محولا بذلك مناهضته للأحزاب إلى نموذج للكيفية التي يستطيع فيها حزب كلاني أن يكون متأصلا في المؤسسات وضامنا لمؤسسة حكم جديدة”.
تشدد أوربيناتي على أن ثمة اختلاف هائل بين ديمقراطية الأحزاب والديمقراطية الشعبوية، فالشعبوية التي تعارض البنية التعددية للأحزاب لا تنطلق في ذلك من المطالبة بـ “ديمقراطية من غير أحزاب” إنما من باب وباسم “الجزء الذي يستحق اعترافا أسمى لأنه موضوعيا الجزء الخيّر، بما أن هويته ليست نتيجة تكوينات أيديولوجية أو رؤى تحزبية… يزعم الشعبويون أنهم سيكونون ممثلا موضوعيا وبسيطا لاحتياجات الشعب الآن وهنا، في حين تعرض الأحزاب برامجها وحلولها في إطار مستقبلي بعيد”.
الفوز بالأغلبية لا يكفي
تضيف أوربيناتي في سياق آخر حول معنى الأغلبية عند الشعبوية أن المجتمع الشعبوي ليس مجتمعا بدون أحزاب، لكنه في الواقع مجتمع “فئوي” لا يهتم بعدد الأصوات، ولا يهدف إلى أي نوع من أنواع الإجماع التداولي. الشعبوية كما تراها أوربيناتي هي إعلان بأن الديمقراطية ليست سوى قوة الأغلبية أو سلطة حكمها، إنها استبداد خفي داخل الديمقراطية. ليست حركة معارضة كما يحلو للبعض توصيفها إنما حركة تريد التنافس على السلطة وعلى الحكم. إنه نظام “يجعل الشعب صاحب سيادة فوق القانون.. نظام يتمخض عن زعماء يحظون برضى الشعب عن خططهم.. وقد أوجز أوسكار بينافيديس رئيس بيرو هذه الممارسة بحكمة ناجعة: كل شيء لأصدقائي والقانون لأعدائي”.
تضيف أوربيناتي أن الزعماء والأحزاب الشعبوية في السلطة لا يكتفون بمجرد الفوز بالأغلبية، بل يريدون كذلك البقاء في السلطة أطول وقت ممكن، ولذلك سيسعون إلى وضع دستور شعبوي جديد، “بمعنى تسوية اجتماعية سياسية ومجموعة جديدة من القواعد للعبة السياسية في آن”، حيث تشكك الشعبوية في الدستورالذي تعتبره “شكلانيا” باسم دستور”مادي” تدعي أنها وحدها تستطيع تأويله بشكل دقيق، فتحاول تقديم مشاريع لوضع دستور جديد، أو إصلاح دستوري يتم التركيز فيه على صلاحيات السلطات التنفيذية، والحد من سلطات المراقبة التي تتمتع بها عادة المؤسسات غير السياسية.
يلجأ الزعيم الشعبوي، الذي لا يريد أن يصبح جزءا من مؤسسة الحكم التي تناهضها الشعبوية، إلى الاستفتاء المتكرر على حبه من قبل أنصاره عبر الحضور المكثف في وسائل الإعلام، وتوجيه الخطابات والنداءات الرسمية للشعب، ليطمئنهم دائما أنه صوتهم وممثلهم.
تشير أوربيناتي هنا إلى أن هذا هو ما نراه اليوم في بلدان أوروبية مع ظهور زعماء شعبويين أقوياء وأحزاب شعبوية ذات نزعة قومية. على سبيل المثال تذكر أوربيناتي ما حدث عندما فاز “التحالف المدني الهنغاري” بأغلبية مقاعد البرلمان، “فاستخدم سلطته منذ العام 2012 للتخلص من الدستور القديم وكتابة آخر جديد وتعديله باستمرار، ما رسخ رؤيته السياسية على حساب أحزاب المعارضة والقضاء المستقل”.
قول أوربيناتي: إن سمة أساسية للشعبوية في السلطة تتمثل في أنها تبدو كحملة انتخابية دائمة، حيث يلجأ الزعيم الشعبوي، الذي لا يريد أن يصبح جزءا من مؤسسة الحكم التي تناهضها الشعبوية، إلى الاستفتاء المتكرر على حبه من قبل أنصاره عبر الحضور المكثف في وسائل الإعلام، وتوجيه الخطابات والنداءات الرسمية للشعب، ليطمئنهم دائما أنه صوتهم وممثلهم.
لقد طالب تشافيز الشعب بالولاء المطلق قائلا: “أنا لست نفسي.. أنا لست فردا، أنا الشعب.. ولا ينقذ الشعب إلا الشعب، وأنا سأكون أداتكم”. وفي خطاب دونالد ترامب بعد فوزه بالرئاسة قال: إن من انتصر هو الشعب: الشعب فاز بالبيت الأبيض.
توضح أوربيناتي إن ما يعفي الزعيم من اعتبار أنه مناصر لمؤسسة حكم جديدة هو أنه يواصل التأكيد على أنه في شخصه تجسيد للشعب.
في الواقع تبدو الشعبوية كنوع من الحكم التمثيلي “الذي يلائم على وجه الخصوص ديمقراطية جمهور المتلقين”، إنها تحول يحدث داخل الديمقراطية، وهي عندما تكون في السلطة، تكون محفوفة بالمخاطر على نحو داخلي المنشأ، بحسب أوربيناتي. إنها عرضة لخطرين يهددان بإنهائها هما: العودة إلى الحكم التمثيلي أو أن تصبح ديكتاتورية.
المصدر: عربي 21
This post is also available in: English (الإنجليزية)