الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
نصّت المادة التاسعة من الدستور الياباني، التي جاءت نتاجًا للاحتلال الأمريكي للدولة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، على أن الطموح الصادق للشعب الياباني للسلام العالمي يعتمد على العدل والقانون اللذين يرفضان الحرب أو استخدام القوة لحل الخلافات الدولية، ولتحقيق ذلك لن تمتلك طوكيو -وللأبد- أية قوة حربية هجومية في البحر أو الجو أو على الأرض، أو أي نوع آخر من الإمكانيات العسكرية العدوانية. كما لن تعترف بحق الدولة في العدوان الحربي الهجومي، وأن مهمة قوات الدفاع الذاتي (الجيش الياباني) هي الدفاع عن البلاد، ولا يجوز لها العمل أو الوجود خارجها.
وقد التزمت اليابان ببنود تلك المادة لعقود، لكن التطورات السياسية والاستراتيجية الإقليمية أدت إلى تنامي شعور القادة اليابانيين بضرورة استكمال دولتهم لعناصر قوتها الشاملة. وعلى هذا الأساس، أُعيد تفسير المادة التاسعة من الدستور، فوافق البرلمان على مشاركة الجيش الياباني في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، وجاءت المشاركة الأولى بكمبوديا في تسعينيات القرن الماضي. كما أُرسلت قوات يابانية للعراق بعد الحرب الأمريكية عام 2003. وقد شاركت قوات الدفاع الذاتي في عمليات إعادة الإعمار في عدد من الدول، والإغاثة في حالات الكوارث.
وعلاوةً على ذلك، تبنت الحكومة اليابانية في عام ٢٠١٣ سياسة دفاعية جديدة، مع زيادة هائلة سنويًّا في ميزانية الدفاع، بجانب مشاركتها في العقوبات الدولية التي فُرضت على كوريا الشمالية بسبب برنامجها النووي.
وفي هذا السياق، سعت العديد من المؤلفات التي ظهرت مؤخرًا إلى البحث في تلك التطورات، ومن أهمها كتاب “إعادة تسليح اليابان: سياسة القوة العسكرية” للكاتبة “شيلا سميث” (الباحثة المتخصصة في الدراسات اليابانية بمجلس العلاقات الخارجية) والصادر في أبريل الجاري عن دار نشر جامعة هارفارد. وفيه تتناول الكاتبة تطور السياسة العسكرية اليابانية من بداية الحرب الباردة إلى الوقت الحالي. وتُحلل العوامل التي دفعت طوكيو لإعادة التفكير في تطوير قوتها العسكرية.
وتحاول “سميث” خلال كتابها الإجابة عن عددٍ من الأسئلة المهمة من قبيل: كيف تستطيع اليابان تحقيق التوازن بين دستورها السلمي ورغبتها في تطوير قوتها العسكرية في مواجهة التهديدات الإقليمية المحيطة بها؟ وكيف ينظر جيرانها لا سيما الصين وكوريا الشمالية للتطورات في السياسة العسكرية اليابانية؟ وما موقف الشعب الياباني من تغيير الاتجاهات الأمنية للدولة؟
أشارت “سميث” إلى المداولات التي أجراها القادة اليابانيون لإثبات حق طوكيو في الدفاع عن نفسها، وذلك كي تُظهر مدى تقدم الدولة في التفكير في جدوى جيشها كشريك في الأمن الإقليمي والعالمي. وذكرت أنهم أكدوا منذ وقت مبكر على أن حق الدفاع عن النفس كان متأصلًا في ميثاق الأمم المتحدة، ومن ثم فمن حق دولتهم تطوير قدرتها للدفاع عن نفسها.
وأضافت أن المناقشات التي أعقبت استعادة اليابان لسيادتها عام 1952 قد تركزت على كيفية تفسير ما هو ضروري للدفاع عن النفس، ومن ثم أُسست لجنة بالبرلمان الياباني لمراجعة مسودة سلطات الاحتلال، حيث أصبح منذ عام 1954 هو المكان الأول الذي تُناقش فيه مسألة إعادة تفسير قانون قوات الدفاع الذاتي والكثير من القضايا الأساسية التي لا تزال اليابان تنظر فيها. وكانت ثمرة هذه الجهود زيادة قدرات القوات العسكرية على تولي مهام الدفاع إقليميًّا بدعم من القوات الأمريكية.
ومع مرور الوقت، ازدهر النقاش حول الأمور التي ينبغي أن تُحدد القدرة العسكرية لقوات الدفاع الذاتي. ثم تطورت هذه المناقشات، فبعد أن كان التركيز على أنواع الأسلحة التي يتم السماح لقوات الدفاع الذاتي بامتلاكها، صار النقاش حول أنواع المهام التي يمكن أن تؤديها قوات الدفاع الذاتي، ومن ثم إمكانية مشاركة هذه القوات في التحالفات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة.
ومنذ تولي رئيس الوزراء “شينزو آبي” الحكم عام 2012 وهو يتبنى أجندة إصلاحية للسياسات اليابانية بشكل عام، والدستور بشكل خاص، وقد طالب حزبه في البرلمان بإعادة تفسير المادة التاسعة من الدستور بدافع الحفاظ على الأمن الياباني، وذلك من خلال تطوير القوة العسكرية اليابانية، واستخدامها في حل النزاعات الخارجية لليابان. وبالفعل، تحولت تلك المناقشات إلى واقع عملي، وشاركت القوات اليابانية في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وكذلك في التحالفات الأمريكية في المحيط الهندي، وتشارك الآن في بحر الصين الجنوبي. بالإضافة إلى الدخول في تحالفات مع قوى آسيوية أخرى.
تشير “سميث” إلى أن هناك عددًا من المتغيرات الإقليمية والدولية التي دفعت اليابان إلى إعادة التفكير في سياستها الدفاعية، ومن أهمها:
أولًا- تنامي التهديدات الصينية والكورية الشمالية: تقول الكاتبة إن اليابان وبكين عملتا على تعزيز الروابط الدبلوماسية منذ العام الماضي، واتفقتا على تطوير علاقاتهما الإقليمية، لا سيما الاقتصادية منها. ولكن على صعيد آخر، تتزايد القدرات البحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي، فضلًا عن وجود قوات صينية بحرية وجوية بتايوان (القريبة جغرافيًّا من اليابان)، وهو ما يهدد الأمن الياباني في حالة نشوب نزاع مسلح بين البلدين.
وبشأن كوريا الشمالية، تعتقد “سميث” أن اليابان في السابق لم تكن قلقة بشأن الترسانة الصاروخية لبيونج يانج وأسلحتها الكيميائية، لكن التطورات الهائلة في هذه الترسانة وزيادة قدرتها على الوصول إلى الأراضي اليابانية واستهدافها بشكل أكبر من السابق، جعل طوكيو تفكر بقوة في تطوير سياستها العسكرية، وإن كانت تضع آمالًا على المباحثات النووية التي تقودها الولايات المتحدة، وتشارك فيها اليابان لأنها جزء من الترتيبات الإقليمية.
وبشكل عام، تعتقد “سميث” أن التوازن العسكري في آسيا يتغير بسرعة، وتُمثل ترسانة كوريا الشمالية المتنامية من الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، وكذلك القدرات البحرية المتنامية للصين، عاملًا محوريًّا في تغير توجه السياسة الدفاعية اليابانية، إذ خلقت ضغوطًا على دفاعات طوكيو، ودفعت السياسيين اليابانيين للتفكير في تطوير قدرات عسكرية أكبر، بما في ذلك القدرة المحدودة على الهجوم لضمان عدم قيام الخصوم المحتملين بسوء تقدير استعدادات قوات الدفاع الذاتي اليابانية.
ثانيًا- سياسات الرئيس الأمريكي “ترامب”: تعتبر علاقة واشنطن بطوكيو بشكل عام من أهم تحالفات الولايات المتحدة في قارة آسيا وعالميًا. وأوضح الكتاب نظرة اليابانيين لهذا التحالف قديمًا وحاليًّا في عهد الرئيس “ترامب” بشكل خاص. وتؤكد “سميث” أن اليابان بذلت جهودًا عظيمة لإبقاء الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عنها، بجانب رفع ميزانيتها الدفاعية، وتحديث المعدات والتدريب، ونشر القوات في الخارج كجزء من المشاركة في مهام الأمم المتحدة والتحالفات التي تقودها واشنطن. كما عززت قدرة قواتها على صد التهديدات الجوية والبحرية الصينية والروسية، والهجمات الصاروخية المحتملة من كوريا الشمالية بصورة مستقلة.
ولكن مع تكثيف تهديدات جيرانها الثلاثة، بات الزعماء اليابانيون أكثر تشكّكًا في تعهدات الولايات المتحدة بالدفاع عن اليابان ومصالحها الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادي، ولا سيما في عهد الرئيس “ترامب”. ففي السابق رحبت اليابان بمبدأ “إعادة التوازن” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما”، وكانوا أكثر ثقة في إدارته التي كانت تتبنى ما كان يُعرف “التوجه نحو آسيا”، وترى أولوية القارة الآسيوية الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، وإن كان هذا المبدأ خطابًا أكثر منه فعلًا، من وجهة نظر “سميث”.
أما حاليًّا فإنهم يجدون صعوبة في التنبؤ بسياسات الرئيس الحالي، ولذا فإنه أكثر إثارة للقلق. وفي هذا الإطار، تقول “سميث” إن الرئيس “ترامب” ألقى بظلال من الشك على فكرة أن الولايات المتحدة ستظل مهتمة بدور قيادي عالمي مماثل للدور الذي اضطلعت به خلال فترة الحرب الباردة. كما أن دعوته المتكررة إلى “تقاسم الأعباء”، التي باتت تؤتي ثمارها على الأقل في شرق آسيا، قد قادت حكومة “آبي” للتفكير في كيفية زيادة إنفاقها على الأسلحة الأمريكية، وزيادة إنفاقها العسكري بشكل عام على مدى السنوات الخمس المقبلة، وتطوير استراتيجية دفاعية أكثر اعتمادًا على الذات، لتراجع الثقة في الحماية الأمريكية.
ولكن بالنظر إلى جغرافيا اليابان، تقول “سميث” إن الدفاع الفعال الوحيد سيكون الردع الذي ينتهك الحظر المفروض على القدرات الهجومية الواردة في “دستور السلام” في البلاد. وتعتقد أن الجمهور الياباني ليس مستعدًّا بعد للقيام بهذه القفزة، لكن رأيهم قد يتغير.
وبشكل عام، تعتقد المؤلفة أن رغبة اليابان في تطوير قوتها العسكرية وإعادة تسلحها لم يكن فقط استجابة للتهديدات المتزايدة لصواريخ كوريا الشمالية والأنشطة البحرية الصينية، بل جاءت في إطار إعادة تقييم اعتمادها على الولايات المتحدة. كما ترى أن درجة ثقة طوكيو في واشنطن هي المحدد الرئيسي، وليس تطور القدرات العسكرية لجيرانها، الذي سيُقرر في النهاية مستقبل القوة العسكرية اليابانية.
تُحدد “سميث” في كتابها ثلاثة سيناريوهات قد تدفع طوكيو إلى التحرك في اتجاه إعادة التسلح:
السيناريو الأول- إطلاق صواريخ من كوريا الشمالية باتجاه الأراضي اليابانية، بما يكشف عجز الحماية الأمريكية عن صون الأمن الياباني من التهديدات الخارجية.
السيناريو الثاني- تخلي الولايات المتحدة عن هيمنتها البحرية طويلة الأمد في آسيا، وترك أمن اليابان معرضًا لمزيد من الضغوط الصينية.
السيناريو الثالث- فشل التحالف بين الولايات المتحدة واليابان في أزمة ما، بحيث قد تقف واشنطن على الحياد، أو الأسوأ من ذلك أن تتصرف بما يضر بالمصالح اليابانية.
وفي الختام، تقول “سميث” إن القادة اليابانيين ينظرون اليوم إلى جيشهم كأداة للسياسة الوطنية، وهم أكثر استعدادًا لاستخدام هذه الأداة لإسهام دولتهم في مواجهة التحديات الأمنية العالمية أكثر من الماضي. وتخلص المؤلفة إلى أن الآثار المجتمعة للتهديدات الخارجية والضغط الأمريكي قد تدفع اليابان إلى امتلاك جيش يكون قادرًا على حماية الدولة بدون الاعتماد على قوى خارجية، ويكون أكثر قدرة على التعامل مع البيئة الأمنية المتغيرة لشرق آسيا وغرب المحيط الهادي.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث
This post is also available in: English (الإنجليزية)