الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
مع مشارفته على السبعين من العمر، يبدو أن شيئاً ما عميقاً يتغيّر مرّة أخرى، في المفكر الفرنسي الشهير والإشكالي برنار هنري ليفي، بل يُلمس بجلاء في كتابه الجديد “الإمبراطوريّة والملوك الخمسة: التنازل الأميركي ومصير العالم” The Empire & the Five Kings: America’s Abdication & the Fate of the World. وصدر الكتاب أخيراً بالإنكليزية عن دار “هولت” الأميركيّة، بترجمة ستيفن كينيدي، في 261 صفحة.من هم أولئك الخمسة الذين يهجس بهم ليفي في كتاب “الإمبراطوريّة…”؟ إنهم روسيا والصين وإيران وتركيا والإسلام الراديكالي. لماذا؟ لأنهم يملكون أحلاماً إمبراطوريّة ضخمة، بل يعملون على تحقيقها، كما يبذلون جهداً إستراتيجيّاً منظّماً في ذلك الاتجاه. هل تبدو تلك الأحلام الإمبراطوريّة مبرّرة ومنطقيّة في الاستراتيجيا والسياسة؟ الإجابة هي نعم، وما يبررها هو التنازل المتواصل للولايات المتحدة كقائد للعالم الحر، وراعٍ رئيس وقوة دفع جبّارة في نشر النموذج الديمقراطي الليبرالي في العالم.
وإذ ارتفعت حدّة ذلك التنازل مع السياسة الشعبويّة المنغلقة التي تهيمن على التوجّهات الإستراتيجيّة للرئيس دونالد ترمب، يرفع ليفي الصوت لينبّه إلى أنّ أميركا ليست حرّة في أن تختار الانعزال عبر التنازل عن نشر النموذج الديمقراطي الغربي وقيمه، ببساطة لأن ذلك التنازل يهدد بسقوط ذلك النموذج عالميّاً، وظهور فراغ لن تتوانى قوى أخرى عن ملئه، بل إنها منخرطة فعليّاً في ذلك راهناً. واستطراداً، يقود ذلك إلى نشر نماذج أخرى تسعى إلى أن تكون بديلة للنظام الليبرالي العالمي.
إذاً، ليست الليبرالية والديمقراطية مجرد “قوّة ناعمة” عملت تاريخياً على الصعود بالدور العالمي للولايات المتحدة، خصوصاً منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل هي نظام عالمي شامل يتضمن علاقات في الاقتصاد والسياسة. ولكن الأهم هو أن “القوة الناعمة” هي ذلك النموذج الديمقراطي الليبرالي الذي آلت القيادة فيه إلى أميركا كقوة عظمى (بل إمبراطوريّة خيّرة)، خصوصاً بعد انتصارها على النموذج الاشتراكي في نهاية “الحرب الباردة”، وفق كتاب “الإمبراطوريّة…”.وفي المقابل، تمثّل قيم الديمقراطية عنصراً أساسيّاً في الدول الغربيّة، وكذلك في الولايات المتحدة نفسها. ويعني ذلك أن التخلي الأميركي عن نشر قيم الديمقراطية، يهدّد العالم بأسره، بل الولايات المتحدة نفسها أيضاً. وفي ظل ذلك التهاوي، تتملك الأحلام الإمبراطورية قوى كانت إمبراطوريات في مراحل ما قبل ظهور الدولة الحديثة (روسيا والصين)، وأخرى كانت إمبراطوريات دينيّة، وهي تركيا بحلمها العثماني المعلن وإيران بسعيها الصريح إلى قيادة إمبراطوريّة إسلامية، وتيار الإسلامويّة المتطرفة التي لا تخفي لحظة سعيها إلى استعادة التاريخ الإمبراطوري السالف، ودوماً وفق كتاب ليفي.
هل حُسِم الأمر وصار محتّماً اختفاء الإمبراطوريّة الأميركيّة وظهور الممالك الخمسة؟ لا شيء أبعد من ذلك عن الرؤية التي يقدّمها ليفي في “الإمبراطوريّة…”. إذ يشدّد على أن المشكلة الأساسيّة في “الملوك الخمسة” أنهم يفتقدون لقوّة النموذج، وبالأحرى، فإنهم يمثلون منظومة من القيم تستبطن الاستبداد والحكم المتسلّط، بأشكال مختلفة. وإذ لا تنهض إمبراطوريّة في العصر الحديث من دون منظومة قيم تكون مقبولة عالميّاً، في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد ومناحي الحياة كافة، يعتقد ليفي بأنّ “الملوك الخمسة” أبعد ما يكون عن صنع “بدائل” تاريخية للنموذج الأميركي- الغربي، لكن ذلك ربما لا يعيق توسّع نفوذهم وتمدّد مساحات سيطرتهم، استناداً أساساً إلى القوّة. وما زالت الولايات المتحدة في وضع تستطيع فيه استعادة زمام المبادرة، ودحر التطلعات الإمبراطوريّة الصاعدة لتلك الأقطاب الخمسة، شريطة أن تعاود انخراطها في صنع نظام عالمي تعددي مستند إلى قيم الحرية والديمقراطية والعدالة. وإذ يكثّف ليفي اللحظة التاريخية الحاضرة بأنها تؤشّر أيضاً إلى خللٍ في منظومة قيم النموذج الغربي وثقافته، يدعو إلى تجديد ذلك النموذج عبر استعادة خطوط في الفكر يرى أنها لم تعطَ أهمية ملائمة، مثل الإرث الهليني بمزيجه الإغريقي والروماني، والفلسفة الوجودية لجان بول سارتر، وفينومينولوجيا إدموند هوسرل وغيرها.
This post is also available in:
English (الإنجليزية)