الوصف
الانتماء والاغتراب.. دراسة تحليلية
تعتبر ظاهرة الاغتراب من أهم الظواهر السلبية في العالم الحديث والمعاصر، وقد تبلورت على مدى سنوات عديدة، واتخذت مظاهر تختلف شدتها بين الماضي (أي بداية النهضة الأوروبية وما قبلها) وبين ما هي عليه في الزمن الحاضر.
ولكن المُشاهَد أنها كانت منذ ذلك التاريخ تزداد اشتداداً وحدّة تبعاً للتطور الحضاري المادي في هذا القرن (العشرين) وبصورة عكسية مع انتماءات الإنسان خصوصاً الانتماء الديني والتاريخي.
ولم تقتصر آثار الاغتراب على مجتمع بعينه في هذا العصر، بل لقد امتدت على امتداد رقعة العالم وعانى منها أفراد كثيرون من بني الإنسان في كل المجتمعات، وإن كان هناك â بلا شك â تفاوت في اتساع انتشارها وفي شدة وقعها على النفس بين مجتمع وآخر. ولو قارنا المجتمعات من حيث شدة هذه الظاهرة لوجدنا أن المجتمعات المتقدمة (صناعياً وتكنولوجياً) تعاني أكثر من غيرها من وطأة الاغتراب، رغم توفر الوسائل المادية من حيث الكم والكيف بما لا يمكن أن نقارن معه ما يتوفر لدى المجتمعات النامية (أو بالأصح المتخلفة صناعياً وتكنولوجياً).
ولا شك أن لهذا الأمر أسباباً عديدة لا نريد أن نفصلها في هذه المقدمة التعريفية بالكتاب وموضوعه، ولكن لعل من أهمها سببين، الأول: هو أن هذه المجتمعات (المتقدمة) اتخذت قيماً جديدة وأسلوب حياة جديداً لا يعترف إلا بالمادة وما يمكن أن تتعامل معه حواس الإنسان، وما يمكن بالتالي أن يستفيد منه هذا الإنسان ويجعله قوياً بحيث (يسيطر على الطبيعة) التي نظر إليها الأوروبيون على أنها شيء يجب أن نسيطر عليه ونوجهه ليخدمنا.
ونلاحظ هنا أن هذا في حد ذاته يوحي بطبيعة التوجه المادي الجديد ومدى جفائه وجفافه وتعاليه عندما يستعمل كلمة (السيطرة).
ولكن وجد هذا الإنسان في النهاية أن القيم المادية لا يمكنها أن توفر الطمأنينة التي كان يمكن أن يوفرها الدين، ولذلك نشأت الأديان الوضعية والفلسفات المختلفة كتعويض بديل للقيم (القديمة).
ولكن لا التقدم التكنولوجي ولا الأديان الوضعية ولا الفلسفات استطاعت أن تسد الفراغ الخطير الذي سقط فيه إنسان الحضارة الأوروبية. فكان فشلها هذا باباً يؤدي إلى هوة سحيقة من الاغتراب.
والسبب الثاني هو أن العلوم المادية وما رافقها من التكنولوجيا قد جعلت وقت الفراغ طويلاً عند هذا الإنسان، فلم يعد يتعب كثيراً ولا ينفق وقته في عمل جاد دائب ما دامت الآلات قد تولت العمل بدلاً منه.
وهذا في حد ذاته جعله يفقد المتعة التي يجدها الإنسان الذي يبذل جهداً كبيراً في عمله، فكان السأم والفراغ من العمل ـ بالإضافة إلى الفراغ الروحي ـ يتضافران في تقوية الشعور بالاغتراب وفقدان الانتماء بشكل عام. ولا نريد الاستمرار في عرض هذا الموضوع الذي تولى تفصيله هذا الكتاب .
يقع الكتاب في ستة أبواب تضم تسعة عشر فصلاً، شمل الباب الأول أربعة فصول؛ أما الفصل الأول فقد تولى التعريف بالمفاهيم فعرّف الانتماء وعرف الاغتراب وقسم كلاًّ منهما إلى أقسام أو أنواع ـ كما يمكن مشاهدة ذلك في الفهرس التالي ـ . وبالنسبة للانتماءات فقد قُسِّمت إلى انتماءات أولية (طبيعية) وانتماءات تالية (أو حديثة).
أما الاغتراب فقد قسم إلى قسمين: اغتراب جزئي واغتراب شامل. وشملت الفصول التالية من الثاني وحتى الرابع الانتماءات الأولية وهي ثلاثة: الانتماء العرقي (الأسري والقبلي) والانتماء المكاني (الوطني) والانتماء الديني.
كما شملت الفصول الأخرى (من الخامس وحتى الثامن) الانتماءات التالية (الحديثة) وهي الزمني (التاريخي) والأيديولوجي والقومي والسياسي. وقد كوّنت هذه الفصول الأربعة الباب الثاني من الكتاب.
أما الباب الثالث فقد خصص للبحث في جذور المشكلة في العصر الحديث (أي مع بدايات النهضة الأوروبية وما قبلها)، لأن هذه المشكلة كانت مشكلة أوروبية أولاً، ثم انتشرت في المجتمعات الأخرى مع انتشار مفاهيم الحضارة الأوروبية المادية. وشمل هذا الباب فصلين هما التاسع والعاشر، حاولنا فيهما أن نتبين أهم الملامح المميزة للتاريخ الأوروبي الفكري والثقافي والاجتماعي، وكيف نتجت مثل هذه الظاهرة من خلال هذا التطور التاريخي.
ولما كان العصر الحالي (القرن العشرون) يمتاز بازدياد تعقيدات الحياة بشكل أكبر بكثير مما كان في القرون السابقة؛ لذلك فقد جرى الاعتقاد بأن عوامل الاغتراب وأسبابه ازدادت بالتالي تشابكاً وتعقيداً فقسمناها إلى ثلاثة أقسام: الأول قسم عام يشمل العالم كله ولا يختص بمجتمع بعينه، وقسم آخر يخص كل مجتمع بعينه، ويحتمل ألا يكون موجوداً في مجتمع آخر، وقسم ثالث يخص الفرد ذاته ونفسيته ومشاعره والتربية التي نُشّئ عليها. وقد أطلقنا على القسم الأول الأسباب العالمية للشعور بالاغتراب، واحتواها الباب الرابع بفصوله (من الحادي عشر حتى الرابع عشر) وفي كل فصل منها بحثنا سبباً من هذه الأسباب العالمية وهي: التيارات الفكرية العالمية، والاستعمار وأثره في الأوضاع العالمية سياسيّاً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، والثالث فقدان الإيمان وانتشار الإلحاد، والرابع أثر التكنولوجيا وانتهاء عنصر المفاجآت والوعود العلمية.
أما الأسباب الأخرى (الخاصة بالمجتمع والخاصة بالفرد) فهي ما تناوله الباب الخامس بالبحث (في الفصلين الخامس عشر والسادس عشر).
وبعد أن حللنا الاغتراب ومعناه وأسبابه المختلفة رأينا أنه لا بد من ملاحقته لنرى آثاره التي ترافق وجوده في نفوس الأفراد والجماعات وذلك من أجل البحث عن العلاج والوقاية من هذا المرض العصري المستشري.
ولذلك تناول الباب السادس والأخير الآثار الناتجة عن الاغتراب على المستوى الفردي والاجتماعي، وكيفية علاجها. وكان هذا ما شمله الفصلان السابع عشر والثامن عشر؛ فالفصل السابع عشر درس آثاره على المستوى الفردي والاجتماعي، والفصل الثامن عشر وضع تصوراً لما يمكن اعتباره مسئولية المؤسسات الاجتماعية المختلفة لمحاربة هذه الظاهرة وتعميق الانتماء الفردي وتوفير الصحة النفسية والتوافق النفسي والاجتماعي بين الفرد ومجتمعه: بل وبيئته كلها.
أما الفصل الأخير (التاسع عشر) فكان خاتمة المطاف، وقد تضمن نقطتين هما: محاولة التنبّؤ المستقبلي، ثم بعض التوصيات التي تتصور الدراسة أنها تساعد في الوصول إلى المطلوب بصورة ممكنة التحقق.
وبعد، فهذا كتاب خرج إلى النور من واقع المعاناة والمشاهدة والدراسة، وإني أقول صادقاً بأن فكرته كانت بالنسبة لي حلماً أتمنى تحقيقه في يوم من الأيام.
وعندما عقدت العزم على البدء كانت تصادفني مصاعب جمة من أهمها اتساع هذا الموضوع وعدم وضوح حدوده، ومن أين ستكون البداية فيه. وعندما عرضت فكرته على بعض الأساتذة الأفاضل كان هناك تعليق بأن الموضوع غير سهل بل هو شائك، ولذلك فالحذر واجب. وأما الصعوبة العملية فكانت تتمثل في قلة المراجع في هذا الموضوع بالذات (كموضوع محدد)، رغم أنه موضوع ملموس عملياً، ولكن لم تكن له مراجع علمية محددة يمكن أن تعين كما في مجال علم الاجتماع العام أو علم النفس أو الأدب أو الفلسفة.
ورغم هذا لم يكن هناك أي تفكير في التراجع، بل لقد سألت الله أن يعينني على إتمام هذا العمل وأن يلهمني الصواب فيه. وكان سبحانه كريماً معي، فما إن بدأت حتى رأيت الأفكار والموضوعات وكأنها مسطورة في ضميري وفي فكري. وكان لا بد من المراجع لأن الموضوع متشعب . وبحثت، ولكن ما عثرت على كتاب واحد يدرس ظاهرة الاغتراب بشكل جاد ويحللها ويتعمق أبعادها المختلفة من كل الكتب التي اطلعت عليها وما هي بالشيء القليل، رغم أنني وجدت بعض المؤلفات التي تتناول هذه الظاهرة بشكل من الأشكال في بعض أجزائها كفصل أو باب، ولكن أكثر ما وجدته هو تأريخ لهذه الظاهرة عند المفكرين أو الفلاسفة أو علماء النفس أو الاجتماع. ولكن ذلك لا ينقع غلة ولا يدني من المطلوب.
ولذلك بدأت أفتش حرّاً في مجالات التربية وعلم النفس والاجتماع والسياسة والشريعة والتاريخ والاقتصاد â أفتش في كل هذه المجالات العلمية الرحبة لأستطيع تجسيد فكرتي عن ظاهرتي الانتماء والاغتراب بشكل لا يتقيد إلا بالواقع المحسوس لهاتين الظاهرتين، ويؤمن بأن الإنسان عبارة عن كائن واحد يجب أن ننظر إليه بمنظار تحليلي تركيبي يتناوله كما هو لا من زاوية ضيقة معينة مذهبية أو أيديولوجية. ولعل هذا الكتاب بهذه الطريقة يكون من أوائل الكتب التي تعالج هذه الظاهرة قاصرة موضوعها عليها فقط؛ هذا إذا لم يكن أول كتاب يفعل ذلك.
وإذا كنت قد وفقت في قصدي فذلك من فضل الله وتوفيقه وإحسانه، وإذا كنت قد وقعت في هفوات هنا أو هناك فإن الكمال لله وحده، وحسبي أنني بذلت جهدي قاصداً وجه ربي الكريم لا منتظراً مدحاً من أحد، ولا معرضاً عن نقد صالح مصلح يوجّه إليّ، أسمعه بكل تواضع وأثني على صاحبه. والله تعالى هو المسئول أولاً وآخراً أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يلهمنا رشدنا، إنه سميع مجيب.
حسن منصور
الانتماء والاغتراب.. دراسة تحليلية
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية