الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب فرانز ليوبولد نويمان البَهيموت: بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارستها 1944-1933،ترجمة حسني زينة (863 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا). وهذا الكتاب ليس تحليلًا للرايخ الألماني فحسب، بل مساهمة أساسية في علم الاجتماع السياسي أيضًا؛ إذ يتطرق إلى وحش الدولة النازية المتفلت من كل قيد.
في مقدمة الكتاب، وعنوانها انهيار جمهورية فايمار، يشير نويمان إلى انهيار أول تجربة ديمقراطية في ألمانيا (سميّت نسبة إلى مدينة فايمر، مكان انعقاد الجلسة الأولى للجمعية الوطنية الألمانية في 6 شباط/ فبراير 1919) بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ إذ فشلت كل محاولات ترسيخ نظام ديمقراطي طويل الأمد حينها، فالأحزاب اليمينية رأت في الديمقراطية أنموذج حكم غريبًا فرضه المنتصرون، ورفضت شريحة واسعة الإقرار بمسؤولية ألمانيا عن اندلاع الحرب. وتزامنت بداية انهيار جمهورية فايمر مع بداية الكساد العظيم الذي أنهك الاقتصاد الألماني وزاد عدد العاطلين وعمّق مظاهر التطرف؛ ما مهد الطريق أمام النازية لتصعد إلى السلطة.
الدولة والزعامة
قسم نويمان كتابه في ثلاثة أقسام. يتألف القسم الأول، النمط السياسي للاشتراكية القومية (النازية)، من ستة فصول. في الفصل الأول، الدولة التوتاليتارية، يفصل المؤلف تقنيات الفكر الدستوري المضاد للديمقراطية، والتنسيق الشامل للحياة السياسية، والدولة التوتاليتارية في الحرب. يقول: “كان مذهب الدولة التوتاليتارية يرضي مختلف الأنصار التقليديين للرجعية الألمانية: أساتذة الجامعات، والبيروقراطيون، وضباط الجيش، وكبار الصناعيين، كما كان مقبولًا من العالم الغربي إجمالًا؛ ذلك أنّ أي نظرية سياسية تكون فيها الدولة مركزية ومسيطرة ومؤتمنة على المصالح العامة تتسق مع تراث الحضارة الغربية مهما كان هذا التراث ليبراليًا. فالتراث الغربي لا يعدّ الدولة آلة قمعية مضادة لحقوق الإنسان، بل هي كيان يسهر على مصالح الكل ويحمي هذه المصالح في وجه تعديات أي جماعات مخصوصة”.
في الفصل الثاني، ثورة الحزب ودولة “الحرَكة”، يحدد المؤلف ثلاثة أنماط من العلاقة بين الحزب والدولة في دول الحزب الواحد. ففي إيطاليا، أُدمج الحزب في الدولة؛ والحزب هو عضو من أعضاء الدولة، وهو حزب الدولة. وفي روسيا السوفياتية، يُمنح الحزب السيطرة الكاملة على الدولة. ويقع الأنموذج الألماني بين هذين النموذجين، ولا بد لتحليله من أن يتم “لا لإرضاء فضول الفقهاء الدستوريين والإداريين بل لإيضاح المشكلات الأساسية المتعلقة بأين تقع السلطة السياسية وإلى أي مدى تغلغلت الأفكار النازية في الجيش والإدارات المدنية”. ويعرض أيضًا مسائل الاحتجاج الأيديولوجي على الدولة التوتاليتارية، والدولة الثلاثية المكونات، والإس إس وشبيبة هتلر، والبيروقراطية العقلانية، والحزب بوصفه آلة.
في الفصل الثالث، الزعيم الكاريزمي في دولة الزعامة، يبحث نويمان في سيكولوجية الكاريزما. وفي رأيه، قدم الإصلاح اللوثري والكالفني تبريرات نظرية لاعقلانية للسلطة السيادية غير المحدودة، ولم يكن هذا الإصلاح من بين الحركات التي أطلقت حقبة الليبرالية والحقوق الطبيعية والمساواة والعقلانية. يقول: “بينما واجه لوثر الشر في العالم بعدالة النظام الإنجيلي، باعتبار هذا النظام محتويًا على بذور الاعتراض الممكن والثورة، وضع كالفن العالمين الزمني والديني في تناغم وانسجام عبر فرض عقيدته الجديدة على الدولة”. فالإنسان عند كالفن ليس كائنًا عقلانيًا محبوًّا بنور العقل، وهو عاجز عن أن يبصر ويقود حياته بمقتضى أحكام العقل.
العرقية الجرمانية
يفصّل نويمان في الفصل الرابع، الشعب العرقي مصدر الكاريزما، مسائل الأمّة والعرق، والعرقية في ألمانيا، ونظريات معاداة السامية، وتنقية الدم والتشريعات المعادية لليهود، وأَرْينَة الأملاك اليهودية، وفلسفة العداء للسامية. يقول: “النازية هي أولى الحركات المعادية للسامية التي دعت إلى القضاء التام على اليهود. غير أنّ هذه الغاية ليست إلا جزءًا من خطة أشمل عرفت بتنقية الدم الألماني”. والنص الأساس للتشريع المتعلق بتحسين النسل هو قانون “الحيلولة دون النسل المعتل وراثيًا” الذي يسمح بالتعقيم في حالات البلاهة الوراثية وجنون الفصام وهوس الاكتئاب وداء الصرع الوراثي ورقاص هنتنغتن والعمى والصمم الوراثيين والتشوه البدني المفرط.
في الفصل الخامس، رايخ ألمانيا الكبرى: المجال الحيوي وعقيدة مونرو الجرمانية، يقول نويمان: “إن لتاريخ الجغرافيا السياسية أهمية أكثر من عابرة بالنسبة إلينا لأنه يوفر لنا شاهدًا ممتازًا على الطريقة التي اعتمدها النازيون في تحوير المذاهب الموجودة أصلًا وتغييرها لدمجها في خططهم الفكرية والعملية. فهم لم يبتكروا الجغرافيا السياسية أكثر مما ابتكروا فكرة رايخ ألمانيا الكبرى. إنّ ما فعلوه إنما هو استثمارها بطريقة أنجح بكثير من الإمبرياليين الألمان السابقين”.
أمّا في الفصل السادس، نظرية الإمبريالية العرقية، فيبحث نويمان في الديمقراطية والإمبريالية، ومواجهة الشعب البروليتاري حكم الأثرياء، والعناصر الماركسية المزيفة في نظرية الإمبريالية الاجتماعية، والأسلاف القوميين للإمبريالية الاجتماعية، والإمبريالية الألمانية، وعلاقة الديمقراطيين الاجتماعيين بالإمبريالية، والعلاقة بين الإمبريالية العرقية والجماهير. يقول: “ثمة نوعان أساسيان من الإمبريالية يُعرفان عادة بإمبريالية المترفين وإمبريالية الفقراء. وينبغي لكل واحدة منهما أن تقسم إلى أقسام فرعية. وكل واحدة تختلف عن الأخرى من حيث الأيديولوجيا، والتقنية، والغاية”. وهذا لا يعني أنّ الدول المترفة تبقى مترفة إلى الأبد، بل يمكن أن تتحول إلى معتدية في ظل أوضاع معيّنة، لكنها عندئذ تصبح فاشية.
اقتصاد الرايخ
يضم القسم الثاني، الاقتصاد الاحتكاري التوتاليتاري، أربعة فصول. في أولها، اقتصاد لا يطاوله علم الاقتصاد؟، يتناول المؤلف قضيتي رأسمالية الدولة وأسطورة الدولة التشاركية؛ فيجد أنّ النظرية الاقتصادية النازية لا تتطابق مع مذاهب رأسمالية الدولة، وأنه لا وجود لنظرية اقتصادية نازية “ما خلا الشعار القائل أنّ المصلحة العامة أهم من المصلحة الخاصة، وهو شعار يتكرر في كل مناسبة ممكنة، ويستعمل لتغليف كل قرار اقتصادي”؛ فالنظام الاقتصادي النازي براغماتي، لا يشبه مطلقًا نظريات المراتب الاجتماعية أو التشاركية، توجّهه الحاجة إلى أعلى مستوى ممكن من الفاعلية والإنتاجية الذي لا بد منه للمضي في الحرب.
في الفصل الثاني، تنظيم الأعمال، يدرس نويمان الوضع السياسي للأعمال في جمهورية فايمار والتنظيم السياسي للأعمال في ظل النازية. يقول: “تتمتع الدولة بسلطة لا حدود لها. وفي استطاعتها قانونيًا، أن تفعل كل شيء تقريبًا؛ وفي وسعها أن تصادر أموال أي كان. ونحن إذا ما حملنا منطوق القانون على ظاهره فسوف يتكون لدينا انطباع بأن ألمانيا بلد تسوده رأسمالية الدولة، على الرغم من أننا لم نأت بعد إلى ذكر التحكم في القوى العاملة والاستثمارات، والعملة. غير أنّ القانون كاللغة لا يعبّر دائمًا عن الواقع؛ بل كثيرًا ما يحجبه”.
وفي الفصل الثالث، الاقتصاد الاحتكاري، يتناول المؤلف قضايا الملكية والتعاقد، وسياسة الكارتيل النازية، ونمو الاحتكارات. وبحسبه، فرضت الكرتلة الإجبارية بحكم القانون، ومُنح وزير الاقتصاد الفدرالي صلاحية إنشاء كارتيلات إجبارية، لإرغام رجال الأعمال غير المنضمين على الانضمام إلى الكارتيلات القائمة.
أمّا الفصل الرابع، الاقتصاد الأمري، فيعرض فيه المؤلف مسائل القطاع المؤمّم، والقطاع الحزبي، والسوق والتحكم في الأسعار، ونهاية الرأسمالية المالية، والتجارة الخارجية والاكتفاء الذاتي، والتحكم في القوى العاملة. يقول: “كان في وسع النازية، طبعًا، أن تؤمم الصناعة الخاصة. لكنها لم تفعل ذلك ولم تكن تريد أن تفعله. ولِمَ تفعل؟ فللنازية وكبار الصناعيين المصالح نفسها بالنسبة إلى التوسع الإمبريالي. النازية تسعى وراء المجد وتثبيت حكمها، والصناعيون يسعون إلى الاستعمال الكامل لطاقاتهم وغزو الأسواق الأجنبية”.
ملكي جمهوري
يضم القسم الثالث، المجتمع الجديد، فصلين. في أولهما وعنوانه الطبقة الحاكمة، يدرس نويمان البيروقراطية الوزارية في ألمانيا النازية، والتراتب الهرمي في الحزب، وعلاقة الحزب بالإدارات الحكومية وبالقوات المسلحة، والقيادات الصناعية والزراعية، وشركة النفط القارية بوصفها أنموذجًا للطبقة الحاكمة الجديدة، ومسألة تجديد الطبقة الحاكمة؛ فيجد أنّ الحركة النازية قررت أن تنتقي من كتلة السبعين مليون نسمة نواة من الرجال، “وتوحِّدها وتعهد إليها بالمهمة الخاصة المتمثلة بقيادة الدولة، نواة ينمو أعضاؤها منذ الصبا على فكرة سياسة عضوية… لذلك فإن الدولة النازية هي، إذا شئنا استعمال المفاهيم القديمة لوصف بنيتها، نظام ملكي على أساس جمهوري”.
أمّا في الفصل الثاني، الطبقات المحكومة، فيتناول المؤلف مبادئ التنظيم النازية، والطبقة العاملة في ظل جمهورية فايمار، والجبهة العمالية، وقانون العمل، والتنظيم الصارم لأوقات الفراغ، والأجور والدخول بوصفها وسائل للتحكم في الجماهير، والدعاوة والعنف، والقانون والإرهاب النازيين. يقول: “لا تثق النازية بالمجتمع، وهي لا تثق بطيب إرادته. النازية لا تثق بقدرة مختلف المنظمات على تسوية خلافاتها على نحو يترك سلطة النازية من دون إزعاج. وهي تتخوف من الهيئات شبه المستقلة في داخلها، وتنظر إليها باعتبارها بؤرًا للاستياء والمقاومة. لهذا السبب تطوي النازية جميع المنظمات تحت جناحيها وتحولها إلى هيئات إدارية رسمية. وتستعيض عن المبدأ التعددي بالتنظيم الأحادي، الكلي، والتسلطي. هذا هو المبدأ الأول من مبادئ التنظيم الاجتماعي النازي”. كما تقوم على تذرير الفرد؛ فهي تُقوَّض الجماعات كالأسرة والكنيسة والتضامن الناشئ من العمل المشترك في المصانع والمتاجر والمكاتب.
فرانز ليوبولد نويمان منظر ماركسي يهودي ألماني، من أعضاء “مدرسة فرانكفورت” وأوائل مفكري “النظرية النقدية”. مع صعود النازيين إلى السلطة، تحوّل اهتمامه إلى تحليل القوة الاقتصادية وعلم النفس السياسي. في منفاه الأميركي، صار عالمًا سياسيًا وأحد مؤسسي العلوم السياسية الحديثة.
حسني زينة: كاتب ومحقق ومترجم لبناني. من مؤلفاته: العقل عند المعتزلة (1980)، وجغرافيا الوهم (1989). ترجم ثروة الأمم لآدم سميث، وفكرة التاريخ عند العرب لطريف خالدي.
This post is also available in: English (الإنجليزية)