الوصف
مقدمة الكتاب:
ن الوعي بالموقع المهم الذي يحتله الخطاب في الحياة الاجتماعية قديم قدمَ العلوم اللغوية، والبلاغية، والشرعية، والفلسفية. إذ شكل مادة بحث خصبة لرؤى متباينة في مختلف البيئات والثقافات. فإنْ كانت دراساته قد اتفقت حول مركزيته وقدرته اللامتناهية على التأثير، فإنها قد افترقت من حيث نطاقات البحث فيه، والمناهج المتوسل بها في دراساته. فمنذ ستينات القرن العشرين، ميز علماء اللغة بين دراسات الخطاب ونظرية تحليل الخِطاب اللسانية(Charaudeau and Maingueneau 2002)؛ فالأولى تدرس الخطاب من منظورات غير لسانية، كعلم إثنولوجيا التواصل، والتحليل التحادثي المستند إلى المنهجية العرقية، والفلسفة التحليلية، وعلم الاجتماع، وعلم الاجتماع النفسي، والأنثروبولوجيا، والنقد الأدبي؛ والثانية تدرس الخطاب من منظور لساني خالص يركز على وصف الهياكل اللغوية الموظفة في مقامات الاستعمال.
ومعلوم أن المسار التاريخي لتطور نظرية تحليل الخطاب ذات التوجه اللساني قد أفاد من نشاط البحث في اللسانيات الوصفية، والتداولية، والبلاغة، ولسانيات النص. مما أثمر غنى كبيرا في الأطر المرجعية والمقاربات اللغوية للخطاب، كالمقاربة التلفظية، والمقاربة التبليغية، وتحليل المحادثة، ومقاربة المدرسة الفرنسية، والمقاربة التداولية، والحوارية. ولعل المشترك بين هذه المقاربات -وإن اختلفت أطرها النظرية- هو التوفيق بين وصف البنى الشكلية للنصوص وتفسير استعمالها اللغوي في سياق التفاعل. وفي سنة 1991، ظهرت أحدث مقاربات نظرية تحليل الخطاب ذات التوجه اللساني، وهي مقاربة التحليل النقدي للخطاب(Critical Discourse Analysis)، على يد مجموعة من الباحثين اللغويين، أمثال نورمان فيركلف، وفان دايك، وفان لوفين، وروث فوداك، ومارتن ريزيغل، وغانتر كريس.
يقوم البحث في إطارِ (C.D.A) على دراسة العلاقة الجدلية بين اللغة والخطاب والمجتمع، ويسعى إلى فضح السلطة الممارسة على النماذج الإدراكية المستهلكة للخطاب. إذ إن اللغة حسب هذه المقاربة هي الوسيط الفعلي لتكريس أطماع الهيمنة على المستوى الاجتماعي، وبها يُتحكم في القناعات والاختيارات. لذلك، تركز الأبحاث في هذا الإطار على وصف الممارسة النصية، ثم تحليل التفاعل الخطابي، فنقد الممارسة الاجتماعية. ومعنى ذلك أن هدف محلل الخطاب هو الكشف عن السلطة الممارسة، من خلال تفكيك البنى اللغوية للنصوص وشبكات علاقاتها اللسانية الداخلية، وتحليل عناصر السياق والعلاقات التفاعلية بين المشاركين، لتحديد الذوات والمواقع والمراجع الأيديولوجية؛ ثم فضح السلطة المتوارية خلف الاختيارات اللغوية على الصعيد الاجتماعي. لذلك، فإن ما تتجاوز به هذه المقاربة سابقاتها في نظرية تحليل الخطاب، هو دراسة الاستعمال اللغوي المخادع الذي يخدم الأيديولوجيات، والتواق إلى السيطرة على مناطق القرار في البنى الذهنية لدى الفئات المستهدفة، وليس الاقتصار على تحليل المضمون فقط.
توظف مقاربة (C.D.A) -بالإضافة إلى الأطر والمفاهيم اللسانية- مفاهيم الأيديولوجيا، والسلطة، والهيمنة، والممارسة الاجتماعية، والفاعل الاجتماعي..؛ وتوفق بين ثلاث محطات للتحليل: وصف الممارسة النصية، وتحليل الممارسة الخِطابية، وتفسير الممارسة الاجتماعية. ومن الضروري أن نحيل في هذا المقام إلى تعدد المناهج المنضوية تحت لواء هذه المقاربة، وهي: التحليل العلائقي الجدلي، والمقاربة التاريخية للخطاب، والمقاربة المعرفية الاجتماعية، ومقاربة الفاعل الاجتماعي، والتحليل التنظيمي للخطاب، ولسانيات المدونات(محمد يطاوي، مجلة سياقات اللغة والدراسات البينية، العدد السابع، أبريل 2018). وتُعنى بكل المجالات التي تحتضن الممارسات السلطوية عبر الخطاب والاستعمالات المشبوهة للغة؛ كالسياسة، والإعلام، والخطاب الديني، والإعلانات التجارية، والعنصرية، واضطهاد الأقليات، والقهر الاجتماعي، والتواصل الجماهيري، والتعليم المدرسي والجامعي، ,والاقتصاد، والعلاقات الدولية.