الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
لماذا أصبحنا على ما نحن عليه الآن.
إن رايشهولف، عالم الأحياء وأحد الدعاة المتحمسين للحفاظ على الطبيعة والكاتب الحاصل على عديد من الجوائز لكتبه العلمية سهلة الفهم، لا يعيد علينا في كتابه هذا سرد قصة التطور، من فرضية الحساء الأولي (البدائي) وصولًا إلى الإنسان، بل يبدأ عند الإنسان ويكشف لنا كيف أن المعرفة بالتطور يمكن أن تساعدنا في أن نفهم لماذا صرنا على ما نحن عليه الآن.
يرمز التطور بحسب ما يرى رايشهولف إلى التنوع. والتطور لا يصل إلى حالة مستقرة، ناهيك عن أن يصل إلى حالة مثالية. التطور لا يعرف المقاصد النهائية، فهو معنيّ فقط بالتغيرات التي قد تفيد أو تضر المتعرض لها. وكما أن البشرة السوداء لها مزاياها في أشعة الشمس الحارقة فإن البشرة البيضاء على العكس من ذلك تكون لها مزاياها حينما يتوجب على الإنسان بسبب إصابته بنزلة برد ارتداء ملابسه ويتعين على المواضع العارية المتبقية من الجسد العمل من أجل الحصول على ما يكفي من ضوء الشمس لكي يستطيع فيتامين دال المهم للحياة أن يتكون في الجلد.
بالتطبيق على تاريخ الطبيعة الذي عاشه الإنسان يشرح رايشهولف كيف تُرسم الشجرة الوراثية وما تفصح عنه لنا وعن أسلافنا وعن انتشارهم على الأرض. وهي لا تفصح فحسب أن البشر أصولهم أفريقية، بل أيضا أن حركات الهجرة كانت معقدة بحيث لا جدوى حقيقية من الحديث عن الأجناس البشرية. إن التنوع الجيني داخل جماعة بشرية أعظم شأنًا من الاختلافات التي بين “الحضارات” أو “الشعوب” التي كان هناك ميل عظيم إلى اعتبارها وحدة متحدة.
ويشرح رايشهولف بالتمثيل على تاريخ الطبيعة لأقدم حيوان منزلي عرفه الإنسان أي الكلب آليات التطور، ومنها على سبيل المثال أن الطفرات في الجينات التنظيمية يمكن أن تكون سريعة التأثير إلى درجة كبيرة. وعند هذا الموضع لا يفوّت رايشهولف الفرصة دون أن يربط بين نظرية التطور والمشكلات الراهنة: إن التربية التي يمارسها الإنسان لأجناس من الكلاب تتسم بالتطرف وبغياب القدرة على الحياة في ظروف الحرية جديرة بأن تدعونا إلى التفكير إذا ما دار بخلدنا التدخل في عملية التطور المتعلقة بنا، حيث كشف لنا التطور كم هو صعب أن نخطط على نحو مستدام للمستقبل.
وبطبيعة الحال لن تغيب عن قصة التطور التي يحكيها رايشهولف الموضوعات الكلاسيكية: شجرة الحياة التي تربط كافة أشكال الحياة من نباتات وحيوانات والإنسان مع بعضها البعض، الديناصورات وانقراضها من خلال اصطدام مذنب بالأرض، التنوع في مناقير الطيور الذي يكشف لنا كيف تتخصص الأنواع في غذاء بعينه أو في طريقة بعينها للحياة.
وفي كافة مظاهر التنوع التي يعالجها يقدم لنا رايشهولف قاسمًا أعظم مشتركًا بينها: التطور يعني أن تستقل عن البيئة المحيطة يومًا بعد التالي. لقد بدأت هذه العملية حينما ميزت أولى الخلايا مما يقرب من ثلاثة مليارات ونصف المليار من الأعوام حدودها عن البيئة المحيطة لتتحكم بعدها بصرامة في ما يسمح له بالدخول إليها وما يمنع منه. أما اليوم فهناك مخ معقد يتموضع بداخل جمجمة مستقرة متمتعا بحماية خاصة وبمساعدته أخذ البشر في التحرر على نحو أقوى—مقارنة بأي نوع آخر من الأنواع—من قيود الطبيعة. هل يبالغون في هذا الأمر ربما؟
أما في الجزء الثالث والأخير من الكتاب فيعود الكاتب مرة أخرى إلى الإنسان ليسأل عن مستقبله: فنحن أكثر الكائنات الحية على هذه الأرض احترابًا، وهذا بمسافة شاسعة عن بقية الكائنات الحية الأخرى، هذا ما يقرره رايشهولف ليقدم لنا صورة على صفحتين بعنوان “التقدم” في تكنولوجيا السلاح، بدءًا من الفأس الحجري ووصولًا إلى المدفع الرشاش. إن العدوان واستعداد الفرد للدفاع عن جماعته في مواجهة الحيوان والإنسان أفادا الإنسان لمدة طويلة عبر تاريخ التطور الممتد. أما اليوم فإن العدوان وهذا الاستعداد للدفاع يجعلان تعايشنا المشترك أكثر صعوبة. وهنا يسأل رايشهولف: هل بمقدورنا أن نكون الأمرين معًا: الإنسان والإنساني؟ وهو يضع أمله هنا على ما تتمتع به الوسائط الرقمية من قدرة على الربط: إن جيل الحاسب الآلي كان أول جيل على الإطلاق امتلك الوسائل واللغة لجمع شمل البشر في بوتقة البشرية.
مجددًا استطاع رايشهولف أن يكتب عملًا ممتعًا ينساب في سلاسة وأنت تقرأه. وتدعم شروح رايشهولف رسومات كثيرة بريشة الرسام يوهان براندشتيتر. وقد ميزت الكلمات المفتاحية المهمة بألوان جذابة، كما وضعت مربعات على جانب الصفحة تمدنا بملخصات أو معلومات إضافية. وقبل هذا وذاك تكشف “القصة القصيرة للإنسان والطبيعة” أن التطور ليس نظرية جافة، بل إنه يساعدنا على أن نفهم أنفسنا وبعض مشاكلنا الأكثر إلحاحًا.
This post is also available in:
English (الإنجليزية)