الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
ظل النموذج الثقافي الذي تطرحه دول الخليج مُحيراً لكثير من الكُتَّاب الأوروبيين، فمجتمعات الخليج تجمع في طياتها بين الأصالة والمعاصرة، وبين الزيّ العربي المُعبِّر عن الثقافة البدوية القديمة، وبين البنايات الشاهقة المُصممة على النمط الأوروبي؛ الأمر الذي دفع إلى البحث في تلك النماذج الثقافية للتعرف على طبيعتها وكيفية تحقيقها لهذه السمة على أرض الواقع.
في هذا الصدد، يأتي كتاب “ميريام كوك” Miriam Cooke، الباحثة المتخصصة في دراسات الشرق الأوسط بجامعة ديوك الأمريكية، تحت عنوان: “الحداثة القبلية.. صناعة نماذج جديدة لدول الخليج العربي”، ليسلط الضوء – من خلال فصوله الثمانية – على النموذج الثقافي لدول الخليج ومدى تفرده، متتبعاً كيف انتقل هذا النموذج من القبلية إلى الدولة المعاصرة، وكيف استطاع في نفس الوقت الحفاظ على ثقافة القبيلة وعاداتها، بما جعله يخلق هُوية خاصة به، ميَّزته عن سائر المجتمعات الأخرى.
“البرزخ”.. مفهوم لوصف النموذج
أشارت “كوك” – في إطار دراستها للمجتمعات الخليجية – إلى أنها ركَّزت نطاقها الجغرافي على دول البحرين والكويت وقطر والإمارات، لكنها توسَّعت في عرضها للنموذج الثقافي ليشمل سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية. وقد استخدمت الكاتبة مفهوم “البرزخ” لوصف طبيعة التناقض في المجتمعات الخليجية، و”البرزخ” هو مفهوم قرآني يُستخدم للتعبير عن المساحة الزمنية الفاصلة بين الحياة والحياة الأخرى بعد الموت، كما يُوصف أيضاً بكونه المكان الذي تلتقي فيه المياه العذبة بالمالحة؛ وبالتالي اعتبرت الكاتبة أن النموذج الخليجي يجمع بين أنماط ثقافية عديدة، حتى لو بدا بينها بعض التناقض.
وتحاول الكاتبة – من خلال هذا التوصيف – الإجابة على تساؤلها الرئيسي، وهو كيف استطاع بعض البدو الرُحَّل والصيادون، خصوصاً بعد اكتشاف البترول في أراضيهم، تحويل مجتمعاتهم البدوية إلى مجتمعات معاصرة بالشكل الحالي؟ وكيف استطاعوا خلق نموذج خاص بهم يجمع الأصالة البدوية والحداثة الأوروبية؟.
البرزخ – في وجهة نظرها – تمثله دول الخليج، لأنها تجمع بين متناقضات واستطاعت التعايش مع هذا الأمر، فتجد – على سبيل المثال – المعمار الحديث يتزامن مع الزي المحلي الذي يعبر عن هُوية الدولة.
لذا تشير الكاتبة إلى أن هذا التناغم والتجانس قد عملا بشكل ديناميكي في عملية متبادلة في السنوات الخمسين الأخيرة. وبالتالي، ساهمت الطبيعة الحركية الدائمة للعولمة من ناحية، مع القبائلية من ناحية أخرى، في تكوين ملامح هذا النموذج الجديد للدول التي تختلط فيها الطبيعة القبلية بالطبيعة الحداثية؛ بحيث أصبح من الطبيعي أن ترى المواطن الخليجي يرتدي الزي القبلي الرسمي القديم، وفي نفس الوقت يركب سيارة فارهة ومن أحدث الموديلات، وكذلك ترى الشعر العربي القديم يُروَى في المجالس الشعرية، وفي نفس الوقت ترى تنظيم حفلات صيد الصقور.
الطبقات المُكوِّنة لمجتمعات الخليج
في محاولتها لفهم الطبيعة القبلية لمجتمعات الخليج، استعرضت الكاتبة لمحات من تاريخ هذه المجتمعات؛ وأشارت في هذا الصدد إلى أن مجتمعات الخليج انقسمت إلى خمس طبقات أساسية؛ وهي:
- الطبقة العليا التي تضم العائلات الحاكمة.
- الطبقة الثانية تضم الأفراد الذين غادروا القبيلة في الأوقات الصعبة، ثم عادوا بعد ذلك.
- الطبقة الثالثة تضم هؤلاء الذين لديهم أصول فارسية، سواء قبائل العجم والمعروفين بعرب فارس، أو قبائل الهولة والمعروفين بعرب الخليج، والذين تركوا الجزيرة العربية هرباً من بعض الخصومات القبلية واستقروا في بلاد فارس ثم عادوا إلى شواطئ الخليج العربية.
- الطبقة الرابعة تضم ذو الأصول الأفريقية.
- الطبقة الخامسة تضم فئة “البدون” أو غير محددي الجنسية أو المقيمين بصورة غير شرعية أو غير قانونية.
وقد أشارت الكاتبة – في نفس السياق – إلى أن العامل الوحيد الذي كان يُميز كل تلك المجتمعات عن بعضها هو “القبيلة”، حيث كانت جميعها تمتلك مقومات القوة والنمو، كما كانت تواجه تحديات داخلية، لكن بفضل شيوخ تلك القبائل وقادتها، استطاعت دول الخليج أن تصل للمرحلة العصرية التي نراها في الوقت الحالي، نظراً لأنهم استطاعوا توظيف أدوات القوة لتحقيق النمط الذي يجمع بين قيم القبيلة وعاداتها، وبين الحياة الحديثة ومقوماتها.
وبُغية استمرار وتعميق هذا النموذج المختلف، اعتمدت دول الخليج على “التقاليد المُخترَعَة” مثل هندسة التراث، والذي برز بشكل واضح في الأنشطة الثقافية المرتبطة بهُوية الدولة؛ كالزي القومي والعادات الفلكلورية، والشعر والأدب، وكذلك المتاحف العالمية، وإعادة التركيز والاهتمام بالأسواق مثل سوق واقف في الدوحة، إلى جانب الاهتمام الكبير بالمساجد الإسلامية وتصميماتها الزخرفية التي تضفي طابعاً يجمع بين التراث القديم والتصميمات المعاصرة في آن واحد.
النموذج الخليجي والهُوية الوطنية
لا تُخفي الكاتبة إعجابها بالنموذج الخليجي الجديد، معتبرةً أن لدول الخليج استطاعت من خلال طرح هذا النموذج الفريد تشكيل هُوية جديدة للمجتمعات العربية بشكل عام؛ إذ إن معظم المجتمعات العربية لا تستطيع تحقيق ذلك التوازن بين الأصالة والمعاصرة، وتخترقها قيم العولمة بشكل كبير.
لذا استطاعت دول الخليج أن تخلق هُوية وطنية جديدة لمواطنيها، انعكست في سلوكياتهم وزيهم الرسمي واحتفالاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بل وقد فرضت تلك الهُوية نفسها على العالم كله وأجبرته على احترامها. وأشادت الكاتبة بدور القادة وشيوخ القبائل في تحويل تلك القبائل البدائية الأولى إلى ذلك النموذج العصري للمجتمع، وقدرتها على الحفاظ والتمسك بقيم القبيلة التي أعطتها في النهاية تفرداً مميزاً وملفتاً في الداخل، وحضوراً دولياً قوياً في الخارج.
وفي هذا الصدد، تؤكد “كوك” أن شيوخ القبائل استطاعوا تحقيق أكبر استفادة ممكنة من ظهور البترول في الأراضي الخليجية لإلحاق بلادهم بركب الحضارة المتقدمة، وهو أمر يُحسب لهم، خاصةً بعدما أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي دول جاذبة للسياحة العالمية في الوقت الحالي.
كما ترى الكاتبة أن القوة الاقتصادية لدول الخليج مكَّنتها، بجانب نموذجها الثقافي الفريد، من التواجد على الساحة العربية والدولية بشكل قوي، وهو ما يبرز في اهتمامها ودعمها المستمر للقضية الفلسطينية، وزيارات قادة دول الخليج لأوروبا من وقت لآخر بناء على دعوات من قادة تلك الدول للمشاركة في المؤتمرات أو الفعاليات والأنشطة الثقافية المختلفة.
وتضيف الكاتبة أن القيادات ومسؤولي الحكم في كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي حرصوا على إيجاد كيان قومي حديث ومستقل عن الدول الأخرى، بحيث يتمتع كل من هذه الكيانات بسمات مختلفة أو متمايزة عن المجتمعات المجاورة. لكن ورغم ما بُذل ويُبذل من جهد، فإن التشابه بين المجتمعات الخليجية يظل هو السمة السائدة، ويتجاوز التمايزات “الوطنية” الجديدة أو المفترضة.
تحفظات موضوعية ومنهجية
أثارت الأفكار التي طرحتها “ميريام كوك” في كتابها بعض التحفظات من جانب عدد من المتابعين، ويمكن إجمالها فيما يلي:
- الإشارة إلى محدودية معرفة الكاتبة بطبيعة الثقافة العربية، إذ بدا الكتاب وكأنه مجموعة من المحاضرات الخفيفة التي تُلقى على الطلبة، مع إضافة بعض الملاحظات القليلة التي تنم عن معرفة غير متعمقة بطبيعة تلك المجتمعات.
- وجود فراغ تنظيري واضح بالكتاب ناتج عن ضعف الافتراض الرئيسي؛ فعند حديث الكاتبة عن “الحداثة القبلية” تقول: “بعض ثقافات دول الخليج تضم الطبيعة القبلية والعصرية، وكأنها تنظر في كتالوج الأثاث في شركة أيكيا IKEA وترى الأثاث القديم والجديد معاً”، وبالتالي أصبح موضوع الكتاب أقرب إلى الوصف منه إلى الافتراض البحثي.
- غموض مفهوم “البرزخ” بشكل كبير الذي استخدمته الكاتبة للتعبير عن طبيعة النموذج الخليجي خصوصاً بالنسبة للغرب. كما أن الأساس في تعريف الثقافة أنها تجمع بين الماضي والحاضر معاً، وبالتالي فإن فرضية الكتاب لم تقدم جديداً في هذا السياق.
- لم يعتمد الكتاب إطاراً تحليلياً مُحكماً يوضح طبيعة الأفكار الرئيسية المطروحة، مع افتقاد عنصر التجربة الواقعية والاختلاط الحقيقي بالمجتمع الخليجي، لمعرفة ثقافته بشكل أكثر عمقاً. ومن ناحية أخرى، لم يتم الاستناد إلى مصادر علمية قوية وموثوقة في الكتاب.
- انتقاد فرضية أن النموذج الحداثي أو المعاصر المتقدم يرتبط بالنموذج الأوروبي بالضرورة، وأن ما عداه يعد تخلفاً، حيث إن النموذج الثقافي الأوروبي هو أحد النماذج الحداثية، لكنه لا ينفرد بصفة التقدم، خاصةً في ظل وجود نماذج أخرى في دول آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها يمكن القياس عليها.
- ثمة انتقادات للفكرة التي قامت على أساسها الكتاب من حيث كون المجتمعات الخليجية قبلية، على اعتبار أن تلك المجتمعات ليست قبلية في الوقت الحالي، ولم تكن قبلية قبل ذلك.
ويمكن القول إنه رغم هذه التحفظات المنهجية والأكاديمية التي تعرضت لها أفكار كتاب الباحثة “ميريام كوك”، غير أنه طرح مفهوماً جديداً في الإطار الثقافي وإن غاب عنه العمق المطلوب لترسيخ الفكرة بمدلولاتها وشواهدها الثقافية، خاصةً أن النموذج الخليجي مايزال محيراً للكثيرين ويحتاج إلى مزيد من الدراسة المتعمقة من أجل فهمه بالشكل الصحيح.
إعداد: باسم راشد
This post is also available in: English (الإنجليزية)