الوصف
الخليج العربي في وثائق الأرشيف الروسي
رغم أن منطقة الخليج العربي لم تكن تمتاز بأي أهمية اقتصادية مباشرة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكذلك في بدايات القرن العشرين، إذ كانت بيئة صحراوية في بدايات القرن العشرين، إذ كانت بيئة صحراوية طاردة للسكان لشدة حرارتها وارتفاع رطوبتها وقلة موارد المياه فيها، وعدم تمتعها بأي مصدر من مصادر الثروة.
بالطبع قبل اكتشاف البترول – سوى صيد اللؤلؤ وتجارته – والذي كان محصورًا في فئة محددة من مشايخ الخليج، إلا أن ذلك كله لم يحل دون بروز الأهمية القصوى التي تمتعت بها منطقة الخليج وجعلها مثار مناصفة بين القوى الكبرى مثل روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا.
أما بريطانيا، فقد كانت هي سيدة الموقف في الخليج لفترات طويلة، وقد سلمت القوى الكبرى أو استسلمت لهذا الواقع فترات طويلة أيضًا، إذ كان الخليج ممرًا استراتيجيًا في طريق إنجلترا إلى مستعمراتها في الشرق الأقصى، حيث الهند درة التاج البريطاني، وكانت بريطانيا تسعى في سياسة متوازنة إلى إضعاف – ليس قطع – العلاقات بين مشايخ الخليج وبين الدولة العثمانية، حتى تفتح مجالاً لمنافسة قوى استعمارية أخرى تنافسها في منطقة الخليج التابعة للدولة العثمانية، هذه الدولة التي كانت بريطانيا – في بعض الأحيان – تسعى إلى الاحتفاظ بكيانها وعدم تطبيق خطط اقتسام أملاكها، لتؤمن بذلك طريقها الطويل إلى مستعمراتها في الشرق، والذي كان جزء كبير منه يقع في دائرة أملاك ونفوذ الدولة العثمانية.
وكانت بريطانيا تدافع بشراسة ضد أي منافسة استعمارية لأي قوى تحاول النيل من نفوذها في الخليج، حتى المعاهدات الدولية التي كانت تعقد بين القوى الكبرى لتقسيم مناطق النفوذ، كانت بريطانيا دائمًا تسعى إلى التحايل عليها أو خرقها، إذا تعلق الأمر بنفوذها في الخليج أو اهتزاز مكانتها فيه.
بل عقدت معاهدات منفصلة مع مشيخات الخليج – رغم تبعيتهم للدولة العثمانية – تمنعهم بموجبها من عقد تحالفات أو معاهدات منفردة مع أي دولة أخرى.
وأما ألمانيا؛ فقد قوي ساعدها في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر نتيجة الثورة الصناعية، وصارت هي الأخرى – شأن الدولة الإمبريالية – تبحث عن أسواق لمنتجاتها، وعن مكان لنفوذها، وكانت ألمانيا على علاقة جيدة جدًا مع الدولة العثمانية، لاسيما وقد ارتبط السلطان عبد الحميد الثاني (1878- 1909م) مع الإمبراطور الألماني غليوم الثاني (1888 1918 م) بصداقة قوية.
وكانت المصلحة المشتركة بين الدولتين كذلك متمثلة في مشرع سكة حديد برلين – بغداد، الذي يربط الولايات السورية والعراقية والخليجية، ويقوي نفوذ الدولة العثمانية مع ولاياتها النائية، كما أنه يقوي أيضًا من النفوذ الاقتصادي لألمانيا في هذه المناطق، ويضعف من النفوذ البريطاني المستأثر بالخليج، والذي بدأت الدول الكبرى في معارضته بعد طول احتكار بريطانيا له.
عارضت بريطانيا المشروع، خاصة بعد المنافسة الاقتصادية القوية للمنتجات الألمانية، كما أن روسيا وجدت في المشروع منافسًا قويًا لطموحاتها في المنطقة، حيث سيؤثر خط سكة حديد برلين – بغداد على الخطوط الحديدية في القوقاز، وكذلك على مشروعها المستقبلي لإقامة سكة حديد فارس، والسكك الحديدية التي تمتد من أرمينيا إلى الإسكندرية لربط روسيا بالمياه الدافئة. كما أن فرنسا هي الأخرى دخلت مجال المنافسة شأنها شأن بقية القوى الكبرى. وكانت في البداية من المعارضين للمشروع، إلى أن أصبحت أحد المشاركين فيه في مطلع القرن العشرين (1903م) .
ولا نبالغ عندما نقول إن الخليج والتنافس حوله بين هذه القوى كلها، قد أدى إلى الكثير من المعاهدات والتحالفات والمصادمات كذلك.
أما المعاهدات، فقد كان أبرزها اتفاق بطرسبرج عام 1907م، حيث اقتسمت بريطانيا وروسيا مناطق النفوذ في فارس والخليج، فقد قنعت روسيا مرغمة بأن يحد نفوذها بشمال فارس، وأن يكون جنوب فارس هو منطقة نفوذها، لتنتهي بذلك المساعي الروسية في مد نفوذها إلى الخليج.
وأما المصادمات فلم يكن أولها إيجاد مشكلات أولها إيجاد مشكلات للدولتين في مستعمراتها أو مع جيرانها، لتشغل إحداهما الأخرى بمشكلات تشتت جهودها وجنودها على جبهات متعددة بعيدًا عن الخليج، منها الدعم الروسي لبعض القبائل الأفغانية في حربها مع بريطانيا، ثم انشغال روسيا في حربها مع اليابان، وانصرافها بالكامل عن آسيا إلى البلقان.
ولم يكن آخر هذه الصراعات هو قيام الحرب العالمية الأولى.
أما روسيا، فمنذ عهد بطرس الأكبر وحتى كاترينا، كان حلم القياصرة جميعًا هو الوصول إلى المياه الدافئة، وإيجاد منافذ ساحلية على بحار جارية طوال العام، وكان البحر الأبيض المتوسط ثم الخليج هما الهدفان الرئيسيان لها؛ ليصلاها بالعالم الخارجي، صلة تجارية واقتصادية وثقافية، وحتى توسعية استعمارية، وبالنسبة لتوجه روسيا نحو البحر الأبيض المتوسط واجهت عدوًا لدودًا قويًا هو الدولة العثمانية، وكان مفتاح البحر الأبيض هما مضيقي البوسفور والدردنيل، وهما في قلب أملاك الدولة العثمانية، والتي لن تسمح لروسيا بأي نفوذ لها داخل أراضيها بعد المشكلات التي سببها لها جراء التدخل الروسي الأيديولوجي لدى شعوب البلقان التابعة للدولة العثمانية، وتطبيق سياسة الجامعة السلافية، كذلك تدخلها المستمر في المسألة الأرمينية لصالح الأرمن العثمانيين، بالإضافة إلى أن ضعف الدولة العثمانية المتدهور في نهايات القرن التاسع عشر، وتذبذب سياسات القوى الأوربية ما بين الحفاظ على وحدة كيان الدولة العثمانية، وما بين سعيهم لاقتسام تركة أملاك رجل أوربا المريض.
إذًا فقد كان طريق روسيا شبه موصد -ولو مؤقتًا- أمام السعي الروسي نحو البحار الدافئة، والبحر المتوسط.
لذلك فلم يتبق أمام روسيا إلا الخليج العربي، فقد كانت بلاد فارس طريقها ممهدًا للسعي الروسي، فقد كانت العلاقات الروسية / الفارسية قديم وممتدة خاصة ضد الدولة العثمانية التي كانت في مناقشة دائمة مع كلا الدولتين. وكانت العلاقات الفارسية/ الروسية على المستويات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية.
كان من اليسير على روسيا مد نفوذها إلى الخليج عبر فارس، وكذلك من الجهة الأخرى عبر مشيخات الساحل العربي للخليج، والتي كانت هي الأخرى تسعى للتحالف مع دولة قوية للفكاك من الروابط الضعيفة والنفوذ الواهي الذي يربطها بالدولة العثمانية، سارعت روسيا من معدلات تدخلها ومد جسور التواصل مع الخليج بناحيتيه الشرقية والغربية، وكانت تحركاتها على المستويات الدبلوماسية والتجارية والعسكرية، فقد أسرفت روسيا في إرسال السفراء والقناصل والمبعوثين الدبلوماسيين، كما عملت على استخدام أسطولها الذي يحقق لها أكثر من ميزة، أولها أنه المعني بتواصل روسيا مع المياه الدافئة وخططها الاستراتيجية من لدن بطرس الأكبر، وثانيها أنه يحقق أغراضها العسكرية في مد نفوذها والتلويح بالقوة لدى المنافسين أو الرافضين؛ سواء من القوى المحلية أو القوى الكبرى، وثالثها أنه يحقق أغراضها التجارية والاقتصادية.
وقد حفل الأرشيف الروسي بالكثير من الوثائق الخاصة بالأسطول البحري، والتي تجلي الكثير من الحقائق حول السعي الروسي للتواصل ومد النفوذ في منطقة الخليج.
وهي ما تقدمها في هذا الكتاب لتكون إحدى المصادر الرئيسية في الدراسات الخاصة بالخليج.
وحرصًا منا على إتمام الفائدة، فقد قدمنا أيضًا قائمة ببليوجرافية مختارة لعدد من الدراسات حول هذا الموضوع لتكون مرشدًا للباحثين والمتخصصين.
الخليج العربي في وثائق الأرشيف الروسي
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية