الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
يفتتح حسن حنفي تقديمه لـ كتاب الطريق إلى العشق الصوفي، التعاليم الروحية عند جلال الدين الرومي، لـ وليام تشيتك، بتساؤل وهو: هل التصوّف اغتراب روحي عن مشاكل العصر؟ ويجيب عنه بما يعزّز هذا الافتراض (عاش “الروميّ” أثناء غارة المغول على العالم الإسلامي، مما أوجب عند الفقهاء الجهاد. أما الصوفية مثل “الرومي”، فإنّهم عبّروا عن جهادهم بجهاد النفس والزهد، ولكن الأفضل العشق الإلهي، والاتجاه إلى الأعلى وليس إلى الأمام) (الكتاب، ص 10).
لكنّ تفسير الركون إلى التصوّف كفعل نكوص عن مشكلات العصر، مهما كان هذا التصوّف، فيه من الغبن والإجحاف بحقّ كونيّة رسالة المتصوّف/ الرومي، فإن كان الاغتراب ردّة فعل على لجوء الآخرين إلى الجهاد، فلم إذن هذا الإصرار على الخروج من التجربة الذاتية إلى التجربة الجمعية، من خلال النظْم وتهذيب المريدين.
يبدو أنّ الأمر يتعلّق بمقت الصوفية (معظمهم) للسلطان ومتعلّقاته ومنها حروبهم، والتي يحشدون بها الآخرين عن طريق لبوس الجهاد؛ فمن المعروف عن المتصوّفة مقتهم للشعراء كونهم يرومون البلاطات، ومقتهم لكلّ ما يمتّ إلى السلطان من صلة. لذا، والحال كذلك، فهم ابتعدوا عن المشاركة في الحرب/ الجهاد، واجتهدوا في تجريب جهاد النفس.
يحاول وليام تشيتك من خلال هذا الكتاب، الوصول إلى تعاليم الروميّ الروحية كمريد حينا، وكمتصوّف حينا، وكدارس تارة أخرى؛ فالكتاب يتوجّه إلى طبقة مختلفة من القرّاء، فتصلح لمريد أشكلت عليه مقولات شيخ جليل كالروميّ، وتصلح لمتصوّف يروم مسالك الوصول، وكذا لدارس لعلوم التصوّف والشعر الصوفيّ.
يقسّم تشيتك الكتاب إلى ثلاثة فصول هي؛ المعرفة، والسلوك، والوصول إلى الله، وكما هو عرف المريدين يقرّ تشيتك بقصور الوصول إلى التعاليم الروحيّة مقتبسا من بداية مثنوي الروميّ (ظنّ كل امرئ أنّه صار نديمي، لكنّه لم يبلغ أسراري الباطنية) (الكتاب، ص 35).
وهذا الاعتراف من تشيتك لا ينال من الجهد الكبير البادي في شرح تعاليم الروحيّ بالاستناد إلى كتاباته وأشعاره، فضلا عن ترجمته لهذه النصوص عن الفارسية إلى الإنكليزية، وهو دأبُ من يشتغل في مسائل حسّاسة كالتعاليم الروحيّة عند الروميّ؛ أعظمهم تأثيرا على الصوفيّة، ومن نافل القول أنّ الروحانيات بكلّيتها تعصى وتُشكِل على دارسيها وشرّاحها لما فيها من التأويل والجنوح إلى الخيال، ومع أنّ النصوص النثرية كما في مكاتبات الروميّ تبدو أسهل وصولا في المعنى، إلا أنّ الشعر يأخذ القسط الأكبر من نتاج الروميّ، وهي إضافة إلى تناولها لموضوعات روحانية متشعّبة، تلجأ إلى زخرف القول والاستعارة والتناصّ القرآني، وهي أمور استطاع تشيتك تفكيكها، واستطاع مقاربة تناصّات الروميّ مع القرآن كما في (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)، (قلْ الله أكثر مكرا) (الكتاب، ص 91)، وفي مواقع أخرى عديدة، ومع أنّ الروميّ بذاته يقتبس نصوصا قرآنيّة، إلا أنّه يلمّح كثيرا في قصائده خاصّة إلى آيات بعينها، كما يتكرّر في عدة مواقع مع آية (ألست بربّكم)، حيث يسمّيها بـ “ميثاق ألست” (ص 102).
يقوم الكتاب إذن على ركيزتين؛ الأولى هي محاولة لشرح منهج الروميّ ومسلكه في التصوّف، وذلك بناء على مكاتباته وقصائده، كما أنّه يلجأ إلى ترجمة هذه النصوص عن الفارسيّة. إذن يتحصّل القارئ ليس على تعليقات وشروحات وفق منهجية علميّة فقط لتعاليم الروميّ، بل على ترجمة لتشيتك نفسه لهذه النصوص، وهو في هذه الترجمة يقول بأنّه جهد قدر الإمكان (أميل أكثر لتقديم تعابير اصطلاحية مماثلة بدلا عن الترجمة الحرفية؛ وغالبا ما أضيف شروحات على شكل كلمة أو كلمتين أو عبارة كي أتجنّب الحاجة لإضافة ملاحظة على الهامش) (الكتاب، ص 36).
في الفصل الأوّل والمعنون بـ (المعرفة) أجهد تشيتك نفسه في تقسيم الفصل إلى أقسام، وهي محاولة منه للملمة أفكار الروميّ المبعثرة في ثنايا نصوصه، وجعلها تصبّ في مجرى واحد، فهذا الفصل يضمّ تقسيما (أ- رؤية الأشياء كما هي. ب- الروح، القلب، والعقل. ج- الله والعالم. د- الإنسان.) وهذه التقسيمات أيضا مقسّمة، إلا أنّ مدارها هي الشكل والمعنى أو الصورة والمعنى كما اختارتها المترجمة، (فالصورة هي ظاهر الشيء، بينما المعنى هو باطن الشيء وحقيقته “الصورة هي الظلّ، والمعنى هو الشمس”) (الكتاب، ص 40). في القسم المعنون بـ الإنسان، يقسّمها تشيتك بدورها إلى أحد عشر قسما، ويقف فيما قِسمتُه “المحكّ” على قضية، كثيرا ما يثيرها الصوفيّة وهي قضية إبليس والإغواء الذي يمارسه على الخلق، فهو على الضدّ من الأنبياء يعمل على الغواية للخلق، بينما يلجأ الأنبياء إلى الهداية، ومع أنّ الأنبياء كثر وإبليس واحد، إلا أنّ الفعل واحد ويصبّ في مجرى واحد، وهي الهداية والغواية، حيث يقول تشيتك (يدعو الأنبياء والأولياء الناس إلى الله والجنة، بينما إبليس وأتباعه يدعونهم إلى النار. لذا يؤدّي هذان المعسكران وظيفتين متضادتين في الدنيا. لكنّ كلّ الأضداد هي مصطلحات مترابطة، وتنتهي إلى حقيقة واحدة. وبالتالي يؤدّي الأنبياء وإبليس مهمة واحدة) (ص 144). ويقول الروميّ في ذلك (لقد وعد الحقّ وهدّد من خلال الوعد والعيد، من أجل الحقّ والباطل اللذين مزجهما معا) (ص 145).
في الفصل الثاني (السلوك)، يعمد تشيتك إلى تبيان دور الشيخ والسالك/ المريد، وهو موضوع مهمّ في التصوّف وخاصة أنّهم كان لهم شيوخهم يتلقّون منهم تعاليمهم الروحية، ومريدوهم يقدّمون لهم هذه التعاليم والتجلّيات الكليّة، وخاصّة أنّ الروميّ نفسه كان يرى نفسه سالكا على يديّ شمس الدين التبريزي، وقد درج عن المريدين تعظيمهم لشيوخهم، ولهذا نجد التأثير العظيم للتبريزي على الروميّ، وبخاصة أنّه وجد فيه المرشد الحقّ، وهذا ما نجده لدى مريدي الروميّ أنفسهم، إذ يعظّمونه أيّما تعظيم، وتبدو السلسلة مؤدّية للمعنى، فكلّ شيخ هو مريد، سلك على يد أحدهم حتى بلغ مبلغه أو تجاوزه، لكن ليس كلّ مريد شيخا، والسلسلة تكون بتعظيم كلّ شيخ لمن فوقه.
والوليّ في تعاليم الروميّ (لا يتلقّى نصوصا جديدة. لكنه يتلقّى إدراكا كاملا للمعنى الباطني للوحي. هو يعتمد على النبيّ في العقائد الأساسية، لكنّ علاقته مباشرة بالله) (ص 169). وإن كان الوليّ على هذا القدر من الكمال، فإنّه يلقّن هذا الكمال لمريديه، وستكون الحظوة لبعض المجتهدين في السلوك.
يأخذ الفصل الثالث (الوصول إلى الله) من حيث المساحة ما يعادل الفصلين الأول والثاني مجتمعين، ليس لأنّ الروميّ قد وقف على مسالكه أكثر من الموضوعات الأخرى فحسب، بل لأنّها قضية ومدار الصوفية برمتها، فالوصول إلى الله والطريق والمعراج كلّها مسالك إلى الله، حتى يكون الله على مسافة الصفر، وهو مقام الحلول و”أنا الحق” (لم يبق شيء من وجودي سوى اسمي. ففي وجودي، يا حلوتي، لا يوجد سواكِ أنت) التي نادى بها الحلّاج وكثيرا ما يستشهد به الروميّ في نصوصه.
في العديد من نصوصه يلجأ الروميّ إلى التركيز على أنّ كل شيء في الأرض يبدو منعكسا عن مثيله في العالم الإلهيّ، ويذكّرنا الأمر بنظرية المثل لأفلاطون الذي يقول بوجود عالم للمُثُل، وكلّ ما هو موجود هو صورة عن تلك الموجودة في ذلك العالم. يكون كلّ شيء في الحياة الدنيا وما بين الكاف والنون للذات الإلهية بمثابة إشارة إلى الكنز الخفيّ الذي يودّ الله إظهاره، وهو إشارة إلى نصّ الحديث القدسي الذي يقول: (كنتُ كنزا خفيّا فأردت أن أُعرف) الذي يستشهد به الروميّ في عديد من المواضع.
ويبدو أنّ المترجمة شيماء مُلا يوسف قد أجهدت نفسها في محاولة لإيصال نصّ تشيتك إلى العربية، وخاصة أنّها زاخرة بالمعاني والمصطلحات الصوفية خاصة، حتى وإن حاول تشيتك تبسيط النصّ، إلا أنّ طبيعة النصّ الصوفي مركّبة ومربِكة، وصعبة المراس، وذلك أنّهم يلجؤون إلى التأويل، فالروميّ الذي تأثّر بالقرآن والأحاديث القدسية وأحاديث النبيّ ذات الرصانة العربيّة، مازجها بالأدب واللغة الفارسية والحمولة الأدبية ولغة أهل التصوّف، ومن ثمّ تم ترجمتها إلى الإنكليزية ومن ثمّ إلى العربيّة.
ومع أنّ شروح تشيتك تبدو سلسة في ترجمتها العربيّة، إلا أنّ ترجمة نصوص الروميّ وبخاصة القصائد تبدو وكأنّها تمنح المعنى دون أن تحاول الترجمة تهذيبها ومنحها لغة أدبية عالية، وبخاصة أنّ المدوّنة الصوفية مليئة بالمرادفات البديلة عن تلك المستخدمة في الترجمة، ولأنّ مثل هذا النقد للترجمة يستدعي مقاما آخر، وهو نقد الترجمة والمقارنة ويحتاج من يقوم بهذه العملية إلى معرفة دقيقة باللغتين؛ اللغة المترجمة عنها والمترجمة إليها، لذا سأكتفي بملاحظاتي على النصّ العربي، وسأثبّت ملاحظتين صغيرتين قد تؤديان الغرض.
ففي حين تستخدم الترجمة “الفقر” في هذا السياق (غالبا ما يستخدم الروميّ لفظ “الفقر”)، يرد في ذات الفقرة (الدرويش هو الشخص الفقير) (الكتاب، ص 260)، فالفقر والفقير، تحملان في طيّاتها المعنى المقصود، إلا أنّ “الدروشة، والدرويش”، يبدوان أصوب من حيث سياق الموضوع العرفاني.
وكثيرا ما يردّ في الترجمة لفظ الحبيب كدلالة على “الله”، وخاصة في النداء “يا حبيبي”، وهو ما أجده غير مناسب للسياق العربيّ، وذلك لسببين هو أنّ الحبيب في سياقه الإسلامي يرمز إلى النبيّ محمّد، فهو حبيب الله، وهي إن أطلقت تدلّ عليه في أدبيات الإسلام، وكان الأجدر استخدام لفظة المعشوق، وهي أكثر استخداما في التراث الصوفي في التعبير عن حبّ الله، و”المعشوق” لفظ استخدمته المترجمة في أكثر من موقع.
في النهاية، يبدو كتاب الطريق إلى العشق الصوفي، التعاليم الروحية عند جلال الدين الروميّ، كتابا مفتاحيا لمحاولة فهم الروميّ، وخاصة في ظلّ التفسيرات المتعدّدة للنصّ الصوفيّ عامة. وقد اجتهد فيه تشيتك عميقا، واجتهدت الترجمة على صياغة نصّ مفهوم لقرّاء العربية، وكذلك المقدمة التي كتبها حسن حنفي التي قدّمت وجهة نظر في الروميّ وفي الكتاب عامة.
(قراءة / عباس علي موسى- مؤمنون بلا حدود)
This post is also available in: English (الإنجليزية)