الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
“لماذا نحن خاضعون جدا، على الرغم من أن دوافع الثورة هي بدورها كثيرة جدا؟
ولماذا نستسلم للقرارات الجائرة، ونقبل بكل بساطة ما قد يشكل ضررا لمصالحنا؟
“أليس من حقنا مقاومة الطغيان بالعصيان؟
هي أسئلة تشكل محور العمل الأخير للمفكر الفرنسي فريديريك غروس المعنون بـ”العصيان” الصادر عن دار النشر ألبين ميشال والكاتب هو من مواليد سنة 1965، متخصص في الفلسفة السياسية، ومتأثر بفكر الفيلسوف ميشال فوكو، من أعماله:
• “فوكو والجنون” (1997).
• “فوكو وشجاعة الحقيقة” (2002).
• “فلسفة المشي” (2008).
• “مبدأ الأمن” (2012).
• “العصيان” (2017).
يحاول غروس في كتابه هذا الأخير إزالة الغشاوة التي تحجب عن أعيننا الرؤية، وذلك عن طريق فك الشفرات التي تطوق هذا المفهوم، وتحليل آلياته وأسبابه وتمظهراته. يفتتح الكاتب مؤلفه بالإحالة على الفصل الخامس من رواية “الإخوة كارامزوف” لدوستوفسكي والموسومة بقصة “مشايخ الرهبان”، التي تكشف عن تسلط الرهبان وطغيانهم ودور الأديرة في فرض ولاء الطاعة والامتثال المطلقين دون أن تكون هناك أيّ ردة فعل أو استنكار.
جاء في هذا المقطع “فمن هو الشيخ على وجه التحديد؟ إنه السيد المطلق الذي يسيطر على النفوس والإرادات، ويحتوي في ذاته على جميع ما تجيش به نفوس مريديه من صبوات وأفكار. في حين يختار المريد شيخا لنفسه يتنازل عن حريته، ويلزم نفسه بطاعة مطلقة، ناسيا ذاته كل النسيان. والذي يختار هذا النظام القاسي، ويرضى بتعلم الحياة على هذه الطريقة الرهيبة، إنما يفعل ذلك بإرادته، آملا في أن يصل، بعد محن طويلة، إلى التغلب على ذاته”. (دوستوفسكي، الإخوة كارامزوف، ص 62).
ينتقل بعد ذلك المؤلف لاستعراض تسلسل تاريخي للعصيان وتحليله من خلال استحضار النصوص المؤسسة التي تناولت الموضوع، متوقفا عند “مقالة في العبودية الطوعية” للكاتب والقاضي الفرنسي وصاحب النظرية الفوضوية إتين دي لابويسيه (ت. 1563). وفي هذا المقال يهاجم النظام الملكي المطلق والطغيان بوجه عام لمكافحة الدكتاتور، ويؤكد أن الطغاة لديهم السلطة، لأن الشعب أعطاها لهم.
وقد تمّ التخلي عن الحرية مرة من قبل المجتمع، وبقيت بعد ذلك متخلى عنها، وفضل الشعب الرق على الحرية وعلى رفض الهيمنة والانصياع. ثم ينتقل فريديريك إلى كتاب “العصيان المدني” للفيلسوف والشاعر الأميركي هنري ديفد تورو (ت. 1862)، الذي كان من أكبر المناهضين للعبودية في بلاده وسخّر حياته للدفاع عن العبيد الفارين من جحيم الاستغلال. ويعد تورو أول من استعمل مصطلح “العصيان المدني” ونظّر له. وقد عارض السياسة الأميركية من خلال رفضه دفع الضرائب، وقد كلفه ذلك الملاحقة والسجن.
يستعرض غروس كذلك بعض دعوات مجموعة من الزعماء والقياديين للعصيان، من ذلك: دعوة الزعيم الهندي غاندي العمال الهنود في جنوب أفريقيا إلى رفض إعطاء بصماتهم تطبيقا لقانون عنصري سنة 1906. ومن ذلك دعوته أيضا سنة 1930 المواطنين الهنود إلى مقاطعة الملح الذي كانت جبايته مصدرا هاما لخزانة السلطات الاستعمارية البريطانية. إضافة إلى دعوة الزعيم الأميركي مارتن لوثر كنغ في ستينات القرن العشرين إلى رفض الانصياع للقوانين العنصرية للولايات الجنوبية في أميركا، للمدافعة عن الحريات المدنية للأقليات.
يسعى غروس بعد هذا التسلسل التاريخي، إلى فهم أمثل وأوسع لهذه الظاهرة في وقتنا الحالي، إضافة إلى إعادة تعلم هذا الفعل، ذلك أن الأخبار التي ترد إلينا يوميا تظهر لنا بعضا ممن يشعلون الشرارة ويدقون ناقوس الإنذار، مثال ذلك “قضية سنودن”، دون أن ننسى تظاهرات المقاومة الجماعية (حركة “احتلوا وول ستريت” في نيويورك سنة 2011، واحتجاجات هونغ كونغ سنة 2014، والتي يشار إليها أيضا بـ”ثورة المظلات”، و”ليلة الوقوف” الفرنسية سنة 2016 ضد قانون العمل الجديد، إلخ.).
لقد أفضى كل ذلك إلى ظهور أشكال جديدة للعصيان والتمرد. إن الأمر، إذن، يتعلق بجعل فعل العصيان في قلب الحياة البشرية وفي الأنظمة الديمقراطية. غير أن هذه الدراسة تتطلب العودة إلى تحديد مفهوم الطاعة والامتثال.
يقول غروس في هذا الصدد “لفهم ما يجعلنا نطيع، يجب علينا أولا أن نميّز بين مجموعة من المصطلحات، مثل: الخضوع، والموافقة، والانصياع، والالتزام، والتبعية… وعندها فقط يمكننا فهم مختلف الأشكال التي يتخذها العصيان: التمرد، والثورة، والعدوان، والعصيان المدني، والمعارضة المدنية، إلخ. إننا نطيع عادة بالخضوع الاجتماعي، لأن الطاعة تجمع، بينما العصيان يفرق. نحن أيضا نطيع من أجل الراحة وأحيانا المتعة، وكذلك لأننا لا نستطيع أن نفعل خلاف ذلك. فكيف يمكن للعبد في العصور القديمة، والعامل في القرن التاسع عشر، وأصحاب المديونية المفرطة اليوم، أن يلتزموا جميعا بالطاعة؟ ولكن في الوقت نفسه، وبالنسبة إلى الكثيرين منا، هناك عذر رائع ورائج “لا أستطيع أن أفعل خلاف ذلك”.
من المريح أن نقول إنه ليس لدينا خيار. لكننا نبالغ في تكلفة عصياننا. نحن نقبل الأشياء الرهيبة، ولكن نقول لطمأنة أنفسنا “في الأساس، إنها ليست لي”، أو “طُلب مني أن أفعل ذلك”، أو “على أيّ حال، كان آخر يفعل ذلك مكاني؟”.
إن أولى المفارقات التي يكشف عنها غروس تكمن في أن المشكلة الحقيقية التي طرحها الفلاسفة وعلماء الاجتماع لم تكن في العصيان، وإنما عكس ذلك، في الطاعة المكتسبة بسهولة. لقد كتب ويلهم رايش قبل قرن من الزمان أن “السؤال الحقيقي ليس لماذا تمرّد الناس؟ ولكن لماذا لا يثورون؟” (ص 9). هذا السؤال أعيد طرحه من جديد وبصيغ مختلفة من قبل أجيال من المفكرين الاجتماعيين: منذ إتيان دي لا بويتي إلى ماكس ويبر وبيير بورديو متسائلين عن الذي يدفع الأنظمة السيادية على فرض الهيمنة والإخضاع.
يقول غروس “لقد قبلنا ما هو ليس بالمقبول”، ويستشهد بقولة بريمو ليفي “الوحوش موجودة، لكنها قليلة جدا لتكون خطيرة حقا. إن الرجال العاديين هم الأكثر خطورة، كما أن موظفي الخدمة المدنية على استعداد للاعتقاد والطاعة دون مناقشة” (ص 9). ويعلق فريدريك “إن أسباب عدم قبول الحالة الراهنة في العالم، في مسارها الكارثي، هي كثيرة جدا. وإن تهجئة كل منها سيفضي إلى سلسلة من الكوارث”.(ص9).
ولعل أبرزها أن الشعوب الخاضعة للاستبداد غالبا ما تركن إلى الخنوع والتخاذل وتتشبع بثقافة الطاعة، في حين تتفنن الأنظمة في مقاومة دعوات العصيان بتعمد تشويه منظميها عبر وسائل الإعلام المختلفة والمؤسسات الدينية التابعة للسلطة، وتصوير أنشطتهم بأنها نوع من التخريب، وليست مظهرا مشروعا للضغط السلمي على المسؤولين. إن المواطن يخضع خوفا، أو التزاما اجتماعيا، أو متعة، ولكن أيضا للهروب من مسؤوليته. وفي المقابل فإن العصيان لا يشكل أدنى تعارضا مع قيم الديمقراطية.
ويضيف غروس في هذا الإطار “إن الأخبار اليائسة تتراكم يوميا على مسامعنا، ولكن في كل مرة، يحصل المرء على انطباع بأننا نعتاد على الأسوأ”. يقول والتر بنيامين، إن “الكارثة هي أن تستمر الأمور كما كانت”. خذ الأزمة المالية العالمية الرهيبة لعام 2007.
فقد قيل لنا إن كل شيء سوف يتغير، وأن النظام المالي سيتم تنظيمه، وسيتم الحد من الأرباح الوحشية ومن كل أصناف المضاربة. بيد أن كل شيء من ذلك لم يحدث، وبدأ كل شيء مرة أخرى كما كان (…) إن العصيان المستمر يعني الثقة في الطرف الآخر، أي ما يُصطلح عليه بالصداقة السياسية.
لكن واقع الحال يكشف تفكك شبكات هذا التضامن، ومع ذلك فإن ما أردت أن أظهره في هذا الكتاب، هو طرح إمكانية العصيان من صلب الموضوع السياسي، إنه طموح هذا الكتاب الذي يسعى إلى إزالة الغموض الذي يلف جميع مبرراتنا للطاعة والإطاحة بها.
على الرغم من أن جميع معاهد التعليم تكرس وتكرر منذ أمد طويل أن إنسانية الإنسان لا تتأتى إلا من خلال الطاعة، وأما العصيان فهو ما يدل دائما على صحوة الإنسان الباعثة على الوحشية الفوضوية.
إن تاريخ القرن العشرين أنتج أشكالا من وحوش الطاعة، مثل محاكمة إيخمان أو تجارب ميلغرام. وفي ظل هذه الظروف، ألا يكون العصيان هو السبيل الوحيد لإعادة اكتشاف الإنسانية؟ إن العالم يتحول بشكل فظيع إلى درجة أنه جعل من العصيان حالة طارئة مشتركة وحارقة، في الآن ذاته.
إن الفكر الفلسفي، في الوقت نفسه الذي يجبرنا على عدم الانصياع إلى الوضوح والعموميات، يجعلنا نعيد اكتشاف الشعور بالمسؤولية السياسية. ذلك في الوقت الذي يتم فيه تقديم قرارات الخبراء نتيجة للإحصاءات الجافة والحسابات المجهولة، يصبح العصيان تأكيدا للبشرية. وهذا الكتاب يدعو إلى الديمقراطية النقدية والمقاومة الأخلاقية.
في هذا الكتاب الذي يسائل فيه الفيلسوف المستنير فريديريك غروس مفهوم “العصيان” بمختلف أبعاده وأشكاله ودوافعه، يخلص إلى أن الإحاطة بهذا المفهوم وفهمه الفهم الأمثل لا يتأتى إلا من خلال استحضار نقيض مفهومه؛ “الطاعة”. لقد قدّم غروس مجموعة من الأفكار المرتبطة بهذه الظاهرة التي برزت بقوة في الآونة الأخيرة في حياتنا الاجتماعية. ويؤكد الكاتب على أن عصيان الآخر يمثل أولا، طاعة للنفس، وثانيا، إعطاء معنى لحرية المرء. فالعصيان ينبني على جملة من القيم النبيلة أساسها رفض الظلم والخضوع للطغيان والعمل على تعطيل هذه القوانين الجائرة، ومقاومتها وإزالتها بكل الوسائل السلمية.
عبد الرحمن إكيدر- مجلة الجديد
This post is also available in: English (الإنجليزية)