الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
سعى الإنسان منذ بذء وعيه الوجودي إلى مساءلة الكون والعالم في شأنه ومسعاه على الأرض، عن النهايات للكائنات الحية، وتساءل عن معنى الوجود ثم الموت والنهاية المؤلمة للكائن، أنى كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، وتساؤله وبحثه عن السر، وعن المعنى الكبير للحياة وضعه في حيرة من أمره، منذ كلكامش الذي بحث عن إكسير الحياة ولكنه خاب أمله بعد مسار كبير من المغامرات، قطعه بحثاً عن الخلود للكائن البشري، بعد غياب صديقه ورفيقه أنكيدو، لكن كل ذلك المسعى سيتوّج في النهاية بكلمتين لا أكثر، هما العمل الصالح، فهو ما يتبقى للإنسان ليخلد ذكره. ومن هنا انطلق الملك السومري للعمل في بلاده لتخليد ذكراه، بما سوف يقدّمه من بناء وعمل وجهد متفان لمملكته، مقتنعاً في الأخير بالموت والفناء والنهاية، تلك التي تختم حياة الإنسان، ليأتي غيره ويجدّد معنى الحياة، ويمنحها طابعاً مختلفاً عمن سبقه في الإقامة على الأرض.
لكن رغم الذي تقدم، يبقى العلم والحلم اليوتوبي والتطوّر الحضاري يتحدى العوائق التي تحدّ من عمر الإنسان وبقائه حياً، للخروج من دائرة المحدّد والمرسوم، والمكتوب له بيولوجياً، كالمرض، الوهن، الشيخوخة، الخرف، هذا ناهيك عن المصاعب والمصائب والمشاكل التي تواجهه خلال مسيرته الحياتية، كالفقر، والحرمان، والحروب والجوائح التي تنتجها الأوبئة، ولا نريد أن نتوسع ونذهب باتجاه التلوث البيئي، حقوق الإنسان المنقوصة هنا وهناك، الموارد البشرية وتوزيعها غير العادل، السلم الأهلي، والعنصرية، والفاشيات الجديدة، ثقب الأوزون، التصاعد الحراري، والاستعمار الحديث، الفكري والاجتماعي، واستغلال موارد وأراضي الشعوب الفقيرة والمقهورة، تلك التي تجعل الإنسان عرضة للمهالك والنهايات المؤلمة.
يحاول العلم الحديث الذي يتناسى الكثير من المحن الإنسانية، فك لغز الحياة، وتفكيك الرمز، والشيفرة لجسد الكائن البشري، من أجل أن يعيش طويلاً، بصحة جيدة وموفورة، تدرأ عنه الأمراض باقتحام جيناته، وتفكيك منظومته البيولوجية، ودراستها علمياً لتطوير أعضائه الجسدية، لكي تتحدى بشبابها الدائم، الأوبئة الشرسة، والمخاطر التي تجلبها الجوائح والكوارث الجديدة.
كل ذلك سيأتي من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وحساباته الدقيقة، المتمثّلة بالخوارزمية، عبر استشراف للثورة التقنية الرابعة لعصرنا الحالي، هذه الثورة التي نعيش طلائعها اليوم، كما تشير المترجمة والكاتبة لطفية الدليمي، في مقدمتها لكتاب المؤلف والفيلسوف السويدي نك بوستروم “الفكر العابر للإنسانية” وما اطلعت عليه من كتب علمية، وفلسفية، وأدبية أخرى، تتناول هذا الجانب من موضوع الفكر العابر للإنسانية، لكي يكون في مقدورها ترجمة الكتاب، من خلال الإلمام بعالمه، ومفهومه الفلسفي الواسع، والباحث في قنوات كثيرة، ذات سياقات وسبل علمية متنوعة.
من هنا عُرف عن الفيلسوف السويدي نك بوستروم اهتماماته المعرفية، ذات الطابع الموسوعي، وولوجه أقانيم عديدة تشمل الفيزياء النظرية، علوم الأعصاب الاحتسابية، المنطق، الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن الفلسفة التي تميّزه كفيلسوف وعالم وباحث في مجاله هذا.
يعمل البروفسور بوستروم أستاذاً في جامعة أكسفورد البريطانية، وهو المؤسس والذي يقود معهد “مستقبل الإنسانية”، وهو مركز بحثي يعنى بجوانب معرفية متعددة، كتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والأمان البيولوجي، وغيرهما من القضايا.
ومن هنا “يسعى مناصرو فكرة الإنسانية العابرة للكائن البشري الحالي، إلى تخليق عالم، يمكن فيه للأفراد الاختيار الحرّ بين أن يظلوا غير معزّزين بوسائل التقنية المتقدّمة، أو ينالوا التعزيز التقني بها، وسيكون كلا الخيارين مبعث احترام كامل من جانب القيّمين على امكانيات التعزيز التقني المتاحة.
يدخل الجنس البشري اليوم عتبة مشهد جديد بالكامل وغير مسبوق في تاريخ النوع البشري من خلال التسارع المتعاظم في التطوّر التقني والفهم العلمي، وفي المستقبل القريب نسبياً قد يحصل أن نواجه احتمالات لا تفتأ تتزايد شواهدها التي تشي بمقدم حقبة الذكاء الاصطناعي الحقيقي”.
لقد استوعب الإنسان ومنذ زمن قديم، فكرة قهر الموت، الذي يأخذ الأحبة، ويفاجئ الحياة السائرة، وهي سعيدة بمسيرتها، بنهاية محتّمة لها، عبر فعل ما، مرض، شيخوخة، حادث طارئ، ولذلك لجأ السومريون والآشوريون والبابليون والفراعنة والإغريقيون إلى الهندسة، والبناء، والنحت لتخليد الأفعال الملكية وتخليد رؤى الباحثين عن السرمدية، في الفعل الإنساني، كما فعل البابليون ببناء برج بابل، والسومريون ببناء الزقّورات، والآشوريون بتخليد مسيراتهم الحربية في شواهد منحوتاتهم، وسلسلة نصبهم، وتماثيلهم، والفراعنة في بناء الأهرامات، وتخليد الكائن البشري في مومياءات ذهبية، والأغارقة في تثبيت نشاطه الإنساني والفلسفي في بناء معابد الكابيتول والأكروبول وصوامع الجدل الفلسفي، ولم يكن ديدالوس وإيكاروس وبرومثيوس إلا أبطالاً سعوا لخدمة البشرية، وإدامة عطائها بالنور المسروق من الآلهة كحالة برومثيوس، وسقوط إيكاروس في تجارب الطيران، والنشاط المحموم لديدالوس، في مجال علمه الهندسي العبقري الذي كان يحاول من خلال براعاته ومواهبه رسم وتطوير الحياة الهندسية، من خلال البناء المستمر، بغية التواصل مع الإنسانية، ومسيرتها الماضية باتجاه المستقبل.
لقد كانت العصور الوسطى المؤمنة بالآخرويّات، والفلسفة القديمة، محط انطلاق الأفعال المضادة لها، يوم انبثاق عصر النهضة، حاملاً مشعل التنوير والتقدم، نحو حياة أكثر علماً، وتنوّراً وفهما للبشرية، التي كانت ترضخ للمرجعية الدينية في كل شيء، وبذا تحرّر العقل الأوروبي من اللاهوت والكهنوت، معتمداً الفكر الجديد والحي، في استنطاق الكون والحياة “وصار الكائن البشري والعالم الطبيعي كذلك، موضوعات مشروعة للدراسة والاستقصاء والمساءلة، إذ شجعت الحركة الإنسانية النهضوية الناس على الارتكان إلى ملاحظاتهم الشخصية في تشكيل رؤاهم الحجاجية، عوضاً عن الاحتكام إلى الشخوص المرجعية الدينية في كل صغيرة كانت أم كبيرة. إلى جانب هذا الأمر خلقت الحركة الإنسانية النهضوية، فكرة الفرد المؤهل تأهيلاً جيداً ومتوازناً والذي تطور بشكل لائق على الأصعد العلمية والأخلاقية والثقافية والروحية”.
لعل فكرة دحض الموت لم تزل تشغل الكائن البشري، أولا،ً ومن ثم المجال العلمي الذي يسعى بشتى الطرق إلى اختراق المنظومات العلمية كلها، عله في النهاية يتوصل إلى تحقيق ما يصبو إليه، على الأقل في إطالة عمر الإنسان، وقد نجح العلم في ذلك إلى حد ما، فمعدل عمر الإنسان قبل قرنين كان لا يتعدى الخمسين عاما في أحسن حالاته، بينما الآن، في ظل الأزمنة الحديثة والمعاصرة، فعمر الإنسان الطبيعي يكاد أن يصل إلى الثمانين، وهناك من يتخطاه إلى التسعين والمئة، وهو منجز علمي كبير، ومتقدم بالنسة للعلم الحديث، لكن الأمراض والحروب والجوائح تحدّ دائماً من إطالة عمر الإنسان، لذلك يحاول العلم العابر للإنسانية، أن يمد في عمر الإنسان، بواسطة حزمة من الرموز والشيفرات، عبر تلاعبه ودراسته المعمقة للجندر، وعلم الجينات البشرية، وفك الشيفرة البيولوجية للإنسان لمعرفة مصيره، وحياته ومستقبله، كل هذا تم تحقيق جزء منه، وهناك دراسات علمية عظمى ربما ستتحقق خلال السنوات القادمة، لأحفادنا ونسلهم، ليمتدّ عمر الإنسان بعد التلاعب بمنظومته البيولوجية، ويصل إلى عمر يتعدى المئة.
إن النمو الأسّي للمقدرات الإلكترونية، وتطور عقل الحواسيب والريبوتات، سيشكلان طفرات في نطاق العالم التقني، وقد يتوصّل العلم إلى تحويل المحتوى الدماغي إلى حاسوب، وغيرها من التقنيات الراديكالية «لكن في كل الأحوال فإنّ الإنسانية العابرة للكائن البشري لا تعتمد على الجدوى المتحصلة من أمثال هذه التقنيات الأقل راديكالية على شاكلة التقنيات التالية: الواقع الافتراضي، تشخيص الأمراض الجينية في المرحلة الجنينية، الهندسة الوراثية،، المركبات العقاقيرية التي تحسّن الذاكرة والتركيز والانتباه والمزاج، الأدوية المعززة للأداء، الجراحة التجميلية، عمليات تبديل الجنس، الأطراف الاصطناعية، طب مكافحة الشيخوخة، الوسائط التفاعلية الأكثر تطوراً بين الإنسان، الحاسوب، كل هذه التقنيات وسواها الكثير هي موضوعات قيد التطبيق في يومنا هذا، أو من المتوقع أن تشهد توسعاً وتطوراً بحثياً كبيراً في العقود القادمة».
فضلا عن الباحث والفيلسوف نك بوستروم، هناك لفيف من العلماء، كل يعمل في مجاله، أو يسعى للإضافة إلى علم سابق، كلهم يعملون من أجل التطوير التقني، وصولاً إلى «الهندسة الفردوسية» أو إلى «الواجب المتعوي» المتمثل باللذة المستديمة ونفي ثنائية الألم/ المتعة، حسب مُطوّره العالِم ديفيد بيرس الذي يحلم باستئصال الألم من الكائن الحي، بدءاً بالحيوان ومن ثم الإنسان، من أجل سيادة المتعة الدائمة، أو اللذة المستديمة.
لكن رغم الذي تقدم، هناك من يقف بالضد من هذا، وهم المنادون بمناهضة التعديل الوراثي، وجلهم من محافظين دينيين، ينتمون لليمين، ودعاة البيئة من المنضوين تحت الأجنحة اليسارية، وهؤلاء كلهم تكاتفوا مع المناهضين للعولمة، بغية الوقوف بوجه الحالمين، والمنادين، والمُطبّقين لفكرة الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي.
المصدر: هاشم شفيق
صحيفة القدس
This post is also available in: English (الإنجليزية)