الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
انشغلت بكتابة الفرنسي فيليب سوليرز والبحث عن تأصيل مفهوم الكتابة، حين بدا لي مفهوما ملتبسا يقع في تماسّ مع تغيير العالم، وتثوير اللغة الشعرية، وكسر الحدود بين الأجناس، التعبير والخلق، وهندسة الكتابة في الفضاء، بكلمة: القطيعة مع المفهوم السائد للكتابة الشعرية العربية.
قراءة مؤلَّف: الكتابة وتجربة الحدود، للكاتب الفرنسي فيليب سوليرز ملأت بعض هذا النقص، وحملت بعض الضوء لمفاهيم ملتبسة، يأتي من بينها مفهوم الكتابة. أود أن أشير، بداية، إلى أن كتاب سوليرز يتألف من ست دراسات تناولت مؤلفات دانتي، والماركيز دو ساد، ومالارميه، وآرتو، وجورج باتاي، وأخيرا لوتريامون. نصوصٌ متباعدة في الزمن، متباينة في الطرح، لكنها تشترك في كونها تغيب عن تأثيث الفضاء الثقافي الغربي. يقول سوليرز عن الخلفية الثقافية التي أفرزت ظاهرة مالارميه، مثلا، وما تولَّد عنها أو في العلاقة معها، بأن «هذه الكوكبة لا يعوزها الانسجام كما يسود الاعتقاد للوهلة الأولى: إنها تمتدُّ على خلفية فلسفية وجمالية مقوَّضة من طرف كل من ماركس، كيركيغور، نيتشه، وفرويد (ولاحقا من اللسانيات)، ومن طرف ماني، سيزان، فاغنر، دوبوسيه،- خلفية تحيل هي ذاتها إلى تحوُّل علمي، واقتصادي وتقني لا سابق له».
على الرغم من وجود هذه الخلفية المشتركة يرصد سوليرز غياب هذه النصوص في الثقافة والمجتمع الغربيين، وهو غياب يعني استعصاءها على القراءة. وهي الأطروحة التي تصدم قارئ سوليرز. لماذا؟ هذه النصوص تعرَّضت لتضخُّم لفظي، ولإشباع في التناول، غدت معه بمثابة لاوعي يهيمن على الجميع، ويمنع الرؤية ويضعها تحت خاصية اللامقروئية (غير مقروءة من شدَّة وضوحها، مُشكِّلة غابة من العلامات المفرطة في بداهتها، وغير القابلة لأن تسمح بفكِّ مغاليقها) التي ظلت تتحكَّم فيها لأزيد من ستة قرون، أي منذ دانتي.
وهذا لا يعني أن هذه النصوص لم تكن موضوع دراسة وتعليق ولكن، يقول سوليرز، لأننا لم نقرِّر بعد قراءتها، القراءة الجديرة بها، لأن كل ما تمَّ هو عرض هذه النصوص بصورة مجتزأة واختزالها في بعض الظواهر، بغرض تشويهها. كما أن الدراسات الرزينة، على قِلَّتها، التي تصدَّت لها لم تعرف كيف تتجاوز بعض تناقضاتها الأساسية.
لغرض إنجاز هذه القراءة المختلفة، كان اختيار النصوص المدروسة من طرف سوليرز، على «أساس مُعامل الاعتراض النظري – الشكلي الذي تُبديه»، كما على أساس جذرية القطيعة التي تُحدثها في تاريخ الفكر والأدب. فلم يعد مقبولا التذرُّع بالثقافة ووظيفتها المتمثلة في تكييف النصوص المارقة وتلطيف حِدَّتها، و»إعادتها إلى السَّطر» بتعبيره، لأن هذا العملَ تكريس لتاريخ الكبت الذي مارسته مجموعة من الأيديولوجيات المتضامنة فيما بينها في العمق، بحيث واصلت وصايتها على النص مما يقع خارجه.
من هنا جاء رفض هذا المسعى الذي دعاه سوليرز بالخَطّ يقول: «لنعيِّن الخَطِّية باعتبارها السِّمة الثابتة لهذه الأيديولوجيات غير القادرة على الاعتراف بالنص كنص». ليعتبر أن «ما هو مرفوض هنا، هو التاريخ الخَطِّي الذي أخضع دائما النص لتمثيل، ولذات، ولمعنى، ولحقيقة؛ الذي قَمع، بذريعة المقولات اللاهوتية للمعنى، وللذات، وللحقيقة، العملَ الجبَّارَ الموجود في النصوص – الحدودية». ويرى سوليرز أنه بالإمكان تعيين هذه الحدود التي مارس التاريخُ الخطيُّ إقصاءه ونبذه عليها من خلال كلمات: تصوُّف، إيروسية، جنون، أدب، لاشعور.
فيكفي أن تُلصق صفةٌ من هذه الصفات بممارسة كتابية تبدي مقاومة شديدة وترفض أن تقع في قبضة هيمنة المنظومات الفلسفية والتأويلية حتى يتم إبعادُها من حقل المقروئية، وتُتَّهم بالغموض والزيف. وفي أحسن الأحوال تُدرَك «كهذيان، واستيهام، وشعر، ونزعة باطنية، وانحراف فردي».
ما يعضِّد مقاومة هذه النصوص لكل أنواع الاحتواء أنها «بنيات غير قابلة للتحديد»، تعطيها حرية حركة وفاعلية تجاوز لكل إيديولوجيا أو نزعة علمية. هذا جورج باتاي، مثلا، يُفلت من كل تصنيف: «قطعا فـباتاي ليس «رجل علم» ولا هو «رجل فلسفة» ولكنه بكل تأكيد ليس «كاتبا» ولا «شاعرا».
من يكون إذن؟ إنه شخص لا تنطبق عليه أيٌّ من هذه الصفات، وإذا حدث وتمَّ تعيينه،من دون نفاق، داخل هذا المجتمع الذي نعيش في كنفه، فإن هذه الصفة لن تنطوي على أي قيمة إيجابية. إنه هذه الـ»نحن الآخرون» التي أطلقها نيتشه، هذه الصيغة «نحن الآخرون…» التي تسبق كل تصنيف ويمكن شفعُها بصفة «فيلسوف»، «مجنون»، «مغامر»، «قدِّيس»، «مُجرم»، «بروليتاري»، «عالِم»، «ممثِّل»، «شـــاعر» إلخ».
النصُّ أحد المفاهيم المهمَّة في قراءة سوليرز. وهو «فعل تكوين لا يتحقَّق إلا عندما يُنظر إليه كفعل تمَّ، واكتمل، وتبلور في مادة نصية معروفة. وهو عمل مرَّ بعدة مراحل في الزمان والمكان، وعلى صعيد الأنا والغير، وفي واقع الأمر يبقي دائما غير مكتمل في الزمان والمكان، إذ تلي عملية اكتماله الشكلي عمليات استكمال لا تنتهي يقوم بها قرَّاءُ النص (جمال شحيد). وتكمن وظيفته لا «فيما يعبِّر عنه» وإنما «فيما يُهيِّئُ له» (سوليرز). إنه «صيرورة وتحويل، وزعزعة وصعق ولا يمكن اعتباره خطابا موجها للقارئ أو مادة لها أبعاد وزوايا معروفة وثابتة. إنه بأَبعاده اللفظية واللغوية والقواعدية تجاوزٌ وتحدٍّ للواقع والجمود. وفي هذا تكمُن ديناميته التي أطلق عليها نقاد «تيل كيل» تسمية النص الأقصى، أي أنه تجاوز وطاقة طافحة» مما يجعل منه «نسيجا يتكوَّن من خيوط كثيرة ومتقاطعة يجب دراستها في علاقتها» (جمال شحيد). والنماذج التي يقدمها سوليرز في ثنايا هذه الدراسات، للنصوص المتواشجة، التي يقرأ أحدها الآخر، هي من الكثرة بحيث تعطي الدليل على خصوبة مثل هذه القراءة. هذه المداخل، توصلنا إلى مفهوم أساس في عمل سوليرز ونقصد به مفهوم الكتابة.
يضع مالارميه فعل الكتابة على بساط السؤال: «هل ندرك حقا ما الذي يعنيه فعل كَتَب؟» متحدثا عن أعراض تسبِّب قلقا بالغا يؤدي إليها فعل الكتابة وحده، قد تقف بصاحبها على حافة الانتحار، على اعتبار أن الكتابة، كتجربة جذرية للغة، هي مسألة حياة أو موت. تجربةٌ تدفع باللغة إلى حدودها القصوى لتصبح المجهول والخطر ذاته: اللغة حينما تصل إلى أحد أدوارها الختامية، إلى خلاصتها؛ تغدو، بامتياز، مكان النفي والغياب ولكن أيضا الوعي بالذات داخل الموت حيث يتم إعفاؤنا من الحركة. لنكتشف في الأخير خطورة هذا الفعل، وقدرته التدميرية التي «لا تترك أحدا يخرج منه على قيد الحياة»، بتعبير دانتي.
غير أن فعل الكتابة يقع أيضا على نفس مستوى الفكر اليقظ، أي على مستوى القراءة: «فعل فكَّرَ يعني كتَب من دون أقلام ومستلزمات» (ملارميه)، لنصل إلى اقتصاد آخر غير ذلك الذي تعوَّدنا استعماله للتفكير في التاريخ باعتباره تعبيرا، أي إلى اقتصادٍ يثمِّن الفعل غير المتعدِّي للكتابة (رولان بارث). هذا المنحى الذي اتخذته نظرية الكتابة يضع قضية التواصل على المحك، ويدرجها ضمن المنطق الخاص بكل نص، بكل إنتاج: «الكتابة، كما نفهمها، ليست مسلسلا من التواصل، يتم بشكل مباشر. إنها مسارٌ يوزِّع بشكل مختلف الفضاء نفسه حيث تتوزع الدلالة. فحين نتكلم، فنحن نقع ضمن دائرة التواصل.
وحين نكتب فنحن نقوم بشيء آخر. وإذ أرسم فإني أقوم من جديد بشيء آخر مختلف ينبغي أن يُفهم ضمن نمط إنتاجه الخاص» (سوليرز، قراءات منطقية).
هذا المنطق بصيغة الجمع هو الذي اعتمده سوليرز لقراءة هذه النصوص الحدودية، لأنه لا يعقل في نظره، في وقت تعرَّض فيه المنطق الصوري الموحد، أي اللوغوس، للخلخلة، أن نتعنَّت في إصرارنا على وجود منطق وحيد يُهيمن في تحديده على كل المسارات المختلفة للدلالة. وهذا يعني أن هذه النصوص ما كان لها أن تُحدث ثقوبا في جدار الميتافيزيقا، لو أنها بقيت أسيرة للمنطق الكلاسيكي الغربي، الذي أوكل للفلسفة المثالية مهمة القيام به سياسيا. ووجود دانتي، وساد، ومالارميه، وآرتو، وباتاي، ولوتريامون، ها هنا ليؤكد أنهم أنجزوا «خروجهم» عن هذا الفضاء المنطقي بصيغة المفرد، الذي يعتبر في آن فضاء الأيديولوجيا البورجوازية.
هل من دلالة أخيرة في القول، إن مؤلَّف الكتابة وتجربة الحدود يندرج ضمن تيار أوسع حاول وضع أسس للنظرية بعامة ولنظرية الكتابة تجمع في آن بين التنظير والممارسة، ضمن كوكبة تضم لوي ألتوسير، دريدا، بارت، وجان ريكاردو، وجان تيبودي، جوليا كريستيفا، ميشيل فوكو، جاك دريدا، جيرار جينيت، تزفتان تودوروف… حين كان فيليب سوليرز يدير مجلة «تيل كيل»، لسان حال الجماعة ومنبر عرض جهازها النظري والتطبيقي؟
(محمد العرابي/ القدس العربي)
This post is also available in: English (الإنجليزية)