الوصف
الليبرالية في السعودية الفكرة .. الممارسات .. الرؤى المستقبلية
عرفت الحياة السياسية والاجتماعية في المملكة العربية السعوديَّة خلال العقد المنصرم ظاهرة فريدة من نوعها في حياة مجتمعات شبه الجزيرة العربية الإسلامية المحافظة بطبيعتها، وهي بروز التيار الليبرالي، والذي أخذ شكلاً إطاريًّا أكبر من مجرد الوجود السياسي أو الاجتماعي؛ حيث انطلق ضمن منهجية “تغييرية”، وخصوصًا في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، والتي هزت العالم كما عصفت بالولايات المتحدة.
واستفاد التيار الليبرالي في المملكة من حالة ما يعرف بـ”الفوضى الخلاقة” أو الـ”Creative chaos”، وهو المصطلح الذي اصطكته دوائر الإعلام وصناعة القرار خلال فترتي حكم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، واستغلتها في الضغط على العديد من العواصم العربية والإسلامية، وعلى رأسها الرياض، من خلال دعم إحداث مجموعة أو سلسلة من التغييرات”، التي طالت العديد من الأطر المرتبطة بمخاطبة قلوب وعقول الجماهير، ومن بينها مناهج التعليم الأساسي والجامعي، وإطارات أخرى متعلقة بالتوجه السياسي والاجتماعي الداخلي التي تتعارض في كثير منها مع قضية الإصلاح السياسي المنشود داخليًّا في المملكة.
وعلى التصاق هذه القضايا بالشارع والجمهور والحراك الاجتماعي والسياسي العام؛ فإن الكثيرين يرون أن المشروع الليبرالي في المملكة وفي عالمنا العربي، قد انتقل من دائرة تناول متطلبات الشارع والعمل في إطار الحراك الجماهيري العام، إلى مصاف الانخراط في دوائر التأثير العام، سواء السياسية أو الثقافية أو الإعلامية، وحتى الاجتماعية، عبر الاستحواذ على تلك الأدوات، وأن هذا الأمر يتم من خلال عملية إقرار من هيكل القرار الرسمي!
وبداية فإن، الليبراليَّة هو مصطلح غير عربي تم نحته من كلمة “LIBERALISM” اللاتينية، وهي تعني التحررية، ويعود اشتقاقها إلى لفظ “LIBERALIS” أو “liber”، والتي تعني “الشخص الكريم، النبيل، والحر”، و”LIBERTY” في الإنجليزية وفي اللغات المنتمية إلى عائلة اللغة اللاتينية، معناها “الحرية”.
والليبراليَّة مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الفرد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية الفكر، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها، ولهذا يسعى هذا المذهب إلى وضع قيود على السلطة وتقليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق وتوسيع الحريات المدنية.
إن مقولة الحرية لا تشكل فقط مبدأ من جملة مبادئ الليبراليَّة، بل هي مرتكز لتأسيس غيرها من المبادئ، فمن الناحية الفكرية تعني “حرية” الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصادية تعني “حرية” الملكية الشخصية، و”حرية” الفعل الاقتصادي المنتظم وفق قانون السوق، وعلى المستوى السياسي تعني “حرية” التجمع وتأسيس الأحزاب واختيار السلطة. ولليبراليَّة جوهر أساسي يتفق عليه جميع الليبراليين في كافة العصور مع اختلاف توجهاتهم وكيفية تطبيقها كوسيلة من وسائل الإصلاح والإنتاج، هذا الجوهر هو ” أن الليبراليَّة تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى والباعث والهدف والأصل والنتيجة في حياة الإنسان، وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه، ولذلك فهي في أحيان كثيرة تعني “التَّحرُّر المطلق” من كلِّ القيود مما يجعلها مجالاً للفوضى.
ولقد ساهمت العديد من العوامل في تحقيق ازدهار التيار الليبرالي في العالم العربي والإسلامي، ولا يظنن أحد أن هذا التيار طارئ على الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في عالمنا العربي الإسلامي؛ وإنما هو أحد مفرداتها منذ زمن بعيد.
وتُعتبر النقطة الزمنية الأولى أو الأساسية لظهور هذا التيار في البلدان العربية والإسلامية، هي فترة الاستعمار الغربي المباشر؛ حيث كان من بين أبرز الوسائل والأدوات المساعِدة التي استخدمها الاستعمار لتحقيق بعض أهدافه بين ظهرانيي مجتمعاتنا هو نشر فكره الخاص في مجتمعاتنا، وذلك من أجل تحجيم تأثير الفكرة الإسلامية فيها.
ولذلك، ومن خلال مفردات بعينها، مثل المدارس الأجنبية والإرساليات التنصيرية والبعثات والمنح الدراسية إلى “بلاد الفرنجة” في أوروبا والولايات المتحدة، تم خلق أجيال كاملة من المفكرين والفنانين والأدباء، بل وعلماء الدين، من المتحمسين إلى الفكرة الليبراليَّة. ولقد أخذ هذا التيار العديد من المظاهر المختلفة في تنويعاتها، ما بين فكري وثقافي، تمثلت في صحف وأعمال إبداعية أدبية وفنية أخرى، واجتماعية، تمثلت في ظواهر مثل نبذ الحجاب الشرعي للمرأة والتحلل من الكثير من القيم والتقاليد الاجتماعية المرتبطة بالدين وبالعادات المتعارف عليها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، أو سياسية، تمثلت على سبيل المثال، في التحمس لشكل أو نمط الحكم في البلدان الغربيَّة.
وبلغ من درجة حماسة الكثيرين للفكرة الليبراليَّة خلال فترة الاستعمار الغربي المباشر، إلى عدم تبني فكرة مقاومة المُستعمِر؛ والتحاور معه بدلاً من ذلك من أجل الاستفادة من المشروع “التنويري” و”النهضوي” الغربي الذي كان- ولا يزال- مبهرًا للكثيرين في تلك المرحلة، وذلك بالرغم من أن الأدوات أو الروافد الأساسية التي اعتمدت عليها أوروبا في نهضتها الحضارية في الجانبَيْن الرُّوحي والمادي كانت إما مأخوذة عن الحضارة الإسلامية أو من ميراث الحضارة اليونانية القديمة! ودعم من وجود ذلك التيار في مجتمعاتنا انهيار دولة الخلافة العثمانية، البوتقة التي جمعت المسلمين لحوالي خمسة قرون، تمثل ما يقرب من نصف عمر دولة الإسلام. وساهم في ذلك ما رافق هذا الدوال من انهيار حضاري نُسِبَ للإسلام ولأطره الفكرية والاجتماعية والسياسية، بدلاً من أن يُنسب إلى قوانين العمران البشري التي فرضها الله سبحانه وتعالى، حتى على البنيان أو العمران السياسي والاجتماعي الإسلامي، والتي تنص على أن الحضارة الإنسانية لها مراحلها الحتمية، والتي تبدأ بالنمو وصولاً إلى مرحلة العنفوان، وأخيرًا الدوال والانهيار، مع شيوع مظاهر التخلف والانحطاط وغير ذلك مما صاغه ابن خلدون في مقدمته وفي كتاب ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
وفي العقود التالية لانهيار الخلافة تأطر الفكر الليبرالي في المجتمعات العربية والإسلامية بفعل البذرة التي نمت، وهي الأجيال التي تربت في الغرب، ونحت نحوه في تفكيرها، وبفعل العديد من العوامل الأخرى، ومن بينها سيطرة التيارات القومية والعلمانية على الحياة السياسية والاجتماعية في البلدان العربية والإسلامية.
وزادت من المساحة التي يتحرك فيها التيار الليبرالي انتصار المعسكر الغربي، ممثل الليبراليَّة في العالم في الحرب الباردة على المعسكر الشيوعي الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق في مطلع التسعينيات الماضية. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما صاحبها من تشويه مُنظَّم للإسلام وإطاره الفكري والاجتماعي والسياسي الحضاري، ليزيد من سقف الحركة المتاح للتيارات الليبراليَّة في العالم العربي والإسلامي. ولم تكن المملكة العربية السعوديَّة منفصلة عن مختلف هذه التطورات؛ حيث حدثت نقلة نوعية في الخطاب الليبرالي السعودي، من خلال بروزه وصراحة وجوده وحقيته واعلان مطالبه .
وبدءًا من العام 2005م، نشط الليبراليون في الداخل المحلي، استغلالاً لحالة الانفتاح التي أتاحها النظام الحاكم، والتي تجلت بعض مظاهرها في جلسات الحوار الوطني ومنح المرأة السعوديَّة الكثير من الحقوق. وفي طريقهم، ركب الليبراليون السعوديون العديد من الموجات، من بينها موجة “ملف المرأة السعوديَّة”، كحصان طروادة، من أجل تدعيم مطالبهم في التغيير- ولا نقول الإصلاح تحريًا للدقة- الاجتماعي والسياسي، وفي رسم السيناريوهات المستقبلية للمجتمع.
ولا يمكن في الإطار، تحديد اتجاه العلاقة ما بين الولايات المتحدة والغرب وبين الليبراليين في المملكة العربية السعوديَّة؛ حيث هي علاقة تأثير وتأثر بكل تأكيد؛ وليست في اتجاه واحد. فلقد أخذ الليبراليون عن الفكر الغربي، وبينما يساعد فكرهم وحراكهم العام على نشر الفكرة الغربيَّة وتحقيق مجموعة من المستهدفات التي يصبو إليها الغرب؛ فإنه، ومن دون الانزلاق إلى دهاليز نظرية المؤامرة، يجد هذا التيار الكثير من الدعم والتأييد من جانب الدوائر الرسمية والإعلامية الغربيَّة، ويُفهم من ذلك مدى التقارب الأمريكي والأوروبي الرفيع المستوى مع الليبراليين في المملكة وفي عالمنا العربي والإسلامي عمومًا.
(مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات)
الليبرالية في السعودية الفكرة .. الممارسات .. الرؤى المستقبلية
لللمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية