الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
يؤكد الوزير اللبناني السابق، الدكتور طارق متري، أن المسيحيين الفلسطينيين الذين صمدوا في وطنهم فلسطين عام 1948 ولم يُهجروا، يواجهون حالياً نفس مصير مواطنيهم الفلسطينيين المسلمين هناك الذين قاموا بهذا الخيار بحيث تُعاملهم إسرائيل كسكان من الدرجة الثانية، وربما تفضل ان يهاجر العدد الأكبر منهم إلى أماكن وبلدان أخرى في العالم.
وكان متري عبّر عن موقفه هذا، قبل فترة قصيرة من حدوث العمليات العسكرية الفدائية للمقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) هذا العام، في كتاب بالإنكليزية صدَر في الأسابيع الماضية بعنوان: «المسيحيون في السياسة العربية».
ويُذكر أن الكاتب متري يترأس حالياً جامعة سانت جورج في بيروت وكان المدير السابق لـ«معهد عصام فارس للشؤون الدولية» في الجامعة الأمريكية في بيروت ومبعوثاً أممياً في ليبيا بالإضافة إلى تدريسه في جامعات محلية ودولية بارزة.
يشير المؤلف في هذا الكتاب إلى أوضاع المسيحيين الفلسطينيين في أراضي الـ48 الفلسطينية قائلاً: «المسيحيون الذين بقوا في داخل الحدود التي خلقتها إسرائيل لنفسها تشاركوا في دور السكان من الدرجة الثانية مع مواطنيهم المسلمين في هذه الأراضي وقاوموا هذه الضغوط بالوسائل المتاحة لهم وبدعم من مؤسسات خيرية ودينية من الخارج. ولكن بسبب حذر إسرائيل من إغضاب دول أوروبية أو عربية إذا تمادت في التعامل السيء معهم تحملوا وضعهم إلى حد ما. غير انهم استمروا في تأييدهم للقضية الفلسطينية ولمعاناة الشعب الفلسطيني وآلامه وانتسبوا إلى مؤسسات وأحزاب علمانية التوجه تعتمد وتنتسب إلى الفكر المقاوم والتي أيدّ بعضها مظلة منظمة التحرير الفلسطينية وتبنى معارضة الحركة الصهيونية ونفوذها في المنطقة وفي الغرب». (ص 56 و57).
ويعتبر متري بأن الطائفية والانكماش الطائفي لمسيحيي فلسطين أو للمسيحيين في العالم العربي عموماً ليس الحل الأمثل للواقع المرير الذي يعانون منه في بعض هذه الدول بالإضافة إلى فلسطين، بل عليهم أن يتعاضدوا مع إخوانهم المسلمين ويعارضوا بالتحالف معهم الأنظمة التي تخضع شعوبها ومعارضيها لممارسات قمعية غير ديمقراطية. ومن أسوأ الخيارات بنظر متري، أن يتصرف مسيحيو العالم العربي والشرق وكأنهم كتلة طائفية مغبونة ومهمشة ومنفصلة عن المجموعات الأخرى. (ص129).
وفي الوقت نفسه، يؤكد الكاتب بأنه من الصعب جداً على القادة والمفكرين المنفتحي الأفكار اجتماعياً وسياسياً ودينياً إقناع المجموعات الدينية المسيحية بعدم اتخاذ الخيارات الطائفية المنغلقة عندما يمارس العنف ضدهم من جهات قاسية وطائفية تدّعي ضرورة الانصهار القومي في وجهة واحدة بالقوة بينما هي لم تنبذ الطائفية بالفعل.
وبالتالي، يدعو المؤلف (كما يشير القسم الثاني من عنوان كتابه) إلى مطالبه مسيحيي العالم العربي والمشرق بالمواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق، أكانوا فلسطينيين أو لبنانيين أو سوريين أو عراقيين ومصريين أو غير ذلك.
وهذا مطلب محق من منطلق إنساني إذا شاءت الدول الكبرى القوية تطبيق العدالة للفلسطينيين في بلدهم ومنعت إسرائيل من التمييز العنصري والتطهير العرقي كما تفعل حاليا ضد السكان العرب الفلسطينيين معتمدة أبشع الوسائل وأكثرها قساوة ووحشية.
ومن القضايا التي طرحها المؤلف أيضاً في كتابه ان الأعداد السكانية الديموغرافية للمواطنين المسيحيين في بلدان أكثرية سكانها من المسلمين ليست وحدها العامل الأهم في تقدير مستوى فعالية أدوارهم السياسية والاجتماعية.
فقد أثبت التاريخ الحديث بأن دور المسيحيين في تطور المجتمعات التي عاشوا فيها يفوق بمسافة واسعة طبيعة أعدادهم السكانية الديموغرافية، غير ان تقلص هذه الأعداد في بعض الأحيان بسبب الهجرة قد يدفع إلى المزيد من الهجرة من جانب الباقين منهم بسبب عامل الخوف من حصول التعديات ضدهم إلى درجة أكبر. وهذا الأمر يشعر به مسيحيو ومسلمو أراضي الـ48 في فلسطين وإلى حد مواز الأقليات المسيحية في لبنان والعراق وغيرهما. أما في مصر، فوضع المسيحيين الأقباط اختلف في السنوات والعقود الماضية حسب علاقة قياداتهم الدينية والاجتماعية بالسلطة السياسية في القاهرة بحيث كانت أفضل في عهد الرئيس جمال عبد الناصر مما كانت عليه في بعض العهود الأخرى.
ويقول متري في خاتمة كتابه إن التقوقع الطائفي لا يوفر حلاً لقضية معاناة الأقليات المسيحية في العالم العربي في المدى البعيد، بل على العكس قد يجعل وضعها مقلقاً إلى درجة أكبر ويضع مستقبلها بشكل أكثر خطورة على المحك، فالتقوقع الطائفي يولد تقوقعاً طائفيا لدى الجهات الطائفية والأثنية الأخرى وقد يؤدي إلى المزيد من الصدامات، ولُعب دور الضحية من جانب مسيحيي الشرق لاستدرار العطف من جانب الغرب المسيحي ليس دائماً مجدياً كما ربما كان في القرون الماضية.
ومن خلال ما حصل في فلسطين في الأسابيع الأخيرة يبدو أن الغرب حريص إلى درجة أكبر على مصير يهود إسرائيل من حرصه على مصير مسيحيي فلسطين والشرق، إذ تركز وسائل الإعلام الغربية على الضحايا الإسرائيليين أكثر مما يحدث للمسيحيين والمسلمين الفلسطينيين وكنائسهم وجوامعهم والضحايا الأبرياء الكُثر بينهم. هذا الأمر لم يتطرق الكاتب إليه بشكل مباشر (لأن الكتاب صَدرَ قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023) ولكن بالامكان استنتاجه عبر تحذيراته حول عدم الاتكال كثيراً على الدعم الغربي للعرب أكانوا أقليات أو أكثريات في فلسطين أو في دول عربية أخرى عندما يتعلق الأمر بمصير إسرائيل.
غير ان أسطر الكتاب الأخيرة معبّرة إلى درجة كبيرة حيث يقول متري: «إن الأصوات غير المسموعة اليوم والتي تم اسكاتها لا يمكن ان تبقى صامتة إلى الأبد، والتعاون نحو المواطنة الكاملة والوحدة الوطنية لن يبقى حلماً غير قابل للتحقيق بل سيصبح المبدأ للأمل والحياة».
ويوضح الكاتب أن المادة الموجودة في هذا الكتاب جُمعت من مؤتمرات شارك فيها في أوروبا وأمريكا والعالم العربي حول الموضوع الوارد فيه.
ويشير في الفصل الأول إلى أن مفهوم ومعنى أن يكون الإنسان عربياً ومسيحياً في الوقت عينه هو مفهوم هناك انقسام كبير حوله. فالبعض يرى فيه ضرورة التمسك بالهوية الحضارية والدينية المسيحية إلى أقصى الدرجات لكي لا يتم طمس هذه الهوية سياسياً واجتماعياً وديموغرافياً. وبالتالي، يركز هؤلاء على تعزيز العادات والممارسات المسيحية التقليدية في مجتمعاتهم. والبعض الآخر يدعو إلى السعي لمد الجسور بين المفاهيم المسيحية والعادات والممارسات المرتبطة بها مع المفاهيم والمواقف للمجموعات غير المسيحية بالإضافة إلى التعاطف مع القضايا الشديدة الأهمية لدى الطوائف والمجموعات الأخرى وخصوصاً القضايا المصيرية كقضية مواجهة التطهير العرقي والقمع من جانب إسرائيل للفلسطينيين وتفهم ودعم حقوق الشعب الفلسطيني والمآسي التي يتعرض لها.
وهذا الانقسام متواجد أيضاً في دعم قضايا أخرى كانتفاضات بعض الشعوب العربية ضد حكامها القمعيين والذين يمارسون البطش والإرهاب ضد معارضيهم مقابل تعزيز التقوقع الطائفي بحجة ان بعض هذه الأنظمة القمعية تدعي دعم الأقليات.
وبالتالي، فالسؤال الأهم الذي يطرحه هذا الكتاب هو: «إلى أي حضارة ينتمي مسيحيو العالم العربي؟ هل هذا الانتماء هو إلى حضارة خاصة بهم أو إلى الحضارة العربية الإسلامية المنفتحة على حقوق الأقليات؟».
وتصبح الإجابة على هذا السؤال أكثر صعوبة عندما تتزايد المنظمات السياسية ـ الطائفية ـ العسكرية في العالم العربي التي تتعامل حسب منطق تخوين الأقليات وقمعهم أو معاملتهم كاهل ذمة.
ويقول متري إن تاريخ المنطقة مليء بمجموعات مسيحية اثنية أُسيئت معاملتها من قبل أنظمة قومية أو دول أجنبية قدّمت إليها الوعود وتراجعت عنها كالأرمن والآشوريين والسريان، واضطرت هذه المجموعات في النهاية إلى ترك أوطانها واللجوء إلى لبنان أو بلدان عربية أو غربية أخرى.
ويشير المؤلف إلى أن نسبة السكان المسيحيين في العالم العربي في القرن التاسع عشر كانت حوالي الـ25 في المئة وانخفضت في القرن العشرين إلى حوالي العشرة في المئة.
ولكن هذه التقديرات (حسب قوله) ليست شديدة الدقة لأن الإحصاءات السكانية حول الطوائف لم تعد متوفرة منذ الربع الأول من القرن العشرين في معظم البلدان العربية.
وما ساهم في ارتفاع نسبة المسيحيين في العالم العربي في القرن التاسع عشر، حسب المؤلف، أن «الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة لنص قرن لم تحاول فرض اعتناق الإسلام على سكان المقاطعات المسيحية التابعة لها، وانشأت نظام المُلّة، ما سمح للطوائف غير المسلمة بالاستمرار في ممارسة طقوسهم وعاداتهم» (ص 38). غير انه بعد تسلم حركة الضباط الأتراك الشباب القومية التوجه السلطة في عام 1908 نشأت ممارسات قمعية ضد الأقليات المعارضة لسياستها. (ص 40).
ويشمل الكتاب تفاصيل تاريخية دقيقة عن تلك المرحلة وأوضاع الأقليات فيها وعن مواقف مسيحيي لبنان وسوريا خلال فترة الانتداب الفرنسي والتعاون المسيحي ـ الإسلامي في لبنان وسوريا في فترة الاستقلال وبعدها. (ص 49 وص 50). ولعل أحد أهم مقاطع الكتاب ما ورد في الصفحة (54) منه حيث يقول متري: «كان الأمر الأهم بالنسبة إلى مسيحيي فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني تأكيد هويتهم كعرب فلسطينيين. وكانوا يرفضون ويقلقون إزاء وعد بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد شارك مسيحيون فلسطينيون منذ عشرينيات القرن الماضي في أنواع مختلفة من المقاومة ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وكانوا آنذاك يشكلون ما بين 10 إلى 15 في المئة من السكان العرب في فلسطين، وانتمى أعضاء منهم إلى القيادة الأولى المعارضة لتوسيع الوجود الصهيوني في فلسطين خشية من التأثير السلبي لذلك على التجارة والمهارات الفلسطينية التي يجلبها المهاجرون اليهود من أوروبا معهم».
المصدر: القدس العربي
This post is also available in:
English (الإنجليزية)