المعجزة.. سبات العقل الإسلامي

عنوان الكتاب ثبات العلقل الإسلامي
المؤلف جورج طرابيشي
الناشر  دار الساقي
البلد بيروت
تاريخ النشر 2008
عدد الصفحات 192

أشتري الكتاب حمل الكتاب

الوصف

المعجزة.. سبات العقل الإسلامي

في إطار السجال العلمي المفيد بين اثنين من رموز الفكر العربي المعاصر؛ محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي حول العقل العربي وما أصابه من جمود يأتي هذا الكتاب الهام والمثير.
الجابري في سلسلته ” نقد العقل العربي ” رد حالة التوهان التي يعشها العقل المسلم في أحد جوانبها إلى عوامل خارجية كالتأثير السلبي للمنهج الجوَّاني الغيبي الغرائبي الوافد من التراث الهندي والفارسي متغافلا، كما يأخذ عليه طرابيشي، العامل الداخلي الكامن في بنية التراث الديني الإسلامي ذاته، والمتمثل في الإفراط بالإيمان بالمعجزات لدرجة غمَّت على العقل وأدخلته في حالة من السبات والكمون لم يستفق منها حتى الآن.
ينطلق جورج طرابيشي في هذا الكتاب من فرضية أن النبي محمد هو نبي “بلا معجزة” حسية كسائر الأنبياء، وأن الله لم يؤيده بالمعجزات كما أيد موسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى وإبراهيم بالنجاة من النار وغيرهم، وذلك لقناعته (سبحانه) بأنه حتى ولو أرسل إلى الكفار والمشركين هذه الآيات (المعجزات) فإنهم لن يؤمنوا بها وبالتالي فلا داعي لها، وأن الأفضل الاكتفاء بالقرآن “كمعجزة” بيانية بلاغية.
وحشد طرابيشي في الصفحات الأولى من الكتاب عشرات الآيات القرآنية التي تؤيد هذه المقولة؛ مقولة طلب المشركين والكتابيين برهانا، دليلا، آية، معجزة، على صدق نبوته، كأن يأتيهم بكنز، أو يزيح الجبال المطبقة على أنفاسهم حتى تتسع مكة، أو أن يطلب من ربه أن يفجر في أرضهم الصحراوية القاحلة أنهارا تساعدهم على زراعتها بساتين من نخيل وأعناب، أو يُنزل وفدا من الملائكة يشهدون له بأنه رسول من ربه..إلخ، وكان رد النبي محمد عليه الصلاة والسلام دوما القول إن ذلك ليس بيده وإنما بيد ومشيئة الله وأنه ليس إلا بشرا رسولا مبلغا ونذيرا (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين) (العنكبوت/٤٩).
ويخلص المؤلف إلى أن الله أراد أن تكون نبوة محمد خالية من المعجزات الحسية باستثاء محاربة الملائكة معه في إحدى غزواته (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وحتى هذه فإن نسبة ما قامت به الملائكة كان لله وليس لفعل الرسول المعجز.
فإذا كان القرآن الكريم ينفي المعجزة الحسية عن الرسول ويكرر نفيه في عديد الآيات القرآنية حتى صارت إحدى المرتكزات الأساسية في الخطاب القرآني، فكيف تسللت فكرة المعجزات إلى السيرة النبوية ومنها إلى مجمل التراث الديني الإسلامي وأثرت كل هذا التأثير في العقل المسلم، الذي استكان إليها منهجًا في تفسير ظواهر الكون، وقعودا عن استشكاف قوانينه. هكذا تساءل طرابيشي وهكذا كان سؤاله السؤال الأساسي في هذا الكتاب، وقد استعمل للإجابة عليه المنهج الوصفي التاريخي المقارن.
وفي معرض الإجابة على هذا السؤال أورد طرابيشي جملة من الأسباب السياسية والدينية، وركز في بحثه على فترة حكم الأمويين والعباسيين، وبالأخص إبان عهد المتوكل (القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي) الذي أحدث ما أسماه “انقلابا فكريا” في مسيرة العقل المسلم، بقراره اعادة الاعتبار لأهل الحديث بعد محنة خلق القرآن وجعلهم يتصدرون الدعوة (سيكون لهؤلاء فيما بعد دور مهم في تضخيم معجزات النبي بشكل مبالغ فيه) وتضييق المجال أمام أهل الرأي والعقل والتأويل.
كذلك لرغبة المتوكل في “إعادة تأسيس الإسلام” -بحسب وصف طرابيشي- على أسس فكرية جديدة متجاوزا الاتجاه العقلاني السائد في القرآن، وذلك لجذب مزيد من الأتباع في البلدان المقتوحة والتي أغلب سكانها آنذك كانوا من أهل الكتاب الذين يحتاجون ليؤمنوا بنبوة محمد إلى معجزة كتلك التي اعتادوا عليها في تراثهم الديني، ولمَّا كانت المعجزة القرآنية اللغوية البلاغية ليست مؤثرة فيهم كونهم لا يتحدثون العربية فقد لزم إعادة كتابة السيرة ليصبح للنبي معجزات.
وانطلاقا من هذه الانعطافة المثيرة يرصد الكاتب ما أورده أهل الحديث من معجزات للرسول ويحسب زيادتها العددية بمرور السنين، فيورد المعجزات التي ذكرها ابن هشام في سيرته من قبيل نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وتسبيح الحصى وأنين جذع النخلة وتكثير الطعام الذي جاء به جابر بن عبد الله، ورد عين قتادة التي وقعت على وجنتيه في غزة أحد وإعادتها للإبصار..إلى آخره.
ثم المعجزات التي ذكرها الماوردي في كتابه “أعلام النبوة” بعد قرنين مما كتبه ابن هشام، وما زاده فيها مثل معجزة شفاء المجذومين وإحياء الموتى (يلاحظ هنا التشابه مع معجزات عيسى).
والمعجزات التي ذكرها البيهقي (المعاصر للماوردي) في كتابه “دلائل النبوة”، وما زاده فيها، ومنها على سبيل المثال ما أورده في المجلد ٦ ص ١٨ من الكتاب المذكور من قصة الشجرة التي قال لها جابر بن عبد الله ما معناه إن رسول الله يأمرك أن تقتربي من أختك لتكوِّنان سترا يقضي خلفه حاجته، ففعلت.
ومن ابن هشام والماوردي والبيهقي إلى القاضي عياض الذي أحصى في كتابه “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” المعجزات زائدا في عددها من عشرة معجزات عند ابن هشام الذي سبقه بثلاثة قرون إلى مائة وعشرين معجزة، وأدخل فيها معجزات لها علاقة بأحاديث الجمادات والحيوانات بل ولها علاقة بإفرازات الرسول صلى الله عليه وسلم البشرية من مخاط وبول وما شابه. من ذلك أن مضرعته قالت إنها شربت بوله وهو طفل فلم يصبها مرض حتى ماتت. وما ورد من تفله في بئر ماء ليغزر ماءه أو فم طفل ليتكلم، أو على يد صحابي قُطعت في إحدى الغزوات (معوذ ابن عفراء يوم بدر) فعادت كما كانت واستكمل بها القتال… إلخ.
وعن كلام الحيوانات ما ذكره القاضي عياض – نقلا عن الطرابيشي بالطبع- في كتابه المذكور ص ١١٠ من قصة الأعرابي والضب التي نسبها إلى ابن عمر، قائلا: إن أعرابيا جاء إلى جمع من المسلمين وفيهم النبي وهو لا يعرفه ومعه ضب قد صاده فقالوا له: أما تؤمن بمحمد نبيا؟ فقال واللات والعزى لا أؤمن به حتى يشهد له هذا الضب، فتوجه النبي بالكلام إلى الضب وسأله: يا ضب من أنا؟ فرد الضب بلسان عربي مبين سمعه كل من شهد الواقعة: أنت رسول الله رب العالمين، وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك وخاب من كذبك. فأسلم الأعرابي حينما سمع الضب يتكلم بهذا الكلام.
وهكذا، راح طرابيشي يتتبع تسلل فكر المعجزات لدى علماء السنة ويحصي الزيادة التي أدخلوها حتى بلغت بنهاية القرن الخماس الهجري ثلاثة آلاف معجزة، وللدرجة التي صارت معها كثير من المعجزات أشبه بقصص ألف ليلة وليلة وألعاب الحواة وشغل المشعوذين، والحال نفسه مع المعجزات الواردة في كتب علماء الشيعة والذين لم يكتفوا بمعجزات النبي وحده وإنما أضافوا إليها معجزات علي والأئمة الاثنى عشر.
وفي نهاية هذا الكتاب يورد طرابيشي ما يريد قوله تحت عنوان “ثورة كوبرينيكية” في إشارة إلى كوبرينكوس الذي أعطى باكتشافاته الفلكية إشارة البدء للحداثة الأوروبية، والغرض الذي يرمي إليه طرابيشي هو أن يبدأ المسلمون في القيام بثورة على تراثهم الديني لينقوه من هذا الغثاء لعلهم بذلك يتحولون من “عالم الكتاب إلى كتاب العالم” أو من “العقل الديني إلى العقل العلمي” على حد قوله، ومن ثم يدخلوا التاريخ مرة أخرى بعد أن خرجوا منه.
وبعد هذا العرض ما الذي يمكن قوله؟
يمكننا القول إننا من حيث المبدأ مع الكاتب فيما ذهب إليه. حقا إن تراثنا بحاجة إلى غربلة لتخليصه مما علق به من شوائب الصراع السياسي والتعصب المذهبي وما تخلله من ضعف منهجي تسبب في حشده بالكثير من الخرافات والأوهام البعيدة عن روح الدين وصحيح نصوصه. لكن هذه الدعوة المتكررة لن تحدث بمفردها. هي بحاجة إلى مؤسسات تدعمها، وإلى علماء قادرين على النظرة النقدية ويمتلكون الشجاعة والجرأة لإعمال مباضعهم دون خوف من هيجان العامة. وإلى أن يحدث ذلك فلا أقل من أن نتحلى نحن الأفراد العاديين بتلك الحاسة التي تزن ما تسمع وتقرأ بميزان العقل والفطرة وصحيح الدين في كلياته وعمومياته.
بقيت مسألتان لا أود الانتهاء من العرض دون الإشارة إليهما. الأولى متعلقة بجورج طرابيشي نفسه. فالرجل نظر إلى الإسلام من خارج سياقه – كونه مسيحيا – وتحلى بالدقة وسمو الهدف ولم يعزه الذكاء في الربط بين المتشابهات ووضع اليد على المتناقضات فجاء كتابه قيما، وهو ما يؤكد الحاجة إلى الانفتاح على مثل هذه الكتابات التي لم تعتد العين كثيرا رؤيتها.
المسألة الثانية لها علاقة بعلماء التراث الديني كابن هشام والبيهقي والماوردي والطبري وغيرهم.. والانطباع الذي تولَّد لدي عقب فراغي من قراءة هذا الكتاب هو أننا منحناهم احتراما مبالغا فيه بدرجة مضرة، ووجه الضرر ليس في الاحترام ولكن فيما تسبب فيه من إحجامنا عن تناول ما كتبوه ونقده بصراحة وجرأة وتوبيخهم أحيانا على سقطاتهم وزلاتهم التي ما كان ينبغي لمشهورين أمثالهم أن يقعوا فيها رغم بداهتها في مخالفة المنهج العلمي في النقل ومصادمتها للعقل، إن صح حقا ما انتهى إليه طرابيشي في كتابه.
* محمد عبد العاطي

المعجزة.. سبات العقل الإسلامي

للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية

TOP