الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
تريد الكاتبة إيـفا فرانكِـنْبـيرغـر، من كتابها “النازيّون صاروا عندنا- (كفاحي) يحطّ في العاصمة واشنطن”، خَـلْـقَ مطابقة بين أبرز مبادئ ورؤى النازيّة، التي سطّرها الزعـيم الألماني الراحل أدولف هتـلر في كتابه الشهير “كفاحي”، والوجهةِ السياسية التي يعـتمدها الحزب الجمهوريّ في الولايات المتحدة؛ تراها متجـلّية على فترات متعاقبة من الماضي القريب حتى اليوم.
وتجد فرانكِـنْبيرغـر أنّ المسلَـك “الجمهوريّ” يشبه ذلك “النازيّ” بصلافته وأجندته الملأى بالفوقية العنصرية، وكراهيةِ الأجانب، وشيطنةِ الديانات الأخرى لتحقيق مكاسب سياسية. ولعلّ فرانكِـنْبـيرغـر أخفقت في بناء أسلوب منهجيّ في معـرض ربط الحالتَينِ ضمن إطار وجه الشبه، إذ لم تعتمد أسلوبَ المقارنة المباشرة، ولم تُورِدْ شواهدَ متشابهة ومتقابلة عـن فِكر وأداء كِلَا الحزبَـين في حالاتٍ ومجالاتٍ محدَّدة، في هذا الكتاب، إلّا ما ندر؛ واكتفت بتقديم شرحٍ وتحليلٍ (كانا وافـيَينِ موضوعـيًّا) للمبادئ المذكورة في ’كفاحي‘، تاركة للقارئ الحُكمَ على مدى التطابق الذي تعتقد هي به، بعد أن يكون القارئ فَهِمَ مبادئ النازية وفق ما استرسلت الكاتبة به مِن شرح وتفصيل.
العصبيّة الروحيّة لنجاح الحركة السياسية
تقول فرانكِـنْبيرغـر إننا جميعًا نحترم الأفعال البطولية.. لكن، في منظور الساسة الذين يمارسون سياسة الزعيم النازي الراحل أدولف هتلر، المسطورة في كتابه “كفاحي”، فإنّ التضحية البشرية هي وسيلة لخلق رابط عاطفي مع الجماهير، وتقديم أنموذج يُحتـذى لدى التابعين، وشيطنةِ الأخصام. فالرابط العاطفي الذي يشدّ الأفراد إلى حدث بطوليّ هو أداة سياسية لا منازع لها في ضرورتها. وبذلك، يصبح أي تهجّم على حركة سياسية تستند إلى البطولات البشرية، بمثابة تهجّم على تلك البطولات بذاتها. ففي عقيدة كتاب “كفاحي”، يُعتبر الرابط العاطفي مع الجماهير المناصِرة هدفًا يبرّر الوسائل المعتمَدة لتحقيقه.
إنّ القانون الأول في عقيدة هتلر السياسية، هو أنّ تلويح القائد السياسيّ بالعَـلم الحزبيّ أمام الجماهير، مشيدًا ببطولات أفراد هذا الحزب، قادرٌ فعلًا على ربط الشعب بالحزب الذي يتزعّمه؛ كما أنّ رجالات القضية العقيدية ينبغي أن يسوَّق لهم على أنهم النموذج الصافي للقيمة الحركية في إطار النضال الحزبيّ.. وعليه، يصبح كلّ منتقد للمسار الحركيّ للحزب إيّاه، بمثابة مُتَـشَيطِنٍ موسوم بالخيانة للقضية السامية التي يدافع عنها الحزب.
إنّ تحريك العاطفة الجماهيرية، من خلال التلويح بالعَلم الحزبيّ، يمكن تسخيره للترويج لسيادة عِرق على سائر الأعراق (سيادة العِرق الأبيض مثلًا)، وللفوقية الأخلاقية المتوهَّمة لطرف ما إزاء باقي الأطراف، وللحقّ في حيازة مكانة طبقية راقية في المجتمع أو في الحيّز الاقتصاديّ، وللنزعة الوطنية والعـصبية.
وبحسب دستور “كفاحي”، فإنّ المفاهيم والأفكار والحركات العقيدية ذات الأساس الروحيّ الواضح (بمعزل عمّا إذا كانت صائبة في توجّهاتها أم لا)، لا يمكن كسر شوكتها إلّا بأدوات سلطوية تستند إلى فِكر جديد أو فلسفة جديدة منافسة.
وينبغي للقوّة أن ترتكز على أساس روحيّ. فإنّ فرض القوّة لوحدها، من دون مصاحَـبة الدافع الروحيّ لها، بوصفه نقطة انطلاق، لا يمكن أن يؤدّي إلى تدمير فكرة منافسة وتقويض انتشارها.
والقوّة تستلزم الإصرار؛ فبالفرض المستمرّ والراسخ للأساليب الآيلة إلى قمع عقيدة منافسة، يمكن لخطّة ناشئة حديثًا أن تنجح. وتشدّد عقيدة “كفاحي” على أنّ العنف ينبغي أن ينبع من أساس روحيّ؛ فأيّ أسلوب عنفيّ لا ينبع من أساس روحي متين وصارم، سيكون هـشًّا وغير محرز للهدف (السياسي) المبتغى. وإنّ الاستقرار والمتانة المطلوبَين للحالة العنفية، يستلزمان نظرة عقيدية تعـصّبية لدى أفراد الحركة العنفية.
كذلك؛ فإنّ التغيير المنشود من قِبل حركة سياسية حادثة، وذات فلسفة أدائية مَرسيّة، هو بطابعه هجوميّ لا دفاعيّ.. بمعنى أن هذه الفلسفة الدافعة للعمل الحزبيّ تكافح من أجل الترويج (الإيجابيّ) لآيديولوجياها، أكثر ممّا تكافح من أجل التدمير (السلبيّ) للآيديولوجيا المنافِسة. وعليه؛ فإنّ أي محاولة لمحاربة فلسفة سياسية ما من خلال العنف ستفشل، إلّا إذا اتخذت هذه المحاوَلة طابع الاندفاع (الهجوميّ) لفرض مسلك روحيّ جديد.
فلسفة النازيّة لماهـيّة البروباغاندا
إن الدعاية السياسية (البروباغاندا) وسيلة وأداة، بالتالي ينبغي التعاطي معها من منظور الهدف الذي ترمي إلى تحقيقه. يجب أن توجَّه البروباغاندا دائمًا، وحصرًا، إلى الجماهير. إنّ مضمون الدعاية السياسية هو مادة علمية بقدر ما أنّ مضمون ملصق فنّيّ هو لون من ألوان الفنّ. وإنّ عنصر الفنّ الكامن في الملصق الفنّيّ، يتجلّى في قدرة المصمِّم على جذب انتباه الجمهور من خلال الشكل (التصميم) والألوان. وينبغي على الملصَق الفنّيّ أن يعطي الجماهير فكرة عن أهمية مضمونه، لا أن يكون العنصرُ الفنّيُّ المرافق له سببًا في أن يحلّ هذا الملصق (بكـلّيّته) محلّ المضمون. والأمر عينه يسري في خصوص البروباغاندا.
إنّ وظيفة البروباغاندا هي استـدعاء انتباه الجماهير إلى وقائع وضرورات معيّنة تكون أهميتها قد وضِعت للمرة الأولى في حيّز وعيهم وإدراكهم. وعنصر الفنّ الكامن في هذه الحالة، يتجلّى في تحقيق حالة الجـذب المبتغاة، بطريقة ماهرة، بنمط يجعل الجميعَ مقتنعينَ بأنّ الوقائع المعروضة في إطار البروباغاندا، هي وقائع حقيقية لا وهميّة.
على تأثير البروباغاندا أن يطال، في الغالب، العواطفَ (المنفعلة) لدى الجماهير، وأن يطال فكرَهم سطحيًّا، وبحدود ضيّـقة قدرَ المستطاع. وينبغي أن تكون جميع الأطر البروباغاندية ذات شعبية عارمة، وأن يكون مستوى الفِكر المضمَّن فيها معدَّلًا بما يتناسب مع أفهام الأقلّ ذكاءً من بين الجماهير (المستهـدَفة). بالتالي، كلّما كان حجم الجمهور المستهدَف كبيرًا، وحيّزه واسعًا، وجب أن يكون المستوى الفِكريّ البحت في البروباغاندا أدنى وأكثـر سطحيّة.
إنّ فنّ الدعاية السياسية يَكمن في فَهْمِ الأفكار العاطفية السائدة لدى الجماهير العريضة، وفي إدراك الطريقة المُثـلى التي بها يُجذب انتباهُ وقلوبُ هذه الجماهير؛ وذلك من خلال ممارسة الشكل المناسب من الرسائل السايكولوجية أثناء مخاطبة الجُموع.
ومن الخطأ أن تُجعلَ البروباغاندا متعدّدة الجوانب، كأنها إرشادات علمية!… فالقدرة الاستيعابية الذهنية لدى الجماهير محدودة جدًّا، وذكاؤهم ضئيل، لكنّ نزعتهم إلى النسيان كبيرة جدًّا. لذا؛ على أية عملية بروباغانديّة ناجحة أن تقتصر على نقاط قليلة يُخاطَب بها الجمهور عن طريق شعارات رنّانة.. إلى أن يفهم جميع المستهدَفين المرادَ من الخطاب.
إنّ المحوَر الرئيس في جميع النشاطات البروباغاندية، هو أن يكون الخطابُ منحازًا وانفعاليًّا وذا وجهة واحدة حيال كل نقطة يتطرّق إليها؛ إذ كيف عسانا نتـلقّف مُلصقًا إعلانيًّا يرمي إلى الترويج لمنتج جديد، ويصف – في الوقت ذاته – المنتجاتِ المنافسةَ بطريقة إيجابية ومُشيدة؟! إنّنا سنسترخص، ساعتئذٍ، جودةَ المنتَج المراد أصلًا الترويجُ له في المُلصَقِ.. والأمر عينه يسري على الإعلان البروباغانديّ السياسيّ.
كذلك؛ ليست وظيفةُ البروباغاندا التأمّلَ في الحقوق المتنوّعة لمجموعات الشعب، بل التركيزَ حصرًا على الحقّ الوحيد الذي رامت الدفاع عنه… فمُهمّتها، إذن، خدمة ذلك الحق الوحيد بالتحديد، من دون سواه، بشكل دائم وبلا توانٍ ولا تردّد. وإنّ الدعاية السياسية لا تحتمل تعـدّد المواقف؛ فهي تطلِـق حُكمًا على شيء إمّا بأنه “سلبيٌّ” وإمّا “إيجابيٌّ”، وإمّا أن تروّج للحبّ أو للبُغض، وإمّا أن تصف شيئًا ما بأنه “صائب” أو “خاطئ”، أو “حقيقة” أو “كذِب”… فهي صارمة لا تهادِن ولا تستقـرّ بأنصاف الحلول.
إنّ الأسلوب البروباغاندي الألمعيّ هو ذاك الذي يحصر توجّهه في نقاط قليلة ويكرّرها مَرّة بعد أخرى. فعنصر “الإصرار” هو أوّل وأهمّ ضرورات النجاح في توجيه الجماهير. ومع كون هدف الدعاية السياسية هو إقناع الجماهير، فإنّ هذه الجماهير بطيئة الفَهم، ثقيلة الحركة، ولا تلحظ بسرعةٍ الأشياءَ الجديدة المطروحة. لذا، فإنّ الجماهير لا تميل إلى تذكّر أبسط الأفكار العقيدية، إلّا بعد تكرار هذه الأفكار آلافَ المرّات.
وإنّ الجماهير العريضة هي عُـرضة لتصديق كذبة كبيرة (موضوعها ذو شأن كبير) منها إلى تصديق كذبة صغيرة؛ لأنّ أفراد هذه الجماهير يكذبون غالبًا في الأمور البسيطة، ويشعرون بالخزي أن يكذبوا في أمور ذات شأن كبير؛ لذا يستبعدون أن تطالَهم جهةٌ (سياسية) ما بكذبة في شأن كبير. فإذا عَـرَضَت لهم كذبة كبيرة، صدَّقوها، فحتى لو تـمّ تنويرهم بعدها حيالَ كونها كذبة لا حقيقة، فإنّهم سيظلّون متردّدين في الإذعان للمعلومة التنويرية (الكاشفة للحقيقة)، وسيستمرون في تصديق الكذبة التي تلقّوها على أنها حقيقة.
والناس، إلى ذلك، نَسَوِيُّو الطبيعة والسليقة والسلوك عمومًا؛ فلا تحدِّد العقلانيةُ منحى تفكيرِهم وتصرّفاتِهم كمِثـل ما تفعل العاطفة والمشاعـر.
السُّـذَّج.. الشريحة الجماهيرية الأوسع
تصف الدوائرُ الإعلامية مجالَ الإعلام بأنه “قـوّة عظيمة” في الدولة. وإنّ أهمية الإعلام كبيرة فعلًا؛ فهو يُكمِل دورَ التعليم والتثـقيف لأفراد المجتمع حتى وهُم في عُمُرٍ متقــدّم. ويمكن تقسيم جمهور الإعلام إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى تشمل أولئك الذين يصدّقون كل ما يتـلقَّونه، والثانية تشمل الذين اتخذوا قرارًا بألّا يصدّقوا شيئًا مما يتـلقّونه، والثالثة تشمل ذوي العقول التي تفحص بدقّةٍ ما يتـلقَّونه ثـمّ يطلقون أحكامهم عليه على أساس الفحص.
عدديًّا؛ “المجموعة الأولى” هي الأكبر، بشوط كبير، من الثانية والثالثة. وهي تشمل الحيّز الواسع من جمهور الشعب، وتمثّـل السُّـذَّجَ من أفراد البلد. وهؤلاء السذج ليس في استطاعتهم، ولا في نيّتهم، فحصُ ما يُطرح لهم في منصّة الإعلام؛ وبالتالي، فإنّ كلّ ردود أفعالهم تجاه المشاكل اليومية، يمكن حصرها في التأثير الخارجيّ (للجهات الموجِّهة لتفكيرهم) عليهم. وقد يكون هذا الحال إيجابيًّا إذا ما كان تنويرُهم، عبر الإعلام، آتـيًا من قِبل حزب سياسيّ رصين وساعٍ إلى الحقّ، لكنّه يكون كارثيًّا إذا ما كان الحزب الموجِّه لآرائهم تـديره طغمة فاسدة وكاذبة وخدّاعة.
في عملية اقتراع الجماهير أثناء الانتخابات، تحدّد الفئة الأوسع من الشعب (وهي “المجموعة الأولى”، الساذجة والمنقادة لكلّ ما يُطرح لها) مَن سيكون الفائز. وإنه من جزيل الأهمية والضرورة، بالنسبة إلى الدولة، منع الجهات المرشَّحة التضليليّة والمخادِعة، من الإيقاع بهذه الأغلبية الساذجة من أفراد الشعب. لذا؛ على الدولة أن تفرض رقابة مشدَّدة على وسائل الإعلام (ذات التأثير الأعمق والأقوى على هؤلاء السذج)، لكونها تبثّ المادة الاتصاليّة، التي قد تكون مضلِّلة، بشكل مستمرّ وراسخ. فبالرسوخ والدائميّة هذَينِ، يستأثر الإعلام بالقوّة الهائلة التي يَشتهر بها.
وعلى الدولة ألّا تنسى أنّ جميع الوسائل والأدوات إنما هي لخدمة هدف ما، وعليها ألّا ترتبك أمام مبدأ “حرّيّة الإعلام” فتتجاهلَ تطبيق واجبها تجاه سلامة أفراد الشعب. إذن؛ على الجهة الحاكمة أن تضمن بشكل حاسم ألّا تفلت أداةُ الإعلام، المثـقِّفة والموجِّهة للمجتمع، من حيّز سيطرةِ الدولة وخدمةِ أهداف الحُكم.
لكن في الواقع؛ قد تكون الدولة عينُها هي الطرفَ الذي يضلّل أفراد المجتمع بالوسيلة البروباغاندية!… ففي حالة يكون فيها تنفيذُ مهمّة غير حميدة هو المطلوبَ، تلجأ الجهة الموجِّهة (الدولة الحاكمة) لمزاج أفراد الشعب، إلى تركيز اهتمامهم على مسألة واحدة تُصَوِّرُها على أنها الفيصل بين الحياة والموت.. ومثال ذلك تركيزُ الإدارة الأميركية (التي ترأسّها جورج بوش-الإبن، التابع للحزب الجمهوريّ في الولايات المتحدة، في فترة مضت) لاهتمام الشعب الأميركيّ على مسألة وجود أسلحة دمار شامل في العراق (في فترة الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدّام حسين) التي زُعِم أنّها تهدّد السِّـلم والأمن العالميّين.. وكان ذلك، فعليًّا، تبريرًا لغزو العراق، وبسط وتعزيز النفوذ الأميركي في “الشرق الأوسط”.. وقد تأكّد، في ما بعد، أنّ زعم وجود هذه الأسلحة كان مجرّد خدعة بروباغاندية مارستها الإدارة الأميركية التي كان يقودها الجمهوريّون!.
(الميادين)
This post is also available in: English (الإنجليزية)