الوصف
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الوعي الأسطوري الرافدي: تجلياته الفلسفية للكاتب عبد الباسط سيدا، وهو كتاب يشتمل على 416 صفحة، ويتضمن قائمة ببليوغرافية وفهرسًا.
الكتاب هو جهد بحثي يبيّن الوقائع والقرائن التي تتناول طبيعة إسهام الفكر الشرقي وحدوده عمومًا، والرافدي تحديدًا، في الفعل الفلسفي النظري اليوناني اللاحق. ويتلمّس الجوانب التي حالت دون تبلور معالم الفعل المعني في بلاد ما بين النهرين، على الرغم من الإنجازات الكبرى التي حققها على مختلف الصعد والمستويات، وفق معايير العهود التاريخية التي تحدد الإطار الزمني للبحث موضوعًا لهذا الكتاب.
تنبثق مشروعية هذا البحث من أنّ الوعي الأسطوري هو أحد الموضوعات التي تثير الاهتمام والاختلاف في الوقت ذاته؛ فهو ينتمي إلى مرحلة ذهنية موغلة في القدم، سبقت ظهور الفلسفة، وشهدت التأملات الإنسانية الأولى، وهو وعي يثير عادةً رغبة الإنسان المعاصر في الوقوف على أبرز ملامح الجهود الذهنية التي أراد أسلافه – أصحاب الأسطورة – من خلالها تحصيل قدر من الوعي، للإجابة عن الأسئلة التي كانت تقلق تفكيرهم، ولتحقيق نوع من التوفيق بين الضرورات الحياتية، والغموض الذي كان يخيّم على آلية القوى الكونية الفاعلة.
ما الأسطورة؟
شكّلت المادة الأسطورية مقدمة أولية تَعامَل معها التاريخ من موقع تحليلي نقدي، لكنه لم يتمكّن دائمًا من الوصول إلى درجة التجرّد التام، والتحرّر الكامل من سائر المؤثرات الأسطورية، إلا أن هذا ليس معناه أن الأسطورة كانت تمثل جهدًا تاريخيًّا صرفًا، لأنها في الواقع جسّدت على الدوام نظرة المجتمع إلى العالم، ولم يكن اهتمامها بمجمل الأحداث إلا في سياق ما كانت تحتاج إليه، لتتمكن من تقديم موقف يحظى بالقبول والاحترام، في إطار هالة من التقدير الخاص الذي كان يصل أحيانًا إلى حد القداسة التي بلغت ذروتها، بعد أن تبنّى الدين الأسطورة، واتخذها أداة رئيسة يعوّل عليها في تصوراته وترسيخ أسس هيبته.
الأسطورة في جانب منها هي لغة تعبّر عن توجه ما في سياق تاريخي – اجتماعي محدد. ودور اللغة في ميدان الأسطورة لا يقتصر على الشكل، وإنما يتجاوزه إلى المضمون أيضًا، بل يمكن القول إن المضمون يمثّل المركز الرئيس الذي يتمحور حوله الجهد اللغوي في نطاق الأسطورة. وربما يجد هذا الأمر دلالته في إمكانية ترجمة الأسطورة إلى لغات عدة، من دون أن تفقد حيويتها وقدرتها على إثارة الألباب والأفئدة في الوقت ذاته، وذلك على خلاف الشعر، الذي يتعرض عبر الترجمة إلى الكثير من التحوير والتشويه.
الأسطورة، هي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، يجسد نظرة المجتمعات القديمة إلى العالم الذي يشمل الكون والمجتمع والعلاقة القائمة بينهما في صيغة رمزية شاعرية. وهي بهذا المعنى تُعتبر لحظة ذهنية أثار الإنسان من خلالها أسئلة كبرى، خص بها الكون كلّه وموقعه منه، وأراد أن يصل من خلالها أيضًا إلى تصورات معيّنة بشأن المعرفة الإنسانية، والخلود، والقيم، والموجودات، وغير ذلك من الموضوعات التي بدأ اهتمام الإنسان ينصبّ عليها بعد أن قطع شوطًا على طريق تعزيز استقلاله النسبي تجاه الطبيعة، في حين كان هدف السحر الأول هو تلبية الحاجات الإنسانية المباشرة، عبر اعتماد أدوات مختلفة (طقوس، تعاويذ، أجزاء من موضوع السحر نفسه … إلخ).
الوعي الأسطوري السومري
لا تقتصر دلالة الوعي الأسطوري السومري على النصوص الأسطورية، وهي النصوص التي تمثّل مجمل النتاج الأسطوري السومري الذي يتحدد، بدوره، من خلال التعريف الذي رأى أنه يميز الأسطورة من الأنساق الأخرى الشبيهة بها أو المتداخلة معها؛ ذلك أنّ مصطلح “الوعي الأسطوري السومري” نفسه يشير إلى الذهنية التي كانت تفسر كل المسائل على الصعيد الفكري والروحي عمومًا في المجتمع السومري، انطلاقًا من إقرارها بفكرة وجود عالمين: الأول ماورائي فاعل، ومهيمن، يمتلك القدرة على ممارسة أفعال الخلق والتنظيم والتدمير الكونية. في حين أنّ الثاني إنساني، يتكئ على العالم الأول في مسعاه ويخضع لما هو مفروض عليه من قبله. ثمّ إن موقعه من الأحداث الكونية يقتصر عمومًا – إلا في ما ندر بموجب آفاق الوعي الأسطوري المعني هنا – على الانفعال والتلقي، إضافة إلى الالتزام بإرادة القوى الكونية ممثلة بالآلهة المختلفة، وتنفيذ رغباتها. ومن الواضح أن هذا التحديد للوعي الأسطوري السومري يلامس، بكل وضوح، حدود النمط الديني الذي وجدنا أنه يمثل نسقًا من أنساق الوعي الأسطوري عمومًا. إلا أن الملامسة هنا لا تعني تطابقًا؛ لأن الوعي الأسطوري السومري لم يكن دينيًّا بحتًا، بل تضمّن عناصر من النمطين الطبيعي والسياسي، على الرغم من عدم إمكانية تجاهل هيمنة النمط الديني عليها.
السلطة والوعي الأسطوري
مثّل الوعي الأسطوري في صيغته الدينية محور اهتمام السلطة السياسية المركزية البابلية والآشورية التي كانت تسعى جاهدة لتكريس هيمنتها وتوسيع نطاق نفوذها. وعلى الرغم من أن هذه السلطة انصرفت في المقام الأول إلى الأمور الدنيوية، فإنها في سعيها لإيجاد المسوغات الكافية لعقيدتها السياسية لم تتمكن من تجاوز دائرة المفاهيم الأساسية التي شكّلت قوام العقيدة الدينية، وذلك لأسباب عدة أهمها: قدرة تلك المفاهيم الإقناعية، فضلًا عن طابعها المقدس الذي يكرّس السلطة، ويستوجب احترامها في الوقت ذاته، إلى جانب انعدام البديل الذي يبدو أن المقدمات الممهدة له لم تكن مهيَّأة بعدُ؛ فقد ظلت نظرية الأصل الإلهي للحكم هي القاعدة المعتمدة في تسويغ مشروعية سلطة العاهل. واستمر الملوك في ادعائهم أن الآلهة هي التي قد اختارتهم لحكم البلاد.
إن الملوك الآشوريين التزموا التسامح الديني إزاء معابد الآلهة الأخرى، على الرغم من كونهم كهنة الإله آشور الذي كان يعتبر الإله الأقوى والأرفع من بين سائر الآلهة الأخرى. وعلى الرغم من أن هذا التسامح لم يكن ينسجم تمامًا مع النزعة العسكرية التي تنامت في ظل الدولة الآشورية، فإنه كان يُعد من الوسائل التي لم يكن في المستطاع الاستغناء عنها؛ نظرًا إلى إسهامه الكبير في أي سعي يبتغي استمالة مواطني الدولة من أتباع الآلهة الأخرى، وكسب ودّهم، خصوصًا أن الدولة الآشورية كانت تعاني مشكلة مستعصية قوامها الرغبة الجارفة في توسيع النطاق من جهة، وصعوبة تأمين العنصر البشري المتجانس القادر على حماية الانتصارات من جهة ثانية.
أما في المرحلة البابلية، خصوصًا في عهد حمورابي، فيُلاحظ أن الموقف التسامحي كان أكثر رسوخًا، لأنه كان يستجيب لتوجهات الدولة التنظيمية، ورغبتها في إرساء قواعد الاستقرار الذي كان ضروريًّا بالنسبة إلى أيّ توجه يهدف إلى تحقيق نوع من الازدهار الاقتصادي في ظل نظام مركزية الدولة.
حدود التقاطع بين الوعي الأسطوري الرافدي والفعل الفلسفي النظري
لم يتمكن الوعي الأسطوري الرافدي، بوجه عامّ، من تجاوز حالة التلامس والتداخل بينه وبين واقعه، على الرغم من أنه استطاع في حدود نقاط معينة بلوغ مستوى التفاصل النسبي تجاهه. لكن هذا التفاصل لم يكن يمتلك من المقومات ما يمكّننا من تأكيد بلوغه مستوى الاتجاه العام المهيمن، وتفسير هذه الحالة لا يتم إلا من خلال متابعة العوامل التي حالت دون بلوغ الوعي الرافدي مستوى ممارسة الفعل الفلسفي النظري.
تميّز الوعي الأسطوري الرافدي بآفاقه المحدودة، فقد كان يدعو إلى التعامل مع المعطيات القائمة، وكأنها الخيارات الوحيدة التي لا بد من الركون إليها، والأخذ بها من موقع صدقيتها المطلقة غير القابلة للنقاش؛ فالآلهة هي التي أرادت، وهي التي تهيمن على جميع الأحداث الكونية والإنسانية. ويبدو أن هذا النزوع كان ينسجم، عمومًا، مع الوضعية الاجتماعية القائمة، وتوجهات السلطة المهيمنة ببعديها الديني والسياسي. إلا أن هذا الانسجام كان يخترق أحيانًا ببعض التأملات الذهنية التي كان مردها تفاعلات الوضعية الاجتماعية نفسها، وتبلور استيعاب حقيقة التفاوت الاجتماعي والنتائج المترتبة عليه، إضافة إلى التراكم المعرفي، والخبرة الحياتية اللذين كان يجري تحصيلهما من جانب سائر القوى الاجتماعية الفاعلة الرافدية. لم تتمكن عملية الاختراق هذه، على الرغم من أهميتها الفائقة، من بلوغ مستوى إحداث خلخلة كبرى في البنية الذهنية العامة، ليتسنى لها – بفعل ذلك – شق طريقها بثبات نحو الفعل الفلسفي النظري، وهو الفعل الذي شكّل الوعي الأسطوري بوصفه مقدمةً مهمّة من مقدماته.
المؤلف
باحث سوري من مواليد عامودا في عام 1956. حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة دمشق في عام 1991. له مساهمات منشورة في مجلات عربية عدة منها: “الفكر العربي”، و”الطريق”، و”الناقد”، و”قلمون”، فضلًا عن مقالات رأي في عدد من الصحف العربية منها: “السياسة الكويتية” و”العربي الجديد” و”القدس العربي”. تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في السويد، وشارك في مؤتمرات علمية في ميدان الاختصاص، وفي ندوات ولقاءات حول الموضوعين السوري والكردي. له العديد من الكتب والأبحاث المنشورة منها: موضوعات كردية سورية (عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)؛ والوضعية المنطقية والتراث العربي: فكر زكي نجيب محمود نموذجًا؛ وذهنية التغييب والتزييف: الإعلام العربي نموذجًا؛ وبلاد الرافدين: أرض الأسطورة والحضارة؛ والمسألة الكردية في سورية: فصول منسية من معاناة مستمرة. يعمل حاليًا في التدريس في السويد، ويتابع البحث في ميدان الاختصاص.