الوصف
بؤس الدهرانية – النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
في غيبة الإبداع، ألقى الفكر “الحداثي” الغربي بظلاله الغريبة على الفضاء الفكري العربي، وراحت جموع المثقفين العرب تتعاطى سلبًا مع هذه “الموجات الحداثية”، فاستسلمت لها، ولم تفكر في مسلّماتها المُدعاة، مستخدمةً مناهجها ونظرياتها وأدواتها التي لا تتناسب وقيم المجتمع العربي المسلم.
وهذه الموجات الحداثية أنشأت جيلًا من المُقلّدين الذين انقطعوا عن التراث العربي الإسلامي الأصيل، وأفسحوا المجال لهذا السيل من الأفكار الحداثية التي حاولت “تقزيم” ما دونها من أفكار، بحيث تكون هي – وحدها- “القدوة، والمثل، والمرجع”.
وفي كتابه “بؤس الدهرانية – النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين”، يواصل الأكاديمي المغربي الدكتور طه عبد الرحمن مهمته في “تشريح الحداثة”، مبيّنا تهافت أفكارها، ومخاطر تقليدها بشكل أعمى لا يبصر سلبياتها، كما يواصل المؤلف مشروعه الفكري لتأسيس حداثة إسلامية قائمة على الإبداع ومستمدة من قيم التراث الأصيل.
وفي مقدمة الكتاب، يرى عبد الرحمن أن “آلية تفريق المجموع، أو آلية فصل المتصل، من أبرز الآليات التي توسلت بها الحداثة في إقامة مشروعها الدنيوي، حيث فصلت العلم عن الدين، وفصلت عنه الفن والقانون، كما فصلت السياسة والأخلاق”، لكن أشد هذه الآليات خطرًا كما يقول المؤلف هي “فصل الأخلاق عن الدين”.
ويؤكد الفيلسوف العلاّمة أن “فصل الأخلاق عن الدين قد انعكس بشدة على صلة الأخلاق بالإيمان، فضلاً عن صلة الدين بالإيمان، كما فتح الطريق لأن يدعي بعض المعاصرين أحوالاً شعورية وأنماطاً سلوكية غير مسبوقة، تُصادم الوجدان بقدر مُصادمتها للعقل، مثل الاتصاف بأخلاقية بلا ألوهية، والتمتع بروحانيات بلا إله”!
“الدهرانية أخت العلمانية”
إن فصل الأخلاق عن الدين – من وجهة عبد الرحمن- ينزع عن الأخلاق لباسها الروحي، ويكسوها لباساً زمنيًا وبهذا تكون “الدهرانية أختًا للعلمانية” بفتح العين ولـ”العلمانية” بكسرها أيضاً، وفي مقاربته لـ”الدهرانية” يوضح عبد الرحمن أنه اختار منهج أسماه “النقد الائتماني”.
في الفصل الأول، من الكتاب الذي يضم سبعة فصول، يبيّن المؤلف أن هذه الفلسفة “الائتمانية” مبنية على العقل المُؤَيد، مُتقية بذلك مفاسد العقل المجرّد، وعوائق العقل المسدد، وهي ليست مثل الفلسفة “الدهرانية” التي تتوسل بالعقل المجرّد، ما أوقعها في شبهات الانقلاب والانتكاس.
وبناء على المبادئ العقلية الثلاثة، “مبدأ الشهادة”، و”مبدأ الأمانة”، و”مبدأ التزكية”، يتبيّن لفيلسوفنا أن الفلسفة الائتمانية تستمد عقلانية التأييد من النصوص المؤسسة للتراث الإسلامي، متضمنة لفلسفات ثلاث، هي فلسفة الشهادة، وفلسفة الأمانة، وفلسفة التزكية، لذلك كانت جديرة بأن توصف بأنها “فلسفة إسلامية حقة” أو “فلسفة إسلامية خالصة”.
ويدللّ عبد الرحمن على دعوى “الفصل الدهراني”، أي فصل الأخلاق عن الدين، موضحا أن “هذا الفصل اتخذ أربع صيغ مختلفة وهي الصيغة الطبيعية، والصيغة النقدية، والصيغة الاجتماعية، والصيغة الناسوتية”. وقد اختصت كل صيغة من هذه الصيغ- وفق المؤلف- بطريقة معينة في التعامل مع المسلّمتين النقديتين، وهما مسلّمة التبدّل الديني، التي تميّز بين الصورة الفطرية والصورة الوقتية للدين، ومسلّمة “التخلّق المزدوج” التي تميّز بين أخلاق الباطن وأخلاق الظاهر.
وهذه الصيغ الأربع اتفقت على الاعتراض على المسلّمة النقدية الثالثة التي تقضي بـ”الآمرية الإلهية”، فكلها ترد هذه الآمرية وتنكرها، مُتخذة من “الآمرية الآدمية” بديلاً عنها، وإن اختلفت مضامين هذه الآمرية الآدمية باختلاف هذه الصيغ، فالصيغة الطبيعية نسبت الآمرية إلى الضمير، والصيغة النقدية أسندتها إلى الإرادة البشرية، أما الصيغة الاجتماعية فنسبتها إلى المجتمع، وأسندتها الصيغة الناسوتية أسندتها “الإنسان الإله”.
ويواصل عبد الرحمن نقده للمشروع الحداثي الغربي، فيؤكد في الفصل الثاني من الكتاب أن “هذا الإنكار للآمرية الإلهية المشترك بين هذه الصيغ الأخلاقية الأربع مرده إلى سبب رئيس واحد، وهو الجهل بالقدر الإلهي، ويتمثل هذا الجهل في تصورات فاسدة عن علاقة الإله بالإنسان تنم عن بؤس فكري فاحش في الأنموذج الدهراني”.
ويُحصي الكاتب ذلك في تصورات أربعة، وهي التصور الخارجي، والتصور التجزيئي، والتصور التسيّدي، والتصور التجسيدي. وبالنسبة للتصور الخارجي، فقد ساد الاعتقاد لدى “الدهرانيين” أن علاقة الإله بالإنسان إنما هي علاقة ذات خارجية عليا بالذات الإنسانية.
ومثل هذه العلاقة الخارجية، حسب المؤلف، لا يمكن إلا أن تكون علاقة تسلط قاهر، وإلا فلا أقل من أنها علاقة تدخل سافر، بينما توجب “الحداثة” أن يستقل الإنسان عن كل ذات خارجية، متسلطة كانت أو متدخلة، حتى يدرك رشده ويجد هديه. لكن فيلسوفنا يؤكد أنه لو سلّم بكون الذات الإلهية عليّة فإنه لا يسلم بأنها ذات خارجية، وذلك لعدد من الاعتبارات.
وأول هذه الاعتبارات أن مقولتي “الخارج والداخل” مقولتان مكانيتان يتنزه عنهما الوجود الإلهي، والثاني أن الخارج لا يقترن بالضرورة بالقهر أو التسلط، فليس كل شيء “خارج عن الذات الإنسانية” من شأنه أن يتسلط عليها.
وكذلك فإن الأصل في صلة الإله بالإنسان أنه خيّره، إن شاء ائتمر بأمره وانتهى بنهيه، وإن شاء لم يأتمر ولم ينته، وأن الوصف الوجودي اللائق بالإله ليس “الخارجية” وإنما هو “المعيّة”، والوصف الخلقي اللائق بالإله – سبحانه وتعالى عن الصفات- ليس التسلط وإنما هو الرحمة.
وبالنسبة للتصور التجزيئي لعلاقة الإله بالإنسان، يرى عبد الرحمن أن “الدهرانيين” متى تعرضوا لبعض الصفات الإلهية فإنهم لا يقدرون مضامينها الصريحة حق قدرها، أو يتجاهلون ما يترتب عليها من اللوازم والأحكام، مؤكدًا أن بؤس التصور التجزيئي لعلاقة الإله بالإنسان تجلى في تضييق الأفق القيمي للبشر، وترك التعظيم للذات الإلهية.
أما التصور “التسيّدي” لعلاقة الإله بالإنسان، فهو ذلك التصور الذي يجعل نسبة الأشياء إلى الذات صفة مشتركة بين الإله والإنسان، بحيث يملك الإنسان ويسود كما يملك الإله ويسو. ويبدو أن “الدهراني” يتخذ في هذا الصدد من علاقة الملكية هذه أساسا يبني عليه أخلاقه الدنيوية، فهي تربى الإنسان على أن يكون سيد نفسه وهكذا فإن بؤس التصور التسيدي لعلاقة الإنسان بالإله يقوم في منازعة الإله في ربوبيته، ومنازعته في تدبيره.
ويصل الكاتب إلى التصور الرابع، وهو “التصور التجسدي” لعلاقة الإله بالإنسان، موضحا أن هذا التصور قد هيمن أكثر من غيره على مجمل الفكر الغربي، نافذًا إلى التصورات الأخرى لهذه العلاقة، وإلى بؤس هذا التصور الذي يقوم على تشبيه الإنسان بذات الإله تأنيساً وتأليهاً له، وعلى الاشتراك في الخلق استئنافًا وتتميمًا.
نموذج غير دهراني
في الفصل الثالث من الكتاب، يؤكد عبدالرحمن ضرورة أن يكون هناك نموذج غير دهراني يقول بالآمرية الإلهية، ويُبنى على تصور لعلاقة الإله بالإنسان، بحيث يكون معارضًا للتصورات الدهرانية. وقد أطلق المؤلف على هذا النموذج اسم “الأنموذج الائتماني”.
وهذا “النموذج الائتماني” يُبنى على خمس مبادئ، كل مبدأ منها يعارض خاصية من خصائص التصورات الدهرانية أولها “الشاهدية”، ومقتضى هذا المبدأ الائتماني أن الشاهدية الإلهية هي أصل التخلق، والثاني هو مبدأ “الآياتية”، ومقتضاه أن اتصال الدين بالعالم عبارة عن “اتصال آيات لا اتصال ظواهر”.
أما المبدأ الثالث فهو “الإيداعية”، ومقتضى هذا المبدأ أن الأشياء هي ودائع عند الإنسان. وأما المبدأ الرابع، فهو مبدأ “الفطرية”، ومقتضاه أن الأخلاق مأخوذة من الفطرة الإنسانية، وينهي فيلسوفنا حديثه في هذا السياق بالمبدأ الخامس، وهو مبدأ “الجمعية” الذي يقضي بأن “الدين بجمعيته أخلاق”.
وينتقل عبد الرحمن إلى الفصل الرابع من الكتاب، مؤكدًا أنه إذا “كانت العلمانية قد ظلمت وجود الإنسان فإن الدهرانية أضافت إلى هذا الظلم ظلماً أشد، لأنها ظلمت ماهية الإنسان نفسها، فنزل عن رتبته نزولاً بعيدًا”.
ويشدد فيلسوفنا على أن البواعث التي دعت المفكرين “الدهرانيين” إلى عزل الأخلاق عن الدين هي التذمر من خصوص الدين التاريخي، ناهيك عن التذمر من عموم الدين، ومن ثم اللجوء إلى “العقلنة”. وقد أفضت جميعها إلى إلغاء الدين المُنّزل، واستبداله بدين دهري اتخذ صورة أخلاق عقلية مستقلة، وبذلك ظلم هؤلاء الماهية الدينية للإنسان من حيث أنهم أنزلوها من رتبة العقلانية التسديدية إلى رتبة العقلنة التجريدية.
ووفق الكاتب، يقوم الظلم الثاني للمفكرين الدهرانيين، وهو ظلم الأخلاق، في كون أحد مآلات عزلهم الأخلاق عن الدين هو إلغاء الأخلاق ذاتها، وذلك لأن تصورهم للأخلاق يُبنى على مسلمات أربع، أولها أن الالتزام لا يكون إلا بأخلاق من نوع واحد لا أكثر، والثانية أنه لا عبادة في الأخلاق، والثالثة أنه لا حاجة إلى الشهادة في الأخلاق، والرابعة أن هناك فرقاً بين الأخلاق والروح.
ويتأكد للعلامة المغربي بطلان هذه المسلّمات الدهرية، مستخلصاً أن “هذه الأخلاق الدهرية التي وضعها هؤلاء المفكرين، عبارة عن أخلاق ذاتية، لا تنفع الإنسان في خاصيته الإنسانية، وكذلك لا تنفعه في خاصيته الروحية”.
وينتقل عبد الرحمن إلى الباب الثاني من كتابه، والذي خصصه لكشف تهافت أفكار مفكري الحداثة، مؤكدًا في هذا الفصل أن الروحانيات التي يأخذ بها هؤلاء المفكرين هي عبارة عن روحانيات التسيّد، وهي روحانيات نفسية قائمة على مبدأ النسبة”.
والمثقف المقلّد حين يأخذ بهذه الروحانيات – من وجهة عبد الرحمن- يتبّع أشدهم غلواً في الدعوة إليها، ومتى وُجد بينهم من يجعل هذه الروحانيات قائمة في الانفتاح على المطلق، واللامتناهي، والخلود، فسيتخيّر المُقلّد من هذه القيم ما قد تتصف به المخلوقات، ويُسقط الباقي.
ويوضح الفيلسوف أن الذي يأخذ بهذه الروحانيات الحداثية فإنما يأخذ بالذي هو أدنى أو أفقر، مؤكدًا أن الروحانيات الائتمانية التي تتأسس على التزكية تعلوها درجات، فهي تقوم أصلا على مبدأ الفطرة الذي يفتح الإنسان على أرحب وجود، لذلك فإن المُقلّد يؤثر “البؤس الروحي” لنفسه على الثراء الروحي الذي تورثه هذه الروحانيات العليا.
ولمّا كان المُقلّد يعاني بؤساً فكرياً غير مسبوق، فليس غريباً إذاً أن ينساق إلى إسقاط هذا البؤس على تراث الأمة بأكملها، كما يقول عبد الرحمن في الفصل السادس، مشيرا إلى أنه “يمحو من أفق تفكيره وجود ثراء أخلاقي وروحي فيه”.
إن روحيات الائتمان – كما يقول الفيسوف- تورث أفضل القيم لأنها تستمد قيمها من أثرى منابع الدين، وهي خاتمية الدين، وأحسنية الأسماء، والعظمة الخلقية. ولمّا كانت هذه الروحانيات بهذين الوصفين، فإن من شأن الأخذ بها توريث أفضل القيم المثلى والأصول الأولى، التي تتحدد بها أكمل إنسانية، جاعلة “الائتماني” قادراً على أن يصنع التاريخ، ويدّبر الحياة على أكمل وجه ممكن.
وينهي طه عبد الرحمن كتابه بالفصل السابع، الذي يؤكد فيه أن “روحيات التسيّد التي يقلد فيها المثقف غيره من مفكري الحداثة، لن تورثه إلا عقلاً مقلوباً أو منكوساً، والعقل الذي يكون بهذا الوصف هو عقل ميؤوس منه، فلا هو قادر على دفع آفات المجتمع، ولا هو يستطيع أن يقي أبناء هذا المجتمع من عثرات التاريخ”.
ويخلص فيلسوفنا إلى أنه ما من سبيل إلى دفع الآفات المجتمعية والعثرات التاريخية، إلا بإنشاء إنسان جديد، ينبذ التقليد نبذاً كلياً، لأن هذا الإنسان هو وحده الذي يكون قد تعاطى مُناضلة نفسه، حتى استرجع فطرته الأولى، واستعد لحمل الأمانة الإلهية الكبرى.
بؤس الدهرانية – النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
لمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية