الوصف
مقدمة الكتاب:
هذه مجموعة من التجارب الفلسفية التي عِشتها خلال العشرين سنةً الماضية، أحاول اليوم أن أضمَّها بين دفَّتَي كتاب بعد أن كانت مشتَّتة في كثيرٍ من المجلات الثقافية في القاهرة والكويت.
وما دمتُ قد أطلقت عليها صفة التجارب أو الخبرات، فليس لهذا الوصف من معنًى سوى أنها نابعة من الحياة نفسها كما نعيشها ونُكابِدها كل يوم، ومِن بحثنا عن المعنى الكامن في علاقاتنا بمن حولنا من الناس، وبالحياة والعالم والوجود في مجموعه، وبالرؤية الشاملة التي كوَّناها أو ما زلنا بصدَد تكوينها، لكي يُصبح لنا موقف أو دور نؤديه في العالم وفي المجتمع الذي نعيش فيه، ونحاول مع غيرنا أن نُنقِذه من أوجه الفساد والتدهور والانهيار التي تتهدَّده في كل لحظة؛ نتيجةً للنظرة الضيِّقة إلى الحياة نفسها، وانحصار تجاربنا الضحلة فيها على قِيم — أو بالأحرى لا قِيم! — المنفعة والمصلحة، بعيدًا عن معايشة الأسرار والأعماق والمنابع الحقيقية للحياة في ثرائها وقيمتها، التي لا تعلو عليها قيمة سوى الحياة ذاتها التي هي القيمة والحقيقة الكبرى والنهائية.
لا شك عندي في أن القارئ قد فطن من الكلام السابق إلى أن التجارب التي أشرتُ إليها وشيجة القُرب من تيار فلسفي ازدهر منذ عشرينيات القرن الماضي حتى أربعينياته، وذلك بفضل فيلسوفَين كبيرين هما دلتاي (١٨٣٣–١٩١١م) الألماني وبرجسون (١٨٥٩–١٩٤١م) الفرنسي، وبعض المُعاصرين لهما مثل زيميل وكلاجيس وكيزرلبنج وفرويد وهانز دريش وغيرهم، على الرغم من أن تاريخها بعيد الجذور في الفلسفة والأدب الغربي بدءًا من أنبادوقليس وبعض الرواقيِّين، حتى بعض خصوم عقلانية عصر التنوير المتطرِّفة، مثل هامان وهيردر وجوته الذي لم يتوقَّف في إنتاجه الأدبي كله عن الدعوة إلى الاندماج والتوحُّد مع الكل الحي، ومشاركة الفاعل الأبدي الخلَّاق في فعل الخلق والإبداع، ثم بعض فلاسفة الحركة الرومانسية والمثالية الألمانية — مثل شيلنج وشلاير ماخر حتى شوبنهور ونيتشه وعدد من الأخلاقيِّين وفلاسفة الوجود أو الوجوديِّين الذين تأثَّروا بغير شك بفلسفة الحياة ومناهجها القائمة على الفهم أو التفهُّم — لسَبرِ أغوار الحياة وتبيُّن معناها والغاية منها من ناحية، وللبحث في العلوم الإنسانية أو علوم الروح عن طريق هذا الفَهم المزوَّد بالتعاطف الوجداني، والبصيرة الكاشفة، والذوق اللمَّاح والحَدس — أو العيان — المباشر الذي يمكِّننا — على حدِّ تعبير برجسون — من التوصُّل إلى ما هو فريد ونسيج وحده في الإنسان وفي الظواهر التاريخية والاجتماعية والأدبية والفنية التي تحاول أن تصل إلى مضامينها العقلية والروحية؛ وذلك تمييزًا له عن منهج التفسير أو التعليل الخاص بالعلوم الطبيعية والمادية.
وقد كان من الطبيعي أن يتعرَّض هذا المنهج الحدسي للنقد الشديد من عددٍ كبير من العلماء البارزين في العلوم الإنسانية نفسها، مثل ماكس فيبر وريكمان — الذي قدَّم فلسفة دلتاي للعالم الناطق بالإنجليزية — وهابرماس (الذي يقف اليوم على رأس فلاسفة الحداثة والتنوير والحوار والتواصل مع النزعة النقدية الاجتماعية التي أخذها عن مدرسة فرانكفورت النقدية)؛ إذ حاول هؤلاء العلماء أن يُضفوا الصبغة العلمية الدقيقة على منهج الفهم أو التفهُّم؛١ حتى لا يسقط في الذاتية والنسبة، أو في النزعة الصُّوفية والشعرية الخالصة لدى تعمُّق معاني التجارب الإنسانية عبر العصور، ومُحاولة تكرارها أو معيشتها واستعادتها مرة أخرى (كما يفعل المؤرِّخ والروائي!) وذلك من خلال بعض الخطوات والإجراءات التي تسير عليها العلوم الطبيعية والتجريبية بعد أن يتمَّ تطويعها للتطبيق على علوم الروح، أي العلوم الإنسانية، مثل الملاحظة وفرض الفروض والتحقق منها والقياس الإحصائي والاستقرائي؛ وبذلك لا يكتفي الباحث في العلوم الإنسانية بالفهم الغامض والحدس والتعاطف والحب والمعرفة النابعة منه ومن القلب، بل تخلع عليها الطابع العلمي والتعميمي المُقنِع.