الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
يعود المفكر والأكاديميّ اللبناني أحمد بيضون قرّاءه بغير لغة الضّاد التي أثرت عنه نصاعته فيها، يعودهم فرانكوفونياً بل كاتباً متيناً بلغة فرنسية، لا تقلّ رفعةً وجمالاً عن لغته العربية الأصيلة، وذلك في كتاب جديد صادر له بالفرنسية، عن دار لوريان دي ليفر وأكت سود ، بعنوان: “تحريرات العرب المعطّلة”. والكتاب كناية عن مقالات وأبحاث وكلمات كان الكاتب قد “Libérations arabes en souffrance” أعدّها لمناسبات عديدة (مؤتمرات، وندوات، ومقدمات كتب، محاور بحثية،وغيرها).
يمكن اعتبار الكتاب الأخير، الصادر حديثا، بمثابة سيرة ثقافية ذاتية، بل هو نوع من الشهادة الحيّة لكاتب مثقّف وملتزم بفهم مجتمعه، فهما ًعميقاً، وعلى ضوء تجربة شخصية لا ينفكّ فيها المجرِّب عن مساءلة مجريات حياته الفردية بالاستناد الى ما تضعه السياسة وعلم الاجتماع والنقد الأدبي من معايير وأحكام بين يديه، وما يتنخّله منها ليصلح أدوات لوصف تجربة وواقع فريديْن، حرصاً على الأمانة والموضوعية اللتين أُثرتا عنه في درس اللغة وفقهها بالعربية، وفي استخلاص العِبَر من كتابة التاريخ. إلى هاتين الخلّتين، تضاف طرافة الكاتب، وفكاهته المستفادتان من وقائع منتخبة من سيرته، ومن وصفه الواقع اللبناني الغريب في ذاته. يستهلّ أحمد بيضون كتابه، طبعاً بعد التنبيه، بالكلام على تكوينه الفرنكوفوني، فيروي اكتشافه الفروق الصوتية واللغوية بين الأسماء (جوزيف/ يوسف) وتأثّره بقراءته المسرح الشعري الكلاسيكي للشاعر، ومن بعده انصرافه الى قراءة الكلاسيكيين الفرنسيين من أمثال فولتير وراسين ولامارتين وفيكتور هيغو وأناتول فرانس وغيرهم، ومناكدة مدير المدرسة الرسمية، في بنت جبيل، الذي ما برح يتباهى بكونه حفظ كلّ كلمات القاموس الفرنسي الصغير، وأنّ جلّ سطوته على الطلاب إنما استمدّها من كتاب الجيب الذي لطالما لازمه في مكتبه.
ويروي الكاتب بيضون كيف أنّ عناده، صغيراً، كان قد حمله على مطالعة كلّ الروايات الفرنسية المتاحة له، إلى جانب حفظه عشرات الآلاف من أبيات الشعر العربي القديم، واستظهاره بعضاً من القرآن، وقراءته السّير الشعبية في التراث العربي، مرّات عديدة. بيد أنّ مسيرة تشكيل الثقافة وبناء الكونية اللغوية ما كانت لتنتهي عند هذا الحدّ؛ إذ ما أن بلغ الكاتب مرحلته الجامعية أواخر الخمسينيات، من القرن الماضي، وأوائل الستّنييات، حتّى انتقل التحدّي الثقافي إلى صعيد آخر وأسماء أخرى في سماء الأدب والفلسفة إبان إقامة الكاتب في فرنسا.
فأتى على كتاب “الكائن والعدم” لجان بول سارتر، بالكامل، وهو أمر لم يدّعه فحول القرّاء المعدودين على أصابع اليد الواحدة! أما النكتة من كلّ ذلك فأنّ الراوي أحمد بيضون، إذ يُطلع القارئ على أهمّ المحطّات في تكوين ثقافته باللغة الفرنسية – عبر مطالعة آثارها الأدبية – ينبّهه الى شّغف القراءة الذي لازمه، على امتداد هذه المراحل، وكان شرطا ًواجب الوجود لتكوين خامته وأسلوبه الأدبيين اللذين بهر بهما المؤرّخ الفرنسي بيار شونو لدى مرافعته عن أطروحة الدكتوراه التي أعدّها العام 1982، وقد وصفه بأنه “كاتب عظيم في اللغة الفرنسية “(ص:20).
بالطبع، لم يترك الكاتب بيضون أن يمرّ الإطراء السالف وصفه من دون أن يتبعه بطُرفة أو فكاهة، كأن يروي كيف أنه، في حمأة المرافعة عن أطروحته ولدى انصرافه منها، وطأ قدم مكسيم رودنسون، العلاّمة الشهير، فآلمه أشدّ الإيلام وجعل يبكّته ضميره على ما اقترفه بغفلة منه!
في الكتاب أيضاً كلام على الحداثة بل العصرنة وآثارها في المجتمع اللبناني، ريفاً ومدينة وجماعاتٍ وأفراداً على حدّ سواء. إذ يعتبر الكاتب بيضون أنّ عوامل الحداثة هذه بدّلت علاقة الإنسان بالزمان والمكان، وأنها حوّلت صلة الفرد بجماعاته إلى علاقة صراعية محتدمة، وعلى كلّ الصعد. فما يصحّ على المجال السياسي، بات ينسحب على الثقافي والأدبي؛ ومن هنا استأنف الكلام على الشعر العربي الحديث، وتحطيمه كلّ الإيقاعات التي لطالما فرضتها قواعد النّظم التقليدية.
ومن هذا المنظار أيضاً – بحسب الكاتب بيضون – يحسن التفكّر في ما أصاب الأنواع الأدبية الأخرى، وما طرأ على التنظير للشعر من تحوّلات، يعزوها لكاتب إلى طغيان الوافد إلينا من النقد الغربي، ومن تفريعات وانشقاقات في شأن امتثال الشاعر والأديب لقواعد النّظم أو السّرد الجاري اعتمادها. ويخلص الكاتب، في هذا الشأن إلى أن مبدأ الاصطفائية هو الذي صار يتحكّم بصعود النّخبة المبدعة التي أفلحت في صنع مجالها الحيّ من داخل اللغة العربية وتراثها الفيّاض.
المصدر: independentarabia
This post is also available in:
English (الإنجليزية)