ثقافة الالتباس نحو تاريخ آخر للإسلام

عنوان الكتاب ثقافة الالتباس نحو تاريخ آخر للإسلام
المؤلف توماس باور- ترجمة رضا قطب
الناشر منشورات الجمل
البلد بيروت
تاريخ النشر 2018
عدد الصفحات 482

أشتري الكتاب حمل الكتاب

الوصف

This post is also available in: English (الإنجليزية)

“توماس باور”, المستعرب الألماني اختط لنفسه طريقا مختلفا، إذ حاول أن يقدم إضافات جدية في مقارباته للثقافة العربية وللفكر الإسلامي، وهي تتسم بشيء غير قليل من الروح الموضوعية والبعد عن الرؤية الاستشراقية، التي اتسمت بها الدراسات الغربية للإسلام عموما، والتي كانت محل نقد من قبل المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، دراسات ومقاربات تمتلك أفكاراً قبلية وخلفيات أيديولوجية ذات طابع استعلائي ومركزي ومساع تبشيرية عند بعض منهم لا تخفى، بررت ربما الهيمنة وتعاونت معها بل كان بعضها خريطة طريق لهذه الهيمنة.

 

يأتي كتاب باور”ثقافة الالتباس نحو تاريخ آخر للإسلام” ليضيف لبنة في مقاربة الإسلام، والعنوان ذاته يحيل على فكر مغاير ومقاربة مختلفة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العنوان عتبة أولى للمضمون «تاريخ آخر للإسلام» يعني بالتضاد أن هناك تاريخا رسميا أكاديميا هو غير ما يقصده الكاتب، وهو التاريخ الذي صاغته الرؤية الاستشراقية الغربية ذات الطابع المركزي. كتاب ضخم نسبيا في 478 صفحة نشرته دار الجمل في ألمانيا وبتعريب رضا قطب، لقد انطلق الكاتب من مقولة لعالم فيزياء الكم ماكس بورن التي يقول فيها: (أعتقد أن أفكارا مثل الصواب المطلق والدقة المطلقة والحقيقة النهائية، إلخ هي لوثات عقلية ينبغي أن لا تمرر في أي علم.. إن هذا التبسيط للتفكير يبدو لي أكبر بركة جلبها لنا العلم الحديث والاعتقاد بامتلاك الحقيقة الوحيدة ومعتنقيها، هي الأساس العميق لكل الشرخ في العالم). هذه المقولة التي يقتبسها باور من بورن تعد نقدا للمركزية الغربية في الصميم، فهي التي تدعي امتلاك الحقيقة، وأن ما عند الآخرين لا يعدو أن يكون شيئا تاريخيا في تطور الفكر الإنساني والحضارة تجاوزه الزمن، فالحداثة الغربية هي المركز، وهي المتن وما عداها هامش لا يؤبه له، ولا يمكن أن يشكل إلا عقبة كأداء في مزيد من التقدم والرخاء الإنساني.

 

العنوان ذاته عنوان ثوري ماذا يعني بثقافة الالتباس؟ إنه يعني أن الإسلام وهو يقصد المرحلة التي تمتد بين العصر العباسي، حيث أفرد له الكاتب فقرات قليلة، ثم عصر السلاجقة مرورا بالمماليك وعصر العثمانيين، الذي يقابل عند الأوروبيين ما يعرف بالعصور الوسطى، قد عاش في ظل تعدد المعنى، وأن ما يبدو تناقضا أو التباسا عاش إلى جنب مع المتداول في الإسلام، هكذا استوعب الإسلام الفرق والمذاهب الإسلامية والصوفية والأفكار الأدبية، والرؤى الشعرية المتسمة بالحرية الفردية ونزعة الاستمتاع بالحياة، جنبا إلى جنب مع الأفكار التي توسم بالأصولية، فالشعراء والفقهاء والمتصوفة، وأرباب الفرق والمذاهب الفقهية والفكرية، كلهم عاشوا في ظل تعدد المعنى وفي دوحته، ويحظى كلهم بالقبول في المجتمع الإسلامي، في الوقت الذي كانت أوروبا في العصر الوسيط تعيش بمنطق الواحدية، ورفض الآخر والعصبية المذهبية.

 

هذا الذي يسميه باور قانون «اللاتزامن» فالثقافة الإسلامية في العصر الوسيط عرفت رؤى وقضايا لم تعرفها أوروبا في ذلك الوقت، وفي المقابل ما تعرفه أوروبا اليوم من مشاكل وتحديات، هو بعيد عنا كعرب ومسلمين، لذا فمن العجب أن تسمع مثقفا يتحدث عن الاغتراب، وما بعد الحداثة وما شابه ذلك، في الوقت الذي لم نبن فكرا علميا، ولم نبرح مرحلة الزراعة والإقطاع إلى اليوم.

 

يقع الكتاب في فصول عديدة بعناوين لافتة ومحفزة مثل، التعدد الحضاري، هل يقول الله كلاما ذا بدائل؟ نعمة الاختلاف، الجد اللغوي والتلاعب اللفظي، النظرة الرزينة للعالم وفي البحث عن اليقين، عناوين مثيرة لمباحث جريئة تحفر في المخزون الثقافي العربي والإسلامي، وتحيل على واقع عربي وإسلامي يتسم بتعدد المعنى والانفتاح، ما أعطى ديناميكية ومرونة للفكر الإسلامي، سمحت له بهضم الثقافات المجاورة، وفي استيعاب أساليب المعيشة واللباس والعادات والتقاليد الموجودة عند الشعوب الإسلامية، التي أسلمت في مجاهل افريقيا وشرق آسيا وشرق أوروبا، فلولا ديناميكية الإسلام ومرونته، ووجود مبدأ تعدد القراءة وتعدد المعنى، ما أمكن له أن يحظى بالقبول لدى تلك الشعوب.

 

هذه المرونة والديناميكية والانفتاح على الآخر المختلف في ظل الإسلام، تعود بالدرجة الأولى إلى القرآن ذاته، النص الأول المؤسس للفكر والحضارة الإسلامية. القرآن الكريم كما يرى الكاتب نص مفتوح قابل للقراءة المتعددة، ولا تستنفد معانيه بالتفاسير، إن القراءات السبع أو العشر مثلا ليست راجعة فقط لاختلاف لهجات القبائل العربية، بل إلى قاعدة تجيز التعدد في القراءة والتفسير، وإن كان هناك ما يعيق ذلك ويقضي على الغنى والخصب في فهم وتفسير النص القرآني، فليس سوى الترجمة لهذا يجعل الكاتب فصلين لعنوانين لافتين هما: هل يقول الله كلاما ذا بدائل؟ وهل يتحدث الله حديثا له أكثر من معنى؟

 

في المأثور الإسلامي ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب قوله «القرآن حمال أوجه» وهذا بالذات ما يقصده باور، إن تعدد القراءة وتعدد المعنى صفة أصيلة في الإسلام، وفي نصه المؤسس الأول، وما القراءات السبع أو العشر، إلا ذريعة أولى لتعدد المعنى، ذلك التعدد هو الذي أغنى الإسلام بكل المذاهب الفكرية والفقهية والأصولية، وحتى الفنية والأدبية ووجد في رحاب الإسلام قبولا، بعكس الحداثة الغربية التي قضت على التعدد ومكنت لأيديولوجيا واحدة في الهيمنة هي، الفهم الغربي للعالم ورؤيته وتفسيره الوحيد هو الممكن والمقبول. ولا ينسى الكاتب أن يوجه نقده للسلفية وأحد شيوخها ابن العثيمين، فهو في نظره بتنظيراته وتفسيراته يستلهم دون وعي منه تلك الأيديولوجيا الغربية في إنكار تعدد المعنى والقراءة المنفتحة المغايرة، وإقرار منهج واحد لا يجيز إلا فهما واحدا، وقراءة واحدة لنصوص الإسلام، ولعل الجمود التي يتسم به مجتمعه مثلا والنزوع إلى التقليد والاجترار، يعود إلى هذه الخلفية السلفية التي ناهضت تعدد المعنى الذي يعد ركيزة في الإسلام. وما صراعات الوهابية مع الفرق الصوفية والمذاهب الفقهية والدينية وحربها الضروس التي شنتها على المختلفين، إلا دليل على وجهة نظر الكاتب.

 

في حين أن العصر العباسي الأول مثلا ما عرف الأدب هذا اللون من الشعر والنثر المغرقين في التكلف والبهلوانيات اللفظية الجوفاء، التي يقدرها باور ويثني عليها والتي ساهمت في انحطاط الأدب وخروجه من متن الحياة إلى هامشها.

 

ينكر الكاتب أن الإسلام عرف عصورا وسطى، كما عرفتها أوروبا، وذلك راجع لتعدد المعنى وانفتاح الرؤية على مدى واسع من التأويل والاختلاف، وكأن هوية الأمة الإسلامية في اختلافها وتعددها، وبمجئ القرن التاسع عشر انتهى كل شيء، حيث حلت الواحدية ورفض التعدد، محل ذلك التنوع (في نهاية القرن التاسع عشر انتهى كل شيء واختفت النظرية القياسية للبلاغة العربية من المناهج التعليمية والشعرية، والشعر لم يعد مسموحا له بأن يشتمل على تلاعب لفظي، وأن يكون مشبعا بتعدد المعنى، بل ينبغي أن يعبر عن مشاعر صادقة بطريقة غير مصطنعة، بدأ الناس في الخجل من تراثهم الخاص، وحتى يومنا هذا يرغب المثقفون العرب في محو ألف عام كاملة من تاريخ الأدب العربي إن لم يكن أكثر).

 

وتعتبر أسلمة الإسلام الأداة السياسية التي يتم بها إضفاء رؤية واحدة للعالم بالنسبة للغرب، وإدانة أشكال التعدد والاختلاف كافة، كقضية العراق 2003 وعدم التفريق بين المقاومة الوطنية والإرهاب، وقد كشف ذلك يورغن تودينهوفر (هناك في المقاومة العراقية محاربون مسيحيون أكثر من إرهابي القاعدة). وكان الكاتب برنار نويل في كتابه «الموجز في الإهانة» الذي عرّبه الشاعر محمد بنيس قد انتبه إلى ذلك فعرى ثقافة الأسلمة التي يلجأ إليها الغرب لتشويه المقاومات المشروعة للعدوان الغربي والإسرائيلي على العالم العربي، فحماس ليست سوى مقاومة وطنية مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي، والمقاومة العراقية ليست سوى مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الأمريكي، والشيطنة التي يلجأ إليها الإعلام الغربي عبر إسباغ الطابع الإرهابي على تلك المقاومات بأسلمتها في شكل مجموعات أصولية متطرفة، ليست سوى حلقة في مسلسل العدوان على الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وقتل كل أشكال التعدد والرؤية المنفتحة على العالم.

 

ولا شك في أن النقد الذي يوجه إلى الكتاب هو، أنه قد يشعر المسلمين بالكمال والعصمة والسلامة من كل أذية، والرضا عن أنفسهم، ما دام الكاتب قد أطنب في مدح التراث العربي الإسلامي والإشارة إلى تعدد القراءة فيه، وانفتاحه على التأويل، في حين أن الواقع العربي والإسلامي بعيد عن الأخذ بأسباب القوة والنهضة، وأولها غياب الفكر العلمي بمفهومه الكونتي، وانتشار فكر ديني سلفي في الغالب، وغياب الفكر العلمي والشفافية في تسيير الشأن العام، وذلك يزيد من أزمة الأمة ووقوعها فريسة للتخلف والانحطاط والتبعية.

 

ولا يجد الكاتب من يتفق معه في كون القرن التاسع عشر بالنسبة لنا كعرب ومسلمين هو نهاية تعدد المعنى، بل بالعكس هو بداية الصحوة من تراجع فكري وعلمي وسياسي لقرون هو الذي اصطلحت على تسميته كتب التاريخ بعصر الانحطاط، وكان الأدب مظهرا من مظاهر ذلك الانحطاط وما عرف نهضة حقيقية إلا مع الرواد من أمثال طه حسين والعقاد والحكيم ونجيب محفوظ وجماعة أبولو والرابطة القلمية وجماعة الديوان، دون الحديث عن التجديد في الفكر الفلسفي والديني والسياسي.

 

إن ولع الكاتب بالألاعيب اللفظية من حساب الجمل وتورية وجناس، وما يقرأ طردا مديحا وعكسا هجاء والأبيات العواطل والأبيات المعجمة، وشتى ألوان الانحطاط في الكتابة، التي يراها الكاتب علامة رقي وتعددا للمعنى وللقراءة، لا يجد من المفكرين العرب المحدثين من يتفق معه، فهذا أدب انحطاط وليس أدب حياة ولا أدب قوة، ذلك الأدب صاحب سبات الأمة وانحطاطها وما شاع فيها من طبقية واستبداد وفكر ديني متزمت وغياب التأليف العلمي الرصين. في حين أن العصر العباسي الأول مثلا ما عرف الأدب هذا اللون من الشعر والنثر المغرقين في التكلف والبهلوانيات اللفظية الجوفاء، التي يقدرها باور ويثني عليها والتي ساهمت في انحطاط الأدب وخروجه من متن الحياة إلى هامشها.

 

والكتاب غني بمادته، نوعي في منهجه وبسعة ثقافة الكاتب اللغوية والأدبية والدينية، فمصادره تدل على تمكنه من اللغة والثقافة العربية الإسلامية، إلا من أخطاء قليلة كتحريفه لبعض أسماء الأعلام، أو أخطاء معرفية كقوله بأن العلاقة المثلية (الشذوذ) بين اثنين لا عقوبة عليها في الإسلام، إذا كانت رضا بين الطرفين (الفاعل والمفعول به)؟ كما جاء في باب تعدد المتعة.

 

غير أن المترجم ولو أنه قام بجهد كبير مشكورا، وقع في أخطاء لغوية كثيرة، كما وقعت الدار الناشرة للكتاب في أخطاء مطبعية تجعل متابعة الكتاب مهمة عسيرة، وتضاعف جهد القارئ في التنبه للخطأ وإدراك الوجه الصحيح، والمؤلف والدار مدعوان لتصحيح هذا الكتاب الكبير بمادته ومنهجيته ورؤيته المنفتحة والموضوعية معا. ورغم كل ذلك فالكتاب جدير بالقراءة، وجدير بالمناقشة، وهو إضافة نوعية إلى المكتبة العربية وخرق للمألوف والمتداول في الكتابات الاستعرابية عن اللغة والإسلام، كما عهدنا ذلك عند المستعربين المتسمة نظرتهم بالتعالي والتحيز والمركزية.

 

لقد كان باور مستعربا جيدا، حرث في أرض أخرى بأدوات علمية وبنظرة علمية وبثقافة واسعة، رغم بعض نقائص الكتاب ـ كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه – ما جعل كتابه هذا فتحا معرفيا جديدا في الدراسات الغربية المقاربة للفكر وللثقافة العربية الإسلامية.

قراءة/ إبراهيم مشارة

نقلا عن القدس العربي

This post is also available in: English (الإنجليزية)

TOP