الوصف
خلق الله الإنسان ليكون خليفة فى الأرض يقيم فيها العمران، ولذلك كان من مقتضيات اللطف الإلهى والحكمة الربانية أن يعين الله هذا الإنسان على تحقيق مهمة الخلافة والاستخلاف، بأن يهيئ له من أمره رشدا، وذلك برسم معالم الطريق السوى الراشد لهذا العمران.. هذه المعالم التى نزلت بها رسالات السماء- دينا- يحدد سبل الرشاد لهذا الإنسان فى المعاش والمعاد..
فمع نعمة الخلق.. ونعمة الاستخلاف.. ونعمة تسخير ما فى الكون من طاقات لتحقيق العمران.. كانت نعمة الوحى والدين لترشيد سعى الإنسان إلى البناء والتجديد لهذا العمران وحتى يكون العمران شاملا للنفس الإنسانية، وليس فقط للواقع المادى، إذ إن رشاد عمران الواقع المادى مستحيل بدون رشاد عمران النفس الإنسانية، الصانعة المطلق العمران.
ولأن العقل الإنسانى نسبى الإدراك- يدرك الظواهر والآثار فى عالم الشهادة ويغيب عنه إدراك الجوهر والكنه، وحقائق عالم الغيب، كان لابد لإعانة العقل وترشيده من الدين، الذى هو من العلم الإلهى الكلى والمطلق والمحيط، والذى لا يقف عند عالم الشهادة وحده، وإنما يضرب الأمثال لما فى عالم الغيب من حقائق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. فالإنسان مادة وروح، والدين هو الذى يربطه بالملأ الأعلى، فلا يُترك فقط للماديات.
والدين يزكى العقل دون أن يؤلهه كما يزكى الشورى البشرية دون أن يطلق لها العنان فتحل الحرام وتحرم الحلال، ولذلك كان الدين ضرورة لترشيد العقل والإرادة والفعل، ولحماية ملكات الإنسان من الانحراف والضلال. إنه تنمية لنوازع الخير فى الإنسان وحراسة لملكات هذا الإنسان من غواية شياطين الجن والإنس والنفس الأمارة بالسوء.
وإن ثمرات العقول المجردة وقواعدها وقوانينها إن احترمتها عقول الصفوة والخاصة- عقول الحكماء- فإن الدين هو الضامن لاحترام الكافة القواعد والقوانين النابعة من الدين الذى يعلو سلطانه لدى الكافة على كل سلطان.
ذلك هو موضوع هذا الكتاب الذى نقدم بين يديه (حاجة الإنسان إلى الدين) الذى أبدعه عقل العلامة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (0131-3831هـ-3981-3691م) ونحن إذا شئنا- فى التقديم بين يدى هذا الكتاب- إشارات لبعض ما فيه من إضاءات.. فإن لدينا- على سبيل المثال- حديثه عن:
أن التوحيد الدينى هو الفطرة التى فطر عليها الإنسان… “فالإيمان بالواحد الأحد شأن فطرى، تنزع إليه النفوس متى سلمت من آفات الحق، ومثيرات الهوى والتعصب.. وإن من مقتضيات الإيمان به سبحانه الإيمان بأن له هداية يبعث بها من يصطفى من عباده، إذ ليس من المعقول أن يخلق العالم بهذا الإبداع، ويخلق فيه الإنسان مزودا بقوى التفكير والعمل والكفاح ثم يتركه يهيم فى أودية الضلال كالوحش فى الفلاة.. فالإيمان بشرع الله وهدايته.. لازم عقلى للإيمان بالله ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه:05).
وجماع التدين عند الله هو قيام الإنسان بممارسة شرع الله وهدايته وبذلك يكون وازع الإنسان نابعا من ضميره وإيمانه، يخشاه فى سره قبل أن يخشى الناس فى علانيته.. فالتدين الحق عند الله هو الاعتصام بحبله المتين الذى هو كتابه الذى يربط القلوب بعقيدة واحدة ويسلك بها سبيلا واحدة نحو غاية واحدة، هى سعادة الدنيا والآخرة.
وجماع الخير وأصول البر والتقوى وآية الصدق فى التدين عند الله ثلاثة: عقيدة صحيحة، وخلق فاضل، وعمل مثمر مفيد. فالعنصر الدينى ضرورة تلبى نزعة طبيعية فى الإنسان.
والدين هو هداية الله لعباده فهو الذى يوجههم إلى النظر فى الكون وكل تعاليمه تلبية لطبيعة الإنسان على وجه معتدل، لا إفراط فيه ولا تفريط.. والقصد من الدين ليس إلا تزكية النفس، وتطهير القلب، وظهور روح الامتثال والطاعة، واستشعار عظمة الله، وإقرار الخير والصلاح فى الأرض على أساس قوى متين.
لقد شد الله أزر عباده المؤمنين وقوّى فيهم روح العمل وأرشدهم أن يستعينوا على تكاليفهم الدينية وواجباتهم الاجتماعية ومحنهم الكونية بأمرين لهما خطرهما فى قوتهم واحتمالهم، وهما: الصبر، والصلاة… والصبر هو الثبات فى القيام بالواجب وبذل الجهود فى مقاومة الصعاب دون يأس أو هلع، وليس الصبر مجرد الاستسلام والخنوع أمام الحوادث وترقب القدر المجهول.. والصلاة هى رحلات إلهية للخضوع والتذكر والمراقبة.
وإن المدرسة التى يخلو منهاجها من الدين إنما تكوِّن إنسانا لا يزيد كثيرا فى معناه عن هذا الإنسان الآلى.. ومعارف مثل هذه المدرسة لم يجنِ العالم منها إلا الشقاء والدمار، فالعلم وحده صار إداة دمار وتخريب وطغيان أكثر من أن يكون أداة للتعمير والعدل، وبهذا انقلبت الحياة جحيما لا تحتمل.
وإن الاعتماد فى تنظيم العالم، والسير بالحياة على الفكرة الإنسانية اعتماد على شفا جرف هار، اعتماد يؤدى بالعالم إلى الخراب والدمار، وإذن فلابد من تلمس مدد آخر يملك على الإنسان بمصدرى باطنه وظاهره، وخلوته قبل جلوته.. وليس من ذلك سوى الضمير الدينى الذى يربط الإنسان بالرقيب الذى لا ينام، وبالعالم الذى لا يجهل، وبالقوىِّ الذى تؤمن الفطرة بقوته، والذى يتلقى الإنسان به نظم حياته عن ذلك الرقيب العالم، القوى القاهر فيسلم فى الحياة وتسلم له الحياة.
هذا المدد هو الهداية السماوية التى تعهد الله بها عباده، وآمنت به الأرواح الصافية المؤمنة بمهمة الإنسان فى هذه الحياة، فالدين فى حقيقته ضرورة من ضرورات الإنسانية الراشدة لا تغنى عنه فكرة عقلية، ولا تنظيم وضعى.
والإنسان فى عصرنا هذا أشد ما يكون حاجة إلى الدين، فإن التقدم العلمى المادى الذى غزا الفضاء لم يستطع أن يحقق للناس السعادة والطمأنينة التى ينشدون بل زادهم كَلبَاً على المادة وتنافساً جشعاً جر إلى حروب كونية مدمرة، وينذر بأخرى لا يعلمها إلا الله.. فلا خلاص للإنسانية إلا بالرجوع إلى الدين الحق، ولن تجد هذا الدين- كما أنزله الله- واضحا ميسرا خاليا من الغموض والتعقيد سليما من التحريف والتبديل، إلا فى الإسلام، خاتم الرسالات الإلهية، فهو دين الروح والمادة والقلب والعقل، والفرد والجماعة والدنيا والآخرة.
إن حكمة الحكماء والقواعد الأخلاقية الفلسفية لا تعدو أن تكون عملا إنسانيا لا يكتنه بطبعه الحقيقة الكامنة فى النفس، ولا يحيط بجميع الجوانب التى كثيرا ما تخفى على العقل المحدود فى إدراكه، ومن هنا اضطربت قواعد، وظهرت أخطاء وتغيرت اتجاهات وليس لهذه النكبة من سر سوى انسياق الناس فى حياتهم مع نظم وضعها الإنسان وأملتها عليه الشهوات والنزاعات… ولذلك فلا سلامة للعالم من طغيان القوة والجبروت ولا من ذلة الضعف والهوان إلا إذا خلعت الأمم ذات الشخصيات البشرية الطاغية نفسها من إطار تلك الشخصيات، ورمت بها إلى قاع المحيطات ورجعت إلى هذه الشخصية المعنوية التى رسمها العليم الخبير بطبائع البشر، طريقا لسعادته ونزل بها الروح الأمين على رسل الله.
ولعمرى: إن العالم سيظل فى هذه الحيرة وهذا الاضطراب ما دام متمسكاً بأهداب هذه النظم التى افتجرها أساساً لحياته فما ذاق منها إلا الخوف والجوع والظلم والطغيان.
إن منا من خدعته المذاهب البشرية وفتن بها وأخذ يدعو الناس إليها ويحببهم فيها ويصرفهم بها عن دين الله وشرعه.. وإن أشد ما أخشاه أن يتم لهم ما يريدون فيشيع التحلل من العقائد والتنكر للأخلاق وتنسخ من القوانين الباقية الضئيلة المتعلقة بالأسرة كما نسخت أخواتها (المدنيات والجنائيات) من قبل وأصبحت مصادر التشريع فيها صفحات تاريخية يتحدث الناس عنهما كما يتحدثون عن قيام الدول وسقوطها!
إن العقل هو آلة التفكير والعلم ثمرته.. وكل ما ورد فى القرآن حثا على التفكير هو إعلان عن فضل العقل وإيحاء بالعمل على تربيته وتقويته، وهو فى الوقت نفسه إعلان وتسجيل لفضل العلم وإيحاء بتحصيله فيقف الإنسان على الحقائق وتزول عنه غشاوة الجهل، ويحرر من رق الأوهام والخرافات وبذلك كان الإسلام دين الفكر ودين العقل ودين العلم. وحسبنا أن رسوله لم يقدم حجة على رسالته إلا ما كان طريقها العقل والنظر والتفكير، ولم يشأ له ربه أن يحقق للقوم ما كانوا يطلبون من خوارق حسية تخضع لها أعناقهم..
لقد ارتفع الإسلام بالعقل وسجل أن إهماله فى الدنيا سيكون سببا فى عذاب الآخرة ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (الملك:01) وكذلك ارتفع بالعلم وجعل أهله فى المرتبة الثالثة بعد الله والملائكة ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران) 18: ثم جعلهم وحدهم هم الذين يخشون الله من عباده بما أدركوا من آثار قدرته وعظمته، فقال بعد أن لفت الأنظار إلى نعم الله وآياته: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ (فاطر). 28:
والعلم فى نظر الشرع ليس خاصا بعلم الشرائع والأحكام من حلال وحرام، وإنما العلم فى نظره هو كل إدراك يفيد الإنسان توفيقا فى القيام بمهمته العظمى- التى ألقيت على كاهله منذ قدر خلقه، وجعل خليفة فى الأرض- وهى عمارتها واستخراج كنوزها وإظهار أسرار الله فيها.. فالعلم، بمعناه الشامل هو العنصر الأول من عناصر الحياة فى نظر الإسلام.
والتفكير الذى يريده القرآن والذى هو أول الوسائل للتهذيب الروحى ليس هو التفكير الجاف الذى يأخذ العقل به آثار الكون المادية، ثم يطغى بها على الذين لم تهيئ لهم ظروف الحياة وسائل تفكيرهم ولا درجة عقولهم فهو تفكير شر من الجمود وعلم شر من الجهل، لا يريده القرآن ولا يعرفه. وإنما يعرف القرآن من التفكير ما يصل بالإنسان إلى معرفة الآثار مسندة إلى مصدرها الذى أنعم بها، وعندئذ يشكر ولا يكفر.. وإن هؤلاء الذين قصروا التفكير على نتائجه هم فى نظر القرآن ممن قال فيهم: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي..﴾ (الكهف:101).
ولقد كثرت آيات القرآن الواردة فى ذم التقليد وجرى الخلف وراء السلف، دون نظر واستدلال… فالجمود عند الموروث والاكتفاء به مصادم لما تقضى به طبيعة الكون وطبيعة كل حى من النمو والتوليد… والتناسل الفكرى كالتناسل النباتى والحيوانى والإنسانى، كلاهما شأن لابد منه فى الحياة… والجمود على آراء المتقدمين لمجرد أنهم متقدمون سلب لمزية الإنسان فى التمييز بين الحق والباطل والملائم وغير الملائم وجناية على الفطرة البشرية وسلب لمزية العقل التى امتاز بها الإنسان وإهدار لحجة الله على عباده وتمسك بما لا وزن له عند الله.
ولقد قامت الوسطية الإسلامية بين المادية البحت والروحية البحت إذ ليس فى المادية البحت سوى الطغيان والظلم والاستعباد والذل والتحكم الغاشم بالأرواح والأموال والأعراض. وليس فى الروحية البحت سوى الخراب والدمار وتعطل ما كرمت به الإنسانية- من قوى التفكير والإرادة والعمل.
إن فى الرهبانية تعطيلاً لما كرم الله به الإنسان من قوى التفكير والإرادة والعمل وفيها بقاء أسرار الكون ومنافعه كامنة فى أطباق الأرض وأجواء السماء وقد سخرها الله جميعا للإنسان وسلطه عليها ومهد له طريق إظهارها وعمارة الكون بها.
وإن سعادة الإنسان لا تتحقق إلا باستكمال حظه الجسمى والروحى معا، واستكمال حظه الاستقلالى والاجتماعى معا. وإن لهو الحياة ولعبها ليسا ينصبان على ذات الحياة باعتبار ما فيها من خير ونفع للعباد وإنما ينصبان على من يتخذ نعم الله فيها سبيلا لشهوته وهواه يدنس بهما نفسه، ويميت بهما قلبه.
وإن عبادة الله التى خلق لأجلها الجن والإنس لم يكن سبيلها فى هذه الحياة التبتل والامتناع عن الدنيا وإنما سبيلها تحقيق إرادة الله فى كونه عن طريق العمل فى عمارة هذا الكون وإظهار أسرار الله الدالة على عظمته ووحدانيته واستحقاقه وحده للعبادة والتقديس، وإن الله لا يرضى من عباده أن يزهدوا فى الدنيا هذا الزهد العام المطلق، وأن ينقطعوا فى الصوامع والبيع والمساجد لعبادته ومناجاته فهو يناجى فى الحقل ويناجى فى المتجر ويناجى فى المجتمع وكل تلك مناجات يسمعها الله ويتقرب بها العبد لله. كذلك فإن الإسلام أشد إباء وإنكارا للتكالب على الجمع والادخار فى محيط الدائرة الشخصية، وفى خدمة وجوده المادى الخاص غير مكترث بشيء من جوانب الفضيلة الروحية ولا الشكر الإلهى على ما هيأ له من نعم.
وكما تسقط المجتمعات من سلوك أفرادها مسلك التبتل تسقط أيضا من سلوكهم مسلك الطغيان المالى. فالروحية المهذبة أساس للمادية المهذبة، ومنها ينبع الروح المهذب للمادة، وبتهذيب الروح المهذب للمادة تكمل للإنسان سعادته فى دنياه وأخراه فى فرده وفى مجتمعه وهكذا تعانق روحية الإسلام المادية الفاضلة.
ولقد نهج الإسلام- كذلك- نهجا وسطيا فى التنظيم الإسلامى فبنى تنظيمه للعالم على الواقع، وهو أن الإنسان جسم وروح وأن للجسم حظا ومتعة وأن للروح حظا ومتعة وأن للإنسان شخصية مستقلة عن بنى جنسه وشخصيته يكون بها لبنة فى المجتمع الوطنى والإنسانى وأن له بكل من هاتين الشخصيتين حقوقا وعليه واجبات ولا تتحقق سعادة الإنسان إلا باستكمال حظى الجسم والروح على وجه من الاعتدال الذى لا إفراط فيه ولا تفريط، وإلا بتنظيم حقوقه وواجباته فى علاقته بربه وعلاقته بمواطنيه وبنى جنسه على وجه من الاعتدال الذى لا إفراط فيه ولا تفريط.. وإن الاستقامة ليست سوى الوقوف بالقوى فى مستوى التوازن كما أن الطغيان ليس سوى تغلب بعض القوى على بعض.
أما علاقة الإسلام بالآخرين من غير المسلمين فهى علاقة السلم والمسالمة فلقد دعت هداية الله إلى السلام إلى حد أنها لم تجعل المخالفة فى الدين الحق سببا من أسباب العدوان والبغى، ونرى ذلك جليا فى قوله تعالى:﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة) 8: ونراه فى المبدأ العام الذى جعلته أساسا لمعاملة أهل الكتاب الذين لا يؤمنون برسالة محمد، ذلكم المبدأ المعروف وهو تركهم وما يدينون والتحذير من التعرض لهم فى شعائرهم وأموالهم والتسوية بينهم وبين المسلمين فى الحقوق والواجبات العامة، وسمت فى كل ذلك حتى أوجبت على المسلمين إعانة المنكوبين منهم وأباحت الاختلاط بهم والتعاون معهم ومصاهرتهم وما أباحت القتال إلا عند العدوان واستلاب الحقوق، وهنا فقط أباحت القتال ردا للبغى وهو فى الحقيقة تقرير للسلام وإقامة للموازين العادلة ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ (التوبة)7:، ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ (الأنفال)65: ولأن الأمة الإسلامية قد دخلت فى مأزق حضارى فإن النهضة المنشودة التى تخرجها من هذا المأزق، لابد أن تنطلق من الهداية الإلهية التى كانت السبب الأول فى نهوضها الأول.. فعلينا نحن الشرقيين أن نكون أمة واحدة لها قلبها الحى وروحها الوثاب، تحمل مشكاة الدعوة وتبدد بها ظلمات المادة فى أجواء العالم كله بعد أن تبدد من سماء نفسها ما تلبدت به من غيوم تلك المادة ويومئذ تعود لنا مكانتنا الأولى مكانة المعلم الإنسانى العام.
وسبيل ذلك هو إيجاد الروح الدينى الخالص الذى يكون العامل الأول فى غرس البذرة الأولى فى تكوين هذه الأمة، وإنا لن نظفر بهذا الروح الدينى الخالص حتى يكون قد دخل فى إعداده:
أولا: فهم الدين فهما واضحًا صحيحًا من مصادره الأولى دون التجاء إلى التقيد برأى فرقة خاصة أو مذهب معين.
ثانيًا: الوقوف على العقليات الحاضرة للجماعات والإلمام بنفسية الطبقات والفروق الفردية بين الذكر والأنثى والصغير والكبير.
ثالثا: إتقان وسيلة التفاهم وطرق التأثير على القلوب.
رابعا: وهو الأول فى الاعتبار تعهده بأخذ نفسه وقلبه على مقتضى الروح الدينى الصحيح.
ويوم أن نظفر بهذا الدين الخالص نستطيع أن نغزو به كل ناحية من نواحى الأمة، حتى تشع فى الشعب كله الروح العالية، وتصير الأمة كلها مطبوعة بطابعه داعية إلى الخير بأقوالها وأفعالها وأخلاقها ونظمها فى الحياة». هكذا تحدث الإمام الأكبر العلامة الشيخ محمود شلتوت عن الإسلام وعن حاجة الإنسان إلى هذا الدين.. الذى هو فطرة الله التى فطر الناس عليها والذى استوعب فى رسالته الخاتمة أصول الدين الواحد الذى توالت به رسالات السماء على امتداد تاريخ هذه الرسالات والذى صحح ما طرأ على أمم تلك الرسالات من تحريفات وانحرافات حتى صار فى هذه الرسالة المحمدية الخاتمة- كما وصفه الصحابى حاطب بن أبى بلتعة (53ق.هـ-03هـ-685-056م) فى حواره مع المقوقس عظيم القبط عندما قال له:
(إننا ندعوك إلى الإسلام الكافى به الله فَقْدَ ما سواه)
نعم.. إنه الدين الخاتم الخالد- وصدق الله العظيم ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ (آل عمران). ▪ 19:
بقلم: أ.د: مـحـمـد عمــارة