الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
في الوقت الذي يراكم فيه مثقف عنصري مثل إريك زيمور هذره في مؤلفات وحصص تلفزيونية، لتشويه المهاجرين وأبنائهم، ويصورهم دخلاء يشوهون المجتمع الفرنسي ويهددون هويته، تأتي رواية “شقيق الروح” للسنغالي دافيد ديوب، الأستاذ المحاضر بجامعة بو جنوبي فرنسا، لتذكّر زيمور ومن لفّ لفّه من العنصريين بحقيقة تاريخية لا ينكرها إلا جحود، ألا وهي استشهاد نحو مئة وأربعة وثلاثين ألف مقاتل سنغالي دفاعا عن فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى؛ وفوق ذلك العدد بكثير خلال الحرب العالمية الثانية، حيث اعتادت القوة الاستعمارية الغاصبة أن تسخّر أبناء مستعمراتها في المغرب العربي وبعض البلدان الأفريقية لخوض حروبها، ثم تلفظهم لفظ النواة، أو تعدمهم رميا بالرصاص كما حصل في معسكر تياروي قرب داكار عام 1944 (انظر مقالتنا “عندما تفقد فرنسا ذاكرتها وتنسى جرائمها” – العرب، 8 أكتوبر 2018).
صديقان فرقهما الموت
الرواية تحكي قصة صداقة بين مقاتلين سنغاليين في مقتبل العمر، تتخللها مأساة تثقل ذاكرة أحدهما. مقاتلان جندتهما الإمبراطورية الاستعمارية للقتال في إحدى الجبهات الأوروبية، حين تحولت حرب 1914-1918 إلى معركة خنادق، ترين على أجوائها روائح البارود والقذائف وغاز الخردل الخانق وبقايا الجثث المتعفنة وسط الأوحال. أصيب ماديمبا ديوب، الذي يعتبره صديقه ألفا ندياي أعز من أخ، بجرح بليغ، فطلب منه أن يجهز عليه، بل توسل إليه أن يفعل ذلك: “بحق الله، وحق عرّافنا الأكبر، إن كنت أخي يا ألفا، إن كنت حقا كما أحسب، اذبحني كما يُذبح خروف الأضحى، لا تترك خطم الموت يلتهم جسدي! لا تتركني لكل هذه القذارة، ألفا ندياي… ألفا، أرجوك، اذبحني!” بيد أن ألفا، برغم وفائه ورباطة جأشه، لم يجرؤ على قتل صديقه الأعز، لأنه سمع صوت الله الذي يحرم قتل نفس بغير ذنب، فتركه يلفظ أنفاسه تحت سماء رصاصية باردة.
ولما هبط الليل، جمع أمعاء صديقه المتناثرة، وأعادها إلى بطنه، ورجع إلى الخندق بالجثة مقمطة بقميصه. وبعد دفنه، جنّ جنون ألفا، لأنه في اعتقاده لم يعرف الذود عن صديقه، ولم يلبّ طلبه الأخير، فصار يتسلح ببندقية وساطور ويمضي إلى العدو زحفا حتى الخندق المواجه، ويحمل عليه ليبارزه وجها لوجه ويفريه ثم يقطع يده ليعود بها كغنيمة حرب. حتى صار “طقسه الغريب ذاك، بسلوكه وهياجه وصيحاته بلهجة الولوف، لا يرعب الخصم وحده، بل يرعب المرابطين حذوه أيضا من التوباب (البيض) والشوكولا (السود)”، وراج عنه أنه مفترس أرواح، ما جعل النقيب يخير إرساله إلى أحد المستشفيات القريبة، كي يسترجع توازنه ويدرك أن “الحرب المتحضرة” تحظر التمثيل بالجثث، وإن كانت تشرع القتل وتشجع عليه.
في هذا يقول ألفا ندياي تعليقا على موقف النقيب أرمان من الحرب “عندما نأمرهم بالخروج من الخندق الواقي لمهاجمة العدو في العراء، فـ’نعم’. عندما نقول لهم أن يسلكوا سلوك المتوحشين لبث الخوف في نفس العدو، فـ’نعم’… قال لهم النقيب إن الأعداء يخافون من الزنوج المتوحشين، من أكلة لحوم البشر، ومن الزولو، فضحكوا”.غير أن ألفا ينظر إلى العملية من وجهة نظره هو، متمثلا قيمه، واعتزازه بأفريقيته، وملاحظاته القائمة على المنطق “أما أنا، ألفا ندياي، فقد فهمت جيدا كلمات النقيب… فرنسا النقيب تريد أن نكون متوحشين وقت الحاجة… الفرق بيني وبين رفاقي من التوكولور، والسيرير، والبمبارا، والمالينكي، والسوسو، والهاوسا، والموسي، والماركا، والسونيكي، والسينوفو، والبوبو، والولوف، أني عندما غدوت متوحشا فعَني تأمل”.
الأفريقي وفرنسا النقيب
يعلق ألفا في ما يشبه السخرية على نسبية العنف عند الغرب، واعتباره وحشيا فقط ما يأتيه غيرها من الشعوب “بدأ الجنود الشوكولا يهمسون بأني جنديّ ساحر، ديم (جنّي)، مفترس أرواح، وبدأ الجنود التوباب يصدّقونهم… نعم، فهمت، وحق الله، أنهم لا يريدون في ساحة الوغى إلا الجنون العارض. مجانين من شدة الغيظ، مجانين من شدة الألم، مجانين من شدة الهياج، ولكن مجانين مؤقتون، وليسوا دائمين. بانتهاء الهجوم، ينبغي على المرء أن يخبئ سعاره وألمه وهياجه. الألم، كان مسموحا به، يمكن للمرء أن يعود به بشرط أن يحتفظ به لنفسه. ولكن السعار والجنون، لا ينبغي العودة بهما إلى الخندق. قبل العودة إليه، ينبغي على المرء أن يخلع عنه سعاره وهياجه، ينبغي أن يتجرد منهما، وإلا فلن يلعب لعبة الحرب”.
كان إجلاء ألفا إلى المواقع الخلفية للجبهة فرصة لتذكر أشياء واقعية أو موهومة من السنغال، ليصطدم هياج الحرب وجنونها بذكريات الطفولة، وفقدان أمٍّ ذهبت بلا رجعة، وحب الفتاة فاري. ويمتزج ذلك بإحساسه بالذنب، واليأس، ومن ثَمّ قسوته، وجنونه، وحنينه إلى بلده المفقود. كل ذلك يتمثله وينقله في لغة بسيطة منغّمة، مشحونة بالاستعارات والسخرية، ممهورة بقسم “وحق الله”، ملوثة بضلالة الحرب الكبرى. ومن خلال بطله ألفا ندياي، يذكّر دافيد ديوب بما تعرضت له القارة السمراء من استنزاف.
“شقيق الروح” (أو رفيق الروح، كقولنا رفيق السلاح وما بين العبارتين الفرنسيتين frère d’arme وfrère d’âme شبه كبير في النطق والرسم) صفحات كتبت بالدمع والوحل والدم، لتروي سردية حرب صاغها راو ماهر، سبق له أن عالج موقف الاستعماريين من الأفارقة في رواية أولى بعنوان “1889، قِبلة الألعاب العالمية”، عن بعثة تتألف من أحد عشر شخصا قدموا من السنغال للمشاركة في المعرض العالمي بباريس في ذلك العام، فإذا بهم في سيرك بمدينة بوردو، يريد مديره إرغامهم على المشاركة في عرض للزنوج.
جريدة العرب اللندنية
This post is also available in:
English (الإنجليزية)