الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
يتفق الباحثون في مجال الإستراتيجيات الدولية وسياسات الدول على التأكيد، على غرار ما قاله نابليون بونابرت ذات يوم ومفاده أن “سياسة الدول في جغرافيتها”. وكان الجغرافي الفرنسي الشهير “أيف لاكوست” قد أكّد القول أن “الجغرافيا تخدم أوّلاً في صنع الحرب”، كما جاء في عنوان كتابه الذي غدا أحد المراجع الكلاسيكية في دور الجغرافيا بصناعة التاريخ.
وفي إطار دور الجغرافيا في صناعة السياسة وصياغة التاريخ قدّم الصحفي البريطاني “تيم مارشال” كتابا عرف هو الآخر أيضاً منذ صدوره باللغة الانكليزية عام 2015 نجاحا كبيراً. عنوانه الرئيسي هو “سجناء الجغرافيا”، بينما يشير عنوانه الفرعي إلى “عشر خرائط تقول كل ما تريدون معرفته حول السياسة العالمية”.
تجدر الإشارة أيضاً أن هذا الكتاب وجد مكانه في صدارة الكتب الأكثر انتشاراً، عام صدوره 2015، في قائمة “نيويورك تايمز”، كما احتل المرتبة الأولى في قائمة “صاندي تايمز”.. وغدا في عداد الكتب ــ المراجع في ميدان اهتمامه.
وانطلاقاً من “ضرورات الجغرافيا”، الأمس واليوم وبالتأكيد غداً، يشرح المؤلف أن روسيا جهدت باستمرار من أجل ضمّ “كريمي” إلى أراضيها كي تؤمّن امتلاكها منفذ بحري يتيح الوصول إلى المياه الدافئة. ولا يتردد في التأكيد أن فهم سياسات الرئيس الروسي بوتين، وسابقيه من أصحاب القرار الروس، تقتضي البحث عن “الأبعاد الجغرافية” التي تحدد إلى درجة كبيرة خياراتهم الجيوبوليتيكية.
وعلى نفس خلفية الضرورات الجغرافية يتم شرح الأسباب التي دعت الصين إلى عدم التنازل بالمطلق عن “التيبت” بغية تعزيز حدودها مع الهند وسيطرتها على التيبت تؤمّن لها السيطرة على المنطقة وصولاً إلى جبال هملايا …فوجود “تيبت”مستقلّة يعني التخلّي عن مرتفعات غرب الصين وما يزيد من “هشاشتها”.
ونفس المنطق يجده المؤلف وراء زيادة التوتر في منطقة بحار جنوب الصين حيث تزدهر حركة الواردات والصادرات الصينية. بالتوازي تعمل الصين على توسيع نفوذها في العالم أكثر فأكثر عبر السيطرة على أراضي زراعية ــ تتم الإشارة أن نسبة 40 بالمائة من أراضي الصين الزراعية ملوّثة ــ والمرافئ في إفريقيا وغيرها. ذلك للتعويض عن العناصر التي تفتقد لها في جغرافيتها.
وفي جميع الحالات تساهم الجغرافيا في “صياغة السياسة”، خاصّة حيث ترتسم الحدود” وحيث “تزدهر مشاريع تشكّل الإمبراطوريات” وأيضاً حيث “تتوقف طموحاتها” في توسيع مناطق هيمنتها. يلاحظ المؤلف أن خطوط الحدود التي كانت تفصل بين إمبراطوريات الماضي في أوروبا تتناظر كثيراً مع حدود دول اليوم.
وتأكيد المؤلف في هذا السياق أن الجغرافيا لا تزال “حاضرة بقوّة” وتلعب دوراً حاسماً في توجيه السياسة في “عصر التكنولوجيات المتقدمة والأنترنت والطائرات المسيّرة”. هذا إلى جانب التركيز على تأثير عدد من المستجدات على المستوى الكوني الأرضي وليس أقلّها “التغيّر المناخي” و”زيادة سخونة الأرض” وتصاعد التهديد بنشوب “حروب المياه”.
تجدر الإشارة أن تحليلات المؤلف تعتمد بالدرجة الأولى على التجربة الميدانية في حقل الصحافة والتي قادته إلى إجراء تحقيقات في العديد من مناطق العالم الساخنة وفي مقدمها يوغسلافيا السابقة والنزاعات التالية لتفجّرها بين الصربيين والكوسوفيين حول الحدود وأفغانستان والعراق ولبنان وسورية.
وعن منطقة الشرق الأوسط يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن “العالم الذي رسمته اتفاقية سايكس بيكو يعاني من التفسّخ في واقع اليوم. وأن إعادة تركيبه ورسم خارطته بصورة أخرى تتطلب الكثير من الوقت ومن الدماء”، كما نقرأ.
ومن خلال الخوض في آليات ترسيم الحدود والوصول إلى تثبيتها إلى هذه الدرجة أو تلك من الاستقرار يبيّن المؤلف أنها لا تزال ذات أهمية قصوى في سياسة البلدان المجاورة لها أو المعنيّة بها. بهذا المعنى تجعل الحدود الجغرافية في الكثير من الأحيان من البلدان المعنية نوعا من “مساجين الجغرافيا”، كما يقول العنوان الرئيسي للكتاب.
ومن خلال البحث عن آليات “ولادة الأمم” داخل حدود جغرافية معيّنة والقيام بدراسة المجموعات التي قطنتها ولتاريخية النزاعات التي عرفتها يجعل البلدان المعنية بها “سجناء الجغرافيا “بين “الجبال والأنهار والبحار وجدران الأسمنت…”. والإشارة بهذا الصدد أن “الإيديولوجيات “قابلة للتغيير، أمّا “الجغرافيا” فسمتها الأساسية هي الثبات والاستمرار.
لكن هذا لا يمنع واقع أن هذه “الجغرافيا” تشرح بأفضل ما يمكن “الوضع العالمي” القائم بكل تعقيداته وما يعتريه من حالة فوضى في ظل غياب أي نظام دولي جديد ثابت المعالم. بهذا المعنى أيضا تمثّل الجغرافيا إلى حد كبير “محرّك التاريخ”، وأبعد ومن ذلك تساهم في تحديد المصير الإنساني..
تجدر الإشارة أن كل فصل من فصول الكتاب العشرة يفتتحه “تيم مارشال” بـ “خريطة جغرافيّة ” لبلد أساسي في المشهد العالمي اليوم مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا أو لمنطقة تضمّ عدّة بلدان. وبعد تمهيد تاريخي عموماً يبيّن مدى “عمق” العامل الجغرافي في رسم مصير البلدان المعنيّة بتلك الخرائط.. كما توضّح بالوقت نفسه “التحديات” التي تواجهها على صعيد صياغة سياساتها الخارجية وخيارات قادتها الإستراتيجية الأساسية، وعلى رأسها الخيارات الدفاعية.. وعلى هذه الخلفية تتم دراسة السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية والهند وباكستان وكوريا واليابان وبلدان منطقة الشرق الأوسط.
وبالاعتماد على الخرائط الجغرافية والتعمّق في فهمها وشرحها يحاول المؤلف أن يقدّم لقارئه ما يمكن أن “يساعده على فهم أفضل لـ” العلاقات بين الأمم، منذ الأمس وحتى اليوم”. وفي نفس النهج من التحليل يحاول تبيين كيف أن الجغرافيا هي ذات تأثير كبير في نشوب النزاعات “المفتوحة” والتوترات القائمة بين بلدان عديدة وبالتالي تشكل عنصرًا حاسمًا في العلاقات الدولية.
المصدر: مجلة فكر
This post is also available in: English (الإنجليزية)