الوصف
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ليوسف بن عدي بعنوان شرح ما بعد الطبيعة في ضوء منطق أرسطو: نظرية البرهان الفلسفي عند ابن رشد. يتألف الكتاب من 275 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
الكتاب محاولة لمقاربة الإشكاليات التي تصوغ نصوص ابن رشد الفلسفية والمنطقية وطريقة تأويلها وفهمها العلاقةَ الملتبسة بين المنطق وعلم ما بعد الطبيعة، ولمعرفة القول الرشدي في قطاعاته المنطقية والميتافيزيقية معرفةً يستحضر بها المؤلف سمتَي الوحدة والتطور. لذا، يعمد – من أجل بيان معالم القول الرشدي المنطقي وطرائق استعماله في القول الميتافيزيقي – إلى توسل منهج تحليلي مع نقد معرفي ومنهج مقارنة ومعالجة فيلولوجية في قراءة تروم تعقّب التحولات التي تخلق المفاهيم والدلالات في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية والوسيطة.
دور الأقيسة الأرسطية في نظرية الجوهر عند ابن رشد
إن المهم هو بيان منزلة المنطق عند أبي الوليد بن رشد في معرض علاقته بالميتافيزيقا؛ تلك العلاقة التي لم تكن علاقة يسيرة وسلسة بمقدار ما كانت أكثر تعقيدًا والتباسًا وغموضًا، وهي تظهر في دلالات لفظ “المنطق” ذاته، فضلًا عن حضورها في الفلسفة الأولى.
يبدو أن دفاع ابن رشد عن أولوية المنطق في التعليم الفلسفي لم يكن غرضه الرئيس إحصاءَ العلوم وتصنيفَها، بل كان لهذا الأمر خلفية مذهبية وفكرية وبيداغوجية فائقة، بحيث حوّل المنطق من آلة عاصمة للفكر من التغليط إلى موضوع لترسيخ الدور الأنطولوجي للموجودات وسائر الأشياء.
وبهذا الاعتبار، لم يكن من السهل علينا في هذا العمل المجازفة في البحث عن استعمالات المنطق في تفسير ما بعد الطبيعة، علمًا بأن المحقق جمال الدين العلوي أعلن، على نحو قاطع، أن مبحث البرهان عاجز عن إشباع القول المُجدي في النظر في إشكالات الإلهيات والطبيعيات!
من المفيد القول إن استحضار رؤية ابن رشد في تعامله مع تعدد الدلالات والأسماء، كجزءٍ من النظر الفلسفي، هو معطى منهجي ودلالي قد يساهم في حلّ بعض الالتباسات، وفي رفع كثير من المغالطات، على أساس فرضية نهتدي بها في هذا العمل مفادها أن النظر في الجوهر والكلي والماهية والواحد والصورة والمادة … إلخ، هو نظر يتشابك فيه المنطق والميتافيزيقا خفيةً؛ بحيث يجدر بنا كشف بُناهما وآليات اشتغالهما.
كان استعمال كتاب المقولات المنطقي في القول الميتافيزيقي الرشدي إنما يعبّرُ عن التشابك بين النظر المنطقي والميتافيزيقي (الفلسفة الأولى)؛ إذ سوف يتضح لنا – في ما بعد – كيف أضحت مقولة الجوهر، الموسومة بـ “الأولية”، أو “الأفضلية”، أو “المشار إليه”، في موضع الالتباس، وخروجًا عن منهج كتاب المقولات وأفقه المنطقي نحو إنشاء قسمات دلالية جديدة تراهن على حفظ الوجود والعالم ونظامه. بل أكثر من ذلك، يمكننا القول إنّ أبا الوليد لجأ، من أجل إضاءة اسم الجوهر في علم ما بعد الطبيعة، إلى ممارسة التأويل والتفسير، وآية ذلك أننا نجد أنفسنا أمام وجود قسمة للجوهر: 1. القسمة الرباعية الأولى والثانية في مقالة الزاي؛ 2. القسمة الثلاثية التي اعتمدتها مقالة اللام (Λ) من مقالات تفسير ما بعد الطبيعة.
منزلة المنطق الأرسطي المشائي في بنية كتاب ما بعد الطبيعة
لا مِرية في أن النظر في استعمال صناعة الجدل والسفسطة والقول الخطابي في الفلسفة الأولى إنما يساهم في إبراز أصول البنية الميتافيزيقية للقول المنطقي، ثمّ إنه يجعلنا نقف على الالتباسات والصعوبات التي تتوارى خلف استعمال ابن رشد صناعة المنطق في القول الميتافيزيقي.
وبيان ذلك أن من منافع صناعة الجدل دورَها الرائد والرئيس في إنتاج القول البرهاني؛ إذ يستطيع الفيلسوف، أو المبرهن، الاطلاع على الأقاويل المتضاربة والمختلفة في تاريخ الفلسفة. وهذا لا يمنع من مشاركة القول الجدلي القول البرهاني في مواضع معتبَرة، من قبيل عموم النظر والموجود المطلق، بل – فضلًا عن ذلك – التباس بعضها ببعض، كما تقول مقالة الباء؛ ففي هذا المعرض لم يكن بدٌّ من الإقرار بسلبية بعض الأحكام إزاء منزلة الجدل في القول الرشدي؛ إذ إن التغافل عن مستويات توظيف الجدل وحضوره في المتن الرشدي والغرض منه ربما يفوّت علينا فرصة التمييز بين الفلسفة والعلم عند أبي الوليد!
نعرّج في هذا القسم من هذا العمل أيضًا على علاقة صناعة السفسطة بعلم ما بعد الطبيعة، التي لا تخفى على كلّ مطلع وقارئ لمقالات ما بعد الطبيعة لأبي الوليد بن رشد وثلاثيته المشهورة.
كان مدخل نظرنا في هذه المسألة هو النظر في المعنى المغلوط والدلالة المغلوطة وسبل الخروج منهما؛ فمن شروط تحصيل البرهان معرفة مواضع التغليط والغموض في المعاني والألفاظ، ومن ثمة يمكننا القول إن استراتيجية التفصيل الدلالي والوعي بالاختلاف الاسمي كانتْ استراتيجية ابن رشد المفضَّلة، من حيث هي المخرج الحقيقي من فوضى الدلالة والمغالطات المزيفة.
وبهذا الاعتبار، فإن نقد ابن رشد السفسطائيين من أهل ملّة (الأشعرية) في تفسير ما بعد الطبيعة إنما يشي بمدى انتشار المعاني المغلوطة وممارسة التمويه والتضليل والحكمة المرائية.
تتجلى علاقة صناعة الخطابة بالعلم الكلي، أو ما بعد الطبيعة، في بيان دور الأمثلة والتمثيل في تجويد الحلول لبعض المسائل الغامضة والمشككة؛ إذ إن صناعة الخطابة في القول الميتافيزيقي الرشدي ما عادت الغاية منها تحصيل الإقناع فحسب، وإنما صارت أيضًا بيان أن التمثيلات والاستعارات هي منتجة للقول البرهاني من طريق تمثيل القضايا الميتافيزيقية والمعرفية والأنطولوجية، وما عادت غاية القول الخطابي هي منفعة الإقناع، كما هي الحال على مستوى صناعة المنطق، بل امتد في الفلسفة الأولى إلى إثارة الشكوك ووضع النفس أمام حيرة مذهبية وإشكالية هائلة.
الحدود والبراهين في علم ما بعد الطبيعة
لعل من الأمور التي تثير الجدل الفلسفي مشروعية الحديث عن برهانية الفلسفة، أو لنقُلْ مدى استعمال ابن رشد القول البرهاني في نظر علم ما بعد الطبيعة. ويتطلب منَّا الجواب عن هذه المشكلة التمييز بين البرهان كصناعة منطقية وحضورها في الفلسفة الأولى.
كان ابن رشد في سياق حديثه عن مبدأ عدم التناقض يتأرجح بين النظر المنطقي ونظر علم ما بعد الطبيعة، على الرغم من أن فصل القول لم يكن إلا للجانب الأنطولوجي الذي يظهر في تأسيس الوجود من حيث هو موجود في مقالة الجيم، ويضاف إلى ذلك هاجسُها الدلالي والإبستيمولوجي في البحث عن استقرار المعنى.
من التنفّل أن نقر بحقيقة مهمة مضمونها أن دلالة اسم البرهان في نظر علم ما بعد الطبيعة قد اتخذ دلالة التشكيك في منأى عن دلالة التواطؤ والاشتراك في الاسم مما قد يحف بها من انعكاسات نظرية وفلسفية هائلة على العلوم والمعارف. والشاهد على ذلك مدى تحوّل مفهوم الحد من استخلاص ماهية الشيء من الفصول والأجناس إلى بيان وجود الشيء وصدقيته؛ ومن ثَمَّ لم يسعف مفهوم الحد، كمنتج لماهية الشيء، في بيان مبدأ عدم التناقض كمبدأ أنطولوجي، وهذا يعني أيضًا وجود مواضع مختلفة بين البرهان والميتافيزيقا. بل أكثر من ذلك كلّه، نقول إن هذا التحول دليل على تكييف ابن رشد نظرية الحد المنطقية مع النظر الميتافيزيقي، وذلك لاختلاف عالم الحدود في كتاب البرهان عن عالم الميتافيزيقا من جهة النظر.
ومن ذلك نقول إن هذا التمييز الوظيفي في مفهوم الحدود إنما يدفعنا إلى القول إنّ أبا الوليد بن رشد كان يتحدث عن نظرية البرهان الفلسفي القائم على التشكيك والتقديم والتأخير، وعلى استراتيجية المنسوب إلى شيء واحد.