الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
ان سيرة حياة فالتر بنيامين التي كتبها لورنس يِجِر تصور ايمان مفكر متطرف بالمسيح المخلص وتصور نزعته المادية في نفس الوقت. فقد أراد فالتر بنيامين الدمج بين ما هو سياسي وجمالي وديني.
عندما هرب فالتر بنيامين عبر جبال البرانس إلى مدينة بورتبو في كاتالونيا، كانت لديه بالفعل تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الا أنه لم يكن يملك تصريحًا بالسفر خارج فرنسا. وفي بورتبو هددوه بأن يعيدوه مرة أخرى إلى فرنسا، وهذا يعني أنه سيقع في يد النازيين الذين كانوا قد دخلوا باريس بالفعل وكانوا يتعقبونه لأنه يهودي. وفي غرفة بأحد الفنادق أنهى بنيامين حياته بعد أن تناول أقراص المورفين. وكان فالتر بنيامين—الفيلسوف والناقد الأدبي والمترجم—في ذلك الوقت في الثامنة والأربعين من عمره.
لم يبدأ التأثير العظيم لأعمال فالتر بنيامين إلا بعد موته، فجيل كامل من الطلبة نشأ في صحبة عمله “العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيا” وفي صحبة المتسكع في أعماله “الممرات” و”شارع ذو اتجاه واحد” وصحبة “ملاك التاريخ” في أطروحات بنيامين “حول مفهوم التاريخ”. وقد احتفي به الناس كمفكر غير أرثوذكسي في محيط مدرسة فرانكفورت في بدايتها وفي محيط النظرية النقدية أيضًا: إنه قامة من نور، وكان قد بدأ لتوه يهتم بتفكيك “الهالة”.
ان سيرة حياة فالتر بنيامين التي كتبها لورنس يِجٍر، الناشر والمحرر صاحب الخبرة الطويلة في جريدة فرانكفورتر الجماينه الألمانية، تركز على التطور الفكري لهذا المفكر وأعماله التي لم تكتمل أبدًا—كما يشي بذلك أيضًا العنوان الفرعي للكتاب: “حياة إنسان غير مكتمل”. ويحكم حياة بنيامين منهجان: المنهج المادي والمنهج المؤمن بالمسيح المخلّص. إن مجال المواضيع التي يتناولها هذا الناقد الثقافي كان واسعًا وممتدًا: يمتد بداية من علم الخطوط مرورا بالدادية والسوريالية، والتراجيديا في عصر الباروك التي اعتمدت على تيمة الموت، وينتهي باللغة الصامتة للأشياء وعالم السلع المبهم في محلات ممرات باريس. “كانت للميتافيزيقا لديه ومنذ البداية الإمكانية، أو بالأحرى، الميل القوي لأن تنقلب إلى مادية متفردة، مادية ‘الأشياء‘- أما ايمانه بالمسيح المخلص فكان في نفس الوقت ذا صلة غريبة بتلك الآمال العلمانية في السعادة والمرتبطة بالعالم الدنيوي.” هكذا وصف يِجِر الناقد الثقافي فالتر بنيامين، والذي كان يعقد الأمل على كل ما هو جديد بشكل جذري: ففي عام 1913/1914 كتب بنيامين “ميتافيزيقا الشباب” وفي عام 1917 كتب عملا واثقا من نفسه هو “برنامج الفلسفة القادمة”، وكأن آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره.
في البداية يصف يِجِر نشأة بنيامين الذي ولد في عام 1892 ابنا لعائلة تاجر يهودي من برلين. يرسم يِجِر صورة مختصرة للمحيط الذي نشأ فيه بنيامين طفلا، وهو محيط الشريحة العليا من البرجوازية اليهودية التي استطاعت الاندماج في المجتمع، وكان وصفه لفترة شبابه التي كان يحركها الرغبة في الإصلاح مختصرا بنفس الدرجة. ولكن يِجِر يصبح أكثر تفصيلا عندما يصف صداقات بنيامين أثناء فترة دراسته. ففي عام 1915 تعرف بنيامين على جرشوم شولم الذي كان آنذاك يدرس الرياضيات ثم أصبح فيما بعد مؤرخا في الأديان وعالما متخصصا في الكابالا. وقد هاجر جرشوم شولم في عام 1923 إلى فلسطين. ومن خلال تصوير هذه الصداقة مع شولم أوضح يِجِر كيف أن بنيامين كان يناقش ويتناول قضية يهوديته.
“كان المجال الثقافي الذي يتحرك فيه بنيامين في الفترة بين 1915 و 1925 مليئا بالترقب لأحداث وتحولات تاريخية عالمية هائلة. كانت الصهيونية قد بدأت لتوها انهاء حوالي ألفي عام من المنفى للشعب اليهودي.” وعلى عكس شولم، الذي تحول إلى الصهوينية مبكرا، والذي رفض بشكل قاطع اندماج عائلته في المجتمع، لم تلعب اليهودية عند بنيامين الا “دورا جزئيا” كما ذكر هو بنفسه في خطاب إلى “لودفيج شتراوس”، فهو لم يكن يفهم تماما ماذا تعني “الهجرة الصهيونية” و “الوطنية اليهودية”.
يؤكد يِجِر أن تكوين بنيامين الثقافي قد حددته علاقاته الشخصية. ففي سويسرا، حيث كان يعيش في الفترة بين 1917 و1919 مع زوجته دورا وحيث كان يحضر رسالته للدكتوراه، تعرف في جزيرة كابري على الممثلة آسيا لاسيس “المرأة اللاتفية القادمة من مدينة ريغا والمؤمنة بالبلشفية”، وكان تأثير هذا اللقاء على بنيامين مثل الصعقة الكهربائية الشيوعية”. وفي نهاية العشرينيات من القرن العشرين اتصل بنيامين بالكاتب برتولت برشت، وهنا استطاع بنيامين أن يعمق طريقة تناوله للماركسية. وفيما بعد، في منتصف الثلاثينيات، بحث بنيامين عن “خلاصه عن طريق ابطال مفعول السحر”. وهكذا ركز في أطروحاته على السلعة، ويلاحظ يِجِر في أسى أن بنيامين كان ” يُسقط في جمود، بل وبشكل اقرب للقسر، كل اكتشاف نظري جديد على الدافع الوحيد وهو الرأسمالية “. وهكذا بدأ بنيامين، وهو المتسكع ومؤلف الصور الذهنية اللامعة، يوجه نفسه أكثر فاكثر وفق “فكرة ثابتة لا ترحم”.
لم يكتب يِجِر سيرة حياة فالتر بنيامين وفقا لمحطات حياته وبالترتيب الزمني المتصاعد، بقدر ما كتبها وفقا “للتقلبات الميتافيزيقية”. كما لم يلعب المحيط العائلي دورا كبيرا في هذه السيرة مثل تلك الأدوار التي لعبتها العوالم الفكرية التي كان يتحرك فيها الناقد الثقافي فالتر بنيامين. المبهر هنا هو كيف أن يِجِر يرسم بدقة تنقل بنيامين بين مفهوم السلعة وبين مفهوم الشيء. والمبتكر في هذه السيرة أيضا كيف أن يِجِر يؤكد رأيه عن “معالم وجه” الفيلسوف من خلال انطباعات معاصريه مثل أدورنو والمصورة جيزيل فرويند وحتى قارئة الكف شارلوته فولف (حتى لو لم نكن مقتنعين باتباع طريقة قراءة معالم الوجه). وتختلف هذه السيرة عن سيرة حياة بنيامين السابقة لأن يِجِر يركز فيها أساسا على شخص بنيامين الذي كان لديه شغف جارف بالمناطق التي تتقاطع فيها الحدود في المعرفة، وكان يهتم اهتماما شديدا بدمج الأفكار السياسية مع الأفكار الجمالية والدينية، وهكذا استطاع يِجِر الاقتراب بشكل كاشف من بطل قصته (بدون أن يسقط في نزعة التبجيل).
المؤلفة:
يوتا برسون ناقدة أدبية ومتخصصة في العلوم الثقافية، تكتب أيضًا لجريدة “زود دويتشه تسايتونج” و:ليتراتورين” و”دي تسايت”. كما تشرف بوصفها محررة على قسم الكتب المتخصصة في مجلة الفلسفة “فيلوزوفي ماجاتسين”.
This post is also available in:
English (الإنجليزية)