الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
إناء يمور بالآمال والمخاوف
إن هذا المشهد، بحسب ما حكته آنا كاتارينا هان في أحد اللقاءات، كانت هي نفسها قد حلمت به في الحقيقة. وأرادت أن تنسج على منواله رواية قصيرة (نوفيلا). ومن الواضح تماما أن الموضوع اتسع وتشعب وترامت أطرافه في كل الاتجاهات. والنتيجة ماثلة أمامنا الآن في صورة رواية قوية يزيد عدد صفحاتها عن الثلاثمائة صفحة: إنه كتاب الخيالات والتصورات الوحشية، الذي تتلاشى فيه عن قصد، المرة بعد الأخرى، أية حدود فاصلة ما بين التصور والواقع واللامعقول. لقد أثبتت آنا كاتارينا هان في روايتيها السابقتين اللتين لفتتا الأنظار جدارتها كمتخصصة في المخاوف، والأمراض العصبية المتشعبة، المنتشرة لدى الطبقة الوسطى الألمانية، والتي تعد مدينة شتوتجارت، ربما ليس على سبيل المصادفة تماما، مركزا لها، بموقعها المتميز وتركيبتها البرجوازية، وهي ذات المدينة التي تعيش فيها المؤلفة نفسها. لكن هذه المرة تنقل هان الأحداث المعاصرة في روايتها إلى أسبانيا- لتعود في الأخير إلى بلاد الشفابن مرة أخرى.
تغادر آنا كاتارينا هان بالتدريج أرض السرد الواقعي- لكنها تحرص في الوقت نفسه أن لا تفقد روايتها الصلة بالواقع. لا تخبر أنيتا السلطات مثلا ولا حتى أخاها بوفاة والديها. بل ترتدي فستان بلانكا وتنزلق بهذه الطريقة إلى حياة والدتها. حين ترتدي الفستان لا تعود هي ذاتها، ولا حتى بالنسبة لبيئتها المحيطة كذلك. أنيتا تصير بلانكا. وتنغمس في شبكة كثيفة الحبك مضفورة من علاقات الحب وتورطات الماضي. إن المسألة لتحتاج إلى براعة فنية وإلى لغة واضحة ناصعة في الوقت نفسه، من أجل الحفاظ على تماسك كل خيوط الحكي. هذا ما تتقنه آنا كاتارينا هان. فحيثما نثرت في البداية إشارات أو خلّفت آثارا، وكأنها تنسج على نفس منوال حكايات الأخوين جريم الخرافية، ثم تضفرها في قصة رومانسية سوداوية يكتنفها الغموض، نجد السرد يتصاعد بما يُمكُن لهذا الموتيف المركب من أن يسيطر على سائر الرواية.
يتعلق هذا الموضوع أيضا بواحد من شخصيات الرواية الرئيسة، أعني الكاتب جيرت دو رويت، الذي لابد أنه لعب دورا جوهريا في حياة كلا الأبوين، فهو شخصية أسطورية. إذ ليس ثمة صورة له، بخلاف تلك التي يظهر فيها مهرولا ليخرج من الصورة في أحد مؤتمرات المجموعة 47. بل إن قدمه المكسوة بالحذاء ذي الرقبة العالية هي فقط كل ما يظهر في الصورة. دو رويت، المولود عام 1930، لأبوين ألمانيين كما يتضح، يعيش في أسبانيا، ويصبح هو الوعاء الذي اختارته آنا كاتارينا هان بتلذذ لتجمع فيه كل الآمال والمخاوف. ثم إن التسجيلات عن خلفيات حياته، والتي تم إنقاذها عبر طرق ملتوية، هي ما سيعود بنا إلى ألمانيا ثانية، إلى البرجوازية، إلى النازية.
قد يبدو الأمر مشينا، أعترف بهذا، لكنه ليس كذلك. بل هو منطقي وينتمي إلى الأدب الرفيع. وهو يترك في كل حين الإمكانية مفتوحة، كيما تقوم أنيتا التي لفحتها حرارة الجو الإسبانية، وأنهكتها أشباح عقلها حد الاحتراق، أن تقرأها على النحو الذي تريد. ويبدو أن آنا كاتارينا هان قد استمتعت أيما استمتاع بإنشاء هذا الحقل العريض من الإيحاءات والإشارات الأدبية. لودفيش تيك يقابل فيل فيسبر يقابل روبيرتو بولانو. أعترف كذلك أن ليست كل خطوط الرواية تقود نحو هدف محدد. لكنها في العموم تسهم في خلق أجواء مزعجة وسوداوية عن مدريد اللحظة الراهنة، كما كانت الحال في ماضي ولايات شفابن، حيث يقبع وراء كليهما السبب نفسه، والذي في الأخير يرتبط بالسياسة، والتردي الأخلاقي. لكل هذا فإن “فستان أمي” أكثر من مجرد لعبة.
This post is also available in: English (الإنجليزية)