الوصف
صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر أطروحة (فقه الواقع في التراث السياسي الإسلامي نماذج فقهية وفلسفية واجتماعية) لمؤلفه الأستاذ مدحت ماهر الليثي.
يتميز الكتاب بعدة أمور: أولها أنه أطروحة ماجستير تتميز باللغة الأكاديمية والموضوعية البحثية الرصينة والتي تمت تحت إشراف أستاذ النظرية السياسية الأستاذ الدكتور سيف الدبن عبد الفتاح.
ثانيا: شمولية الدراسة لاستقراء ومسح فترات طويلة في أدبيات الفكر السياسي التراثي الإسلامي بمختلف مدارسه ومداخله المتنوعة والمتعددة.
ثالثا: حضور المنظور المقارب والمقارن الذي استخدمه الباحث في قراءة التراث بفقه لغته وإتقان منهجيته وامتلاك كذلك لمنظور أدوات الاجتماع والسياسة الذي مكنه من قراءة التراث بشكل مقارب ومقارن ومركب وأمكنه من إدراك الفوارق والمفارقات والمتشابهات كذلك.
يتناول الكتاب عدة مداخل متمثلة في ثلاثة اقسام أولها: المدخل الفقهي لتصوير الواقع السياسي، ثم المدخل الفلسفي لتصوير الواقع السياسي، ثم المدخل التاريخي والعمراني (مدرسة ابن خلدون).
فصول الكتاب:
الفصل الأول: مقدمات أساسية من عموم الفقه إلى خصوص الفقه السياسي
الفصل الثاني: منهجية نماذج فقهية في تصوير الواقع السياسي
الفصل الثالث: منهجية المدخل الفقهي لإدراك الواقع السياسي وتصويره
الفصل الرابع: محددات الرؤية الفلسفية للواقع السياسي وخصائصها
الفصل الخامس: صورة الواقع السياسي في فلسفة الفارابي
الفصل السادس: منهجية الفارابي في إدراك الواقع
الفصل السابع: الرؤية الخلدونية العامة للسياسة والمجتمع الإنساني: محددات وخصائص
الفصل الثامن: صورة الواقع السياسي عند ابن خلدون
الفصل التاسع: الخلاصة المنهجية للمدخل العمراني في إدراك الواقع السياسي
مقدمة الدكتورة هبة رءوف عزت:
هذه الدراسة العلمية بحث رصين في الماهية والمنهاجية، ماهية السياسة في تصور الفقهاء والفلاسفة والمؤرخين المسلمين، ومنهاجية دراسة المجال السياسي في علاقته بمجالات الحياة الاجتماعية والعسكرية والعمرانية.
وهو بحث في منطق التقدير والتدبير والتغيير، التقدير للواقع والتدبير لعلاقات القوة والحقوق ، وما يطرأ عليه من تحولات قد تصل لخلو الزمان من إمام وجهل الناس بالشريعة.
نماذج الأنساق الفكرية تتنوع في هذا البحث بين الفقية والأصولي والفيلسوف والمؤرخ، ننعدد أدوات الاقتراب من الظواهر ومناهج التناول، لكن يجمعها الوعي بحاكمية المرجعية على الواقع وقدرة الواقع على إنشاء أسئلة جديدة تستلزم الاجتهاد وتستدعي تنعوع أدوات المعالجة.
هل كان لدى المسلمين فكر سياسي ونظرية للدولة يمكننا اليوم إعادة إحياءها؟
ليس هذا هو السؤال الذي تبحث فيه هذه الدراسة، بل كيف أدرك الفقية والفيلسوف والمؤرخ الواقع وكيف نستخلص أدواته المنهاجية.
هذه دراسة في المنهج ورغم تبدل الوقائع أو تكرارها بصيغ أكثر تعقيدا يبقى المنهج هو الدرس المستفاد والعقلية العلمية هي النموذج الذي يستحق التظر والفهم.
ليست دولة الحداثة التي تهيمن اليوم هي الدولة التي كان يقصدها الخطاب الفقهي والفكري الإسلامي التراثي، فقد قصد بالدولة الُلك والسلطة، لكن أسئلته تظل هي الأسئلة الجوهرية التي ظل العقل الإنساني يبحث فيها ويتلمس إجاباتها رغم تنوع الأنظمة وأنماط السلطة والسلطان.
وإذا كان الفقه -في اصطلاح فقهاء الإسلام- هو العلم الذي يدرس “الأحكام الشرعية”العملية وكيف تُستنبط من أدلتها التفصيلية، وموضوعه هو “الحكم الشرعي”، فإن السياسة كما أدرك الجويني معظمها من “المظنونات” والاجتهاد فيها لا شك كما نعلم يدور مع مستجدات وإدارة تنازع وإزمات، لذلك فتزويد الفقيه والمفكر بالأدوات المنهاجية والاجتهادية هو أهم ما يمكن أن يعينه على التعامل مع المجال السياسي.هذا العقل المتشرب بالوحي الذي يعرف زمانه هو الذي ينتج الفهم العميق والتدبير الدقيق ويوازن مصالح الأمة من أجل إقامة موازين العدل، وسعادة الدنيا والآخرة التي هي غاية السياسة كما يُذكرنا الفارابي.
ولم يكن انشغال الفقيه بالسياسة فقط إنشعال بالإدارة والبنيان، بل كان بالأساس انشغال باستكمال أسس العمران ، وكما وعيت عقول كل نماذج الفقهاء الذين درسهم الباحث (الماوردي والجويني وابن تيمية) وأهل الفلسفة (ومثالهم الفارابي) وأهل التاريخ الاجتماعي (ابن خلدون) فإن هذا العمران لا يقوم فقط بهيكل للسلطة بل بمنطق للاجتماع والتمدن –صعودا وهبوطا مع منظومة القيم والروابط الاجتماعية وطبيعة الفضائل التي يؤمن بها الناس وفهمهم لشرع الله أخلاقا ومعاملات وأحكاما.
أما العمل المنهجي فهو الاكتساب والاجتهاد الذي عُرف بـ”الاستنباط”؛ أي استخراج الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي لتنزيله كي يُصلح واقع الناس. ومنهجه يعتمد على معارف وأدواتٍ هي عبارة عن:مبادئ عقدية، وقواعد ومعارف لغوية، وقواعد فقهية- لذلك كان من الأهمية بمكان فهم أصول الفقه وليس الحصاد الفقهي فحسب.
وكما لاحظ الباحث فقد مثّل علم “أصول الفقه”-وفق مفهوم علماء المسلمين للعلم والمنهج- نموذج المنهج العلميّ في التفكير الفقهي والبحث التشريعي، وترسخت العلاقة بينه وبين علم الفقه، وصارت كالنسبة بين البناء وأساسه، كما منحت هذا العلاقة الفقهَ الإسلامي ما يتميز به من سمتي الثبات والحركة، والصلاحية العابرة للمكان والزمان والأشخاص والأحوال.
لكن من الدروس المستفادة من هذه الدراسة أيضا خلاف البحث في المنهج هو أهمية فهم التضنيف والتبويب، فقد وضع العقل عبر التاريخ بعض المفاهيم تحت عناوين مختلفة وصنفها تصنيفا متفاوتا، ولعل بعض الاجتهاد ينبغي أن يتصرف ليس فقط لتجديد الأدوات ولا لمتابعة المستجدات بل أيضا لمراجعة التنصيفات وخرائط المفاهيم وتقطعات العلوم وإعادة ترسيم حدودها.
ما غاب عن هذه الدراسة هو باب الفطرة والرحمة، ربما لو ضم الباحث أبي حامد الغزالي لاكتملت الرؤية، فالسياسة تنبني على فهم للطبيعة الإنسانية وهذه عندنا في التراث أبواب تحدث فيها فقهاء لهم باع في الأصول مثل الإمام الغزالي، تلميذ الجويني ووارث علمه. وليس المقصود هنا هو الرحمة بالمعنى الاجتماعي بل أيضا ارتباط الرحمة والأخلاق بمقاصد المنظومة السياسية، أي ما نسميه اليوم “أنسنة السياسة” خارج منظومة القوة، وهو ما يدخا أيضا في باب الفلسفة العملية كما أوضح الفارابي، وربما يستدرك الباحث ذلك في الطبعة الثانية ويواصل نظره ومقارناته.
وليس هذا فقط بحث نظري، بل هو في اشتباك العقل مع واقعه، فلم يكن الفقيه أبدا منعزلا يبحث من مكان بعيد، بل كان معظمهم قضاة وأهل سفارة ونِظارة ومنهم من جاهد بقلمه فتشدد في النصيحة كالجويني ومارس السياسة كابن خلدون ومنهم من جاهد بسيفه ومات في سجنه كابن تيمية.
وقد كان سيف الوقت سببا في انهاء الباحث هذه الدراسة للماجستير تحت إشراف أستاذه سيف الدين غبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، واضطره اتساع خارطة الفقه السياسي الموروث، وتداخله في سائر أصناف الكتابة التراثية في العقيدة والتفسير والحديث والأدب والتاريخ والأخلاق والنصيحة، لإعطاء الأولوية للتصنيف الفقهي المتخصص في الحقل السياسي فعاد لكتب السياسة الشرعية تحديدا، لكن لأن الدرس المستفاد هو المنهج فنحسب أن دراسة مطلوبة أيضا في ملامح النظر السياسي في كتب المنهج الأصلية، ورسما لخرائط المفاهيم ذات الصلة ببجث المجال السياسي من كتب الأصول.فكيف نقرأ للجويني والماوردي فقط الغياثي، والأحكام السلطانية ولا نطالع البرهان في أصول الفقه، ولا نهاية المطلب في الفقه؟ ، وكيف نفهم ابن تيمية دون أن ننهل في النظرية السياسية من درء تعارض العقل والنقل، وهكذا.
تبقى ثلاث ملاحظات عامة تحتاج من الباحث والجماعة العلميةعناية في المستقبل:
– تفعيل النظر في دور الأمة في المجال السياسي ، وقد تعرضت الدراسة ذلك لكن ربما يحتاج ذلك دراسة منفردة تجمع شتات ما كتبه الفقهاء عن سلطان الأمة بمثلما ما اهتمت الدراسات بنظريات الإمامة. فقد طغى الإهتمام بالإمامة على باقي مساحات الخيال السياسي الفقهي بمثل ما طغى في النظريات المعاصرة الاهتمام بالدولة على ما عداها ، وحجب هذا لفترة طويلة النظر في ديناميكيات الفعل السياسي قديما وحديثا.
– محاولة عبور الفجوة اللغوية، فالباحث يأتي من حقل العلوم السياسية وهذه رسالة ماجستير في العلم، لكن لغته الفقهية تجعل الاستفادة منها من قِبل طلاب العلوم السياسية أمرا عسيرا، وهذه مسألة تحتاج رعاية كي لا تكون هذه الدراسات العميقة خارج التيار العام للنقاش النظري ليس فقط في العالم الإسلامي بل على مستوى حقل النظرية السياسية عالميا وهذا مهم.
– محاولة النظر في الروابط بين واقع الفقهاء وواقع الأمة اليوم، فهناك ثوابت وهناك متغيرات، ودور الباحث هو تجسير هذه الفجوات وبيان الأشباه والنظائر في الأحوال، فنحن في النهاية بشر نعيش في نفس العالم ومن أفلاطون لشيشرون لكونفوشيوس للجويني لرولز وتشارلز تايلور ندور في دوائر متقاطعة. ما صلة مفهوم الملة عند الجويني بجدل تايلور حول العلمانية، وماذا يمكن أن يتعلم جادامير في الحقيقة والمنهج من ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل..وهكذا.وربما لو تجاوزنا دراسة الفقهاء للبحث في المسائل والأسئلة الكلية تكون الفائدة في المستقبل أكبر.
بقيت تحية واجبة للباحث في ختام هذه المقدمة، فقد عرفته باحثا مدققا وأمينا، ودارسا حرص على ألا ينهي بحثه إلا وقد أنهي دراسته الشرعية في الأزهر بالتوازي، فهو من جيل قرر أن يجمع بين العلوم السياسية والعلوم الشرعية بجدية ودأب، بل عمل لفترة في دار الإفتاء المصرية ليرى عن قرب اشتباك العقل الفقهي مع النوازل المعاصرة في الاجتماع، وهو محرر لحولية أمتي في العالم وأعداد الأمة في قرن التي أصدرها مركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة، فنحن أمام رائد من رواد المستقبل لهذه الأمة.
عن المؤلف:
• مدحت ماهر الليثي .. المدير التنفيذي لمركز الحضارة للدراسات السياسية
• حاصل على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة وكذلك ليسانس الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة.
وهو كذلك عمل مديرا تنفيذيا وباحثا رئيسيا بمركز الحضارة للدراسات السياسية وعمل في الوقت نفسه مديرا للإعلام الإفتائي بدار الإفتاء المصرية.
• وهو مؤسس الموقع الرسمي لدار الإفتاء المصرية الحالي. وقد قام بتدريس كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي بالجامع الأزهر الشريف.
• باحث دكتوراة في الفكر السياسي