الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
يتملّك شريف مجدلاني هاجس التجربة اللبنانية في مختلف مساراتها، من نشأة لبنان الحديث إلى عصر الزهو فإلى الوقوف على مشارف الانهيار. يرويها عبر التأريخ الفنّي، إذا جاز التعبير، لبعض البيوتات السياسية-الاجتماعية اللبنانية، حقيقيّة أكانت أم مختَلَقة، من التي ساهمت في قيام الوطن اللبناني وتحقيق ازدهاره، وربما قادته في النهاية إلى الحروب والتهاوي. هذا ما نلمسه بوضوح في رواياته الخمس، وآخرها “فيللا النساء” الصادرة بالفرنسية عن دار “سوي”.
تدور الرواية حول بيت اسكندر حايك، الوجيه وصاحب معمل النسيج الموروث، الذي ازدهرت أعماله ونجح قبيل الحرب اللبنانية في أن يبني له زعامة جنباً إلى جنب مع سائر وجهاء البلد. لكنّ مسار الأمور تغيَّر بموته المفاجئ، وتشابكت الحوادث وتفاقمت مشكّلةً حبكة الرواية التي ينقل وقائعها إلينا سائقه، الراوي، من على سفرة درج المدخل حيث تعوّد الجلوس في أوقات فراغه وانتظاره متأملاً حركة البيت وأهله وزوّاره في أيام عزّه.
يخلو البيت بعد وفاة الوالد من رجاله. نولا الابن البكر يتزوّج ويعيش مستقلاً مع عائلته، منصرفاً مع زوجته إلى حياة البذخ والترف ما يقوده إلى الغرق في الديون، وخصوصاً بعدما فشل، بعناده وتعنّته في ما سعى إليه من تطوير لصناعتهم دونما حاجة. فيما الابن الثاني حارث، شاب مجازف يغادر البلاد ويتنقّل وراء المغامرات وصولاً إلى أقاصي الشرق. بذلك بقي البيت في عهدة نسوة ثلاث، ماري أرملة اسكندر حايك التي كانت قد زُوِّجت به زواج مصلحة، والتزمت حياة الأسرة حتى بعد وفاته بأَنفة وكبر؛ مادو شقيقته العانس المتبرجِزة الساعية إلى الحفاظ على مجد العائلة وإرثها ودارتها، وكارين ابنته المتأرجحة بين حياة لاهية متحرّرة لامبالية، وبين مراقبة ومتابعة ما يجري حولها من وقائع في المنزل اضطرَّت في مرحلة ما إلى التدخّل فيها. تتعقّد الأمور مع نشوب الحرب اللبنانية وبلوغ مجرياتها البيت ومحيطه.
يوقّع شريف مجدلاني حوادث روايته على مسرحَيْن متجاورين متناقضين في واقعهما وحجمهما. عالم الحرب الجارية في الخارج على امتداد الوطن، وعالم البيت المحدود ببنائه وما يحيط به من أملاك إضافة إلى المعمل وتوابعه. على المواجهة بين هذين العالمَين – المسرحَين، تنعقد بنية الرواية بحوادثها العادية البسيطة التي شهد لبنان الكثير منها في حربه الداخلية. وهي هذه البنية التي صنعت جماليّة الرواية.
إنها رواية “المكان” العزيز على مجدلاني كما يبدو في مختلف رواياته. والمكان هنا هو “الفيللا” التي تتحوّل مسرحاً مؤطراً تدور فيه الحوادث والصراعات على مستويين إثنين، داخلي وخارجي. في الداخل الصراع بين “فوق” وتحت”. مادو، شقيقة الزعيم، تصرّ على ملازمة غرفتها في الطابق العلوي رغم خطر تعرضه للقصف، في ما يشي بتمسكها بالموقع الفوقيّ وبالقرار، إلى أن أصاب القصف غرفتها ونجت بأعجوبة واضطرت إلى النزول إلى الطابق الأرضي حيث بقيت ماري، الواقعية والعقلانية، ومعها ابنتها كارين اللامبالية والرابطة الجأش في مواجهة رجال الميليشيا الطامعين في الدارة وفي كارين. باتت الفيللا بإدارة نسوة ثلاث، بعد مزايدة عنيدة بين مادو وماري حول من منهنّ تغادر أولاً ومن هي الأحرص على الحفاظ على الدارة. جمعتهنّ الحرب في مكانٍ واحد (مرتبة واحدة) وأمكنهنّ مواجهة الخطر الداهم، مع الحرب الجارية في الطرف المقابل، ومع رجال الميليشيا المحلّية الذين احتلّوا المعمل وسعوا إلى التحكّم بمجريات الأمور في الفيللا ومحيطها، وكل ذلك في انتظار انتهاء الحرب، أو في انتظار منقذ رآه الجميع، خصوصاً السائق – الراوي، في الابن الثاني حارث المسافر في أصقاع بعيدة ولا تصلهم منه سوى أخبار متقطّعة غامضة.
المستوى المكاني الثاني هو بين “الداخل” و”الخارج”، داخل الفيللا بناسها، وخارجها حيث عناصر الميليشيا استولوا على الأراضي التابعة لها بما فيها المعمل، وباتوا يمثّلون خطراً متزايداً على النسوة في الداخل. أما المستوى الثالث فهو بين “القريب” (موقع الفيللا في عين الشير) و”البعيد” (حي البير حيث خطّ التماس وما وراءه)، وفي ذلك طبعاً إشارة إلى الحرب الشاملة الدائرة في البلاد.
بين هذه المستويات الثلاثة أقام شريف مجدلاني بنية روايته، وهو لم يسعَ إلى رواية الحرب الشاملة مباشرة التي بقيت تفاصيلها غائبة كلّياً تقريباً. لكنه قام بعملية “إسقاط” الحرب الخارجية الشاملة على المكان في الداخل حيث ساد التناحر واحتدمت “حرب صغيرة” تشبه بأسبابها ومجرياتها ومآلها ما صارت إليه الحرب في الخارج. من زوال كبار الرجالات (اسكندر حايك) إلى جماعة الحياة الدنيوية الفارغة والمتبجِّحة التي لم تعرف كيف تبني وتطوّر (نولا)، إلى البورجوازية المتعالية العقيمة الرافضة للتعاون إلى أن تحلّ بها الكارثة (مادو) إلى العقلانية والثبات وحسن التدبير (ماري) إلى الجيل الجديد الساعي إلى عيش حياته ويجد نفسه في مأزق التوفيق والتسوية بين مختلف الأطراف (كارين)، إلى الناس العاديين المكتفين بالمراقبة وانتظار خلاصهم بخلاص أهل الفيللا (السائق والخدم). لكن ما بقي يجمع بين النسوة الثلاث هو التمسّك بالمكان – الأرض (الفيللا)، وهو موضوع الصراع مع الخارج القريب، مع الميليشيات التي تعاقبت وتبدّل قادتها حتى القائد الأخير سلّوم.
تتصدّى النسوة بعناد وثبات لسلّوم ويقاومنه بعدما زاد ضغطه واشتدّ خطره على الفيللا (ويستحققن على ذلك ثناء حارث ومن هنا عنوان الرواية “فيللا النساء” مع ما فيه من تلميح أقلّه إلى خلوّ “الفيللا – الوطن” من الرجال وقدرة المرأة على النهوض بدورهم). ولم تنتهِ هذه الحرب إلا بعودة حارث “ابن البيت” المغامر الجريء أو المتهوّر ليدخل في مواجهة جنونية مع سلّوم. كأنّ مجدلاني يعرف أنه لا بدّ من حلّ للمكان (الفيللا – الوطن) وأنه لا بد لهذا الحلّ من مجازفة جنونية لها أبطالها في مخيلة الناس وهواجسهم.
يُقرأ شريف مجدلاني بلغته السلسة وجمله الرشيقة وصوره البسيطة المؤثرة والآسرة. ويُقرأ بشغف لأنه يتقن ببساطة لعبة “التخييل” “والبناء” فلا تقع روايته في السرد التقريري والوصف المباشر لمجريات الحروب ومشاهدها على غرار ما يتدفّق علينا اليوم تحت اسم “الرواية”.
This post is also available in:
English (الإنجليزية)