الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
تدور من حولنا أحداث عالميّة متشابكة لا نستطيع فهمها أو تبرير وقائعها نظراً لوجود حلقة مفقودة على الدوام يحيط من حولها التعتيم الكامل من قبل الأجهزة المعنيّة لدرجة لا يملك معها المثقف أيَّة قدرة على التفسير أو التبرير، فيُذعن لقرارات لا يعلم لها مصدراً ولا سبباً، ويحاول تصدير علم زائف عن جهل محقق خوفاً من الإعلان على الملأ أنَّه لا يفهم ما يحدث، وهذا للأسف كلّ ما تفعله النخبة خاصّة في عالمنا الثالث، إذ يتصدّرون مشهد الفتوى والفهم، في حين أنَّهم لا يملكون من هذا الزعم قليلاً أو كثيراً.
من هذه القضايا التي تثير الذعر والإرباك على سبيل المثال، قضيّة صندوق النقد الدولي واختلاف معاملاته من دولة إلى أخرى، وفق آليّة منظّمة ومحكمة يجهلها العامّة بما فيهم من نخب ومثقفين، هذه القضيّة لا يمكن فهمها إلّا في إطار هذا الكتاب الذي يبحث عن العلاقة الثنائيّة بين العنف والتنمية من ناحية، والعلاقة التداخليّة التي تربط الدول بالمؤسّسات الدوليّة كالبنك الدولي من ناحية أخرى، ليُوضح ويفسّر غوامض ما لم تفهمه العامّة، وما لم تدركه النخبة، وما لم يُصرّح به الساسة.
وتأتي أهميّة هذا الكتاب من محورين هامّين: المحور الأوّل يمثله محرّرو الكتاب الذين اختصّوا بمثل تلك الدراسات وطبّقوها كدراسات ميدانيّة على بعض الدول في العالم لدعم وجهة نظرهم في الترابط بين العنف وإحداث التنمية وتأثير الأوَّل سلباً على الثاني لدرجة قد تصل إلى حدّ المجاعة في بعض الدول، كما هو كائن في الصومال على سبيل المثال، أو كما هو ممكن الحدوث للكونغو أو بعض الدول الإفريقيّة الأخرى.
هؤلاء المحرّرون يعدّون علماء في هذا المجال، فدوغلاس نورث (1920 ـ 2015م) هو اقتصادي وأكاديمي أمريكي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2003م، وكان أستاذاً في الآداب والعلوم بجامعة واشنطن في سانت لويس، كما كان خبيراً بارزاً في مؤسّسة هوفر بجامعة ستانفورد، وله اثنا عشر مؤلفاً، منها كتاب شهير اسمه: “المؤسّسات والتغيير المؤسّسي والأداء الاقتصادي”، صدر عام 1990.
أمّا جون واليس، فهو أستاذ الاقتصاد في جامعة ميريلاند، ومؤرّخ اقتصادي متخصّص فى الماليّة العامّة للحكومات الأمريكيّة، وقد وضع مع دوغلاس نورث وباري وينجاست إطاراً مفاهيميّاً لدراسة اقتصاديّات التنمية في الدولة النامية في كتابهم “العنف والأنظمة الاجتماعيّة” الصادر عام 2009. أمّا ستيفن ب. ويب، فهو خبير اقتصادي عمل لدى البنك الدولي أكثر من عشرين عاماً، وما زال يعمل لديه حاليّاً مستشاراً. أمّا باري وينجاست، فهو أستاذ في قسم العلوم السياسيّة بجامعة ستانفورد، وخبير اقتصادي بارز في معهد هوفر بالجامعة ذاتها، وعضو الأكاديميّة الأمريكيّة للآداب والعلوم، وله عدّة مؤلفات هامّة في المجال ذاته.
أمّا محور الأهميّة الثاني لهذا الكتاب، فينبعث من قضاياه الرئيسة التي يحاول علاجها ويبسطها لعموم المثقفين، حيث جدليّات عدّة وثنائيّات مختلفة: العنف والتنمية…السلم والتقدّم…النهضة الاقتصاديّة والفساد الإداري …الجماعات المسلحة وأمن المجتمع …وغيرها من الثنائيّات التي حاول الكتاب العروج عليها لا تقديماً لحلول وإنّما استقراء للواقع واستشرافاً لشكل المستقبل.
ويتكوّن الكتاب من عشرة فصول، تربطها وحدة عضويّة تتمثل في وحدة الموضوع والمضامين والمشكلات التي تبحثها، حيث تحديد المصطلحات والمفاهيم، وحيث إطار عام يربط تلك المشكلات بنسيج واحد، وحيث يمتلئ الكتاب بالجداول التي تبيّن حجم الجماعات المسلحة القانونيّة وغير القانونيّة في الدول التي اتخذها نموذجاً لتوضيح الصلة بين العنف والتنمية في تلك المجتمعات، كما لم يفت محرّري الكتاب التأكيد على ملازمة التخلف الاقتصادي للحروب والصراعات الداخليّة.
ينبعث التساؤل الأوّل عن الأنظمة الاقتصاديّة المختلفة التي تنتهجها الدول وأثر الأنظمة السياسيّة في اختيار الأنماط الاقتصاديّة المتبعة، حيث الأنظمة المقيدة، والنظام المفتوح، حتى تلك الأنظمة المقيدة تنقسم إلى عدّة أقسام: أنظمة مقيدة هشّة، وهي التي يغزوها العنف ويسيطر عليها تماماً، وبالتالي تضيع تحت سياط جلّاديها كّل الفرص الممكنة للتنمية، وأنظمة مقيدة أساسيّة، وهي التي تتوازن فيها التنمية مع العنف بدرجة ما، وأنظمة مقيّدة ناضجة وهي التي تغلبت بطريقة ما على العنف وأصبحت تخطو بثبات نحو الأنظمة المفتوحة، مثلما هي الحال في تشيلى وكوريا الجنوبيّة.
ويلخص محرّرو الكتاب تلك القضّية، العنف وأثره على التنمية بالقول: “لقد كان النهج القياسي يبدأ بافتراضات المدرسة الكلاسيكيّة الجديدة التي ترى أنَّ النمو سوف يحدث كلما طرحت الفرص المربحة نفسها ما لم تتدخل العوائق السياسيّة أو الاجتماعيّة لمنع الأسواق من العمل بشكل طبيعي، وفي المقابل فإنَّ المنظور البديل الذي تقدّمه هنا يبدأ بالاعتراف بأنَّ جميع المجتمعات يجب أن تتعامل مع مشكلة العنف، ففي معظم البلدان النامية نجد أنَّ الأفراد والتنظيمات يستخدمون أو يهدّدون باستخدام العنف عمليّاً لجمع الثروات والموارد، وأنَّه لا بدَّ من كبح العنف لكي تحدث التنمية. وفي كثير من المجتمعات تكون إمكانيّة العنف كامنة، حيث تمتنع المنظمات عموماً عن العنف في معظم السنوات، ولكنّها فى بعض الأحيان تجد العنف أداة مفيدة لتحقيق غاياتها، وهذه المجتمعات تعيش في ظلّ العنف (أو بالأحرى تحت تهديد العنف)، وهي تمثل معظم التاريخ البشري، كما تمثل معظم سكان العالم اليوم، وفي هذه المجتمعات تحول الترتيبات الاجتماعيّة دون استخدام العنف عبر خلق حوافز لمن يمتلكون القوّة لدفعهم نحو التنسيق فيما بينهم من الاقتتال”.
وفق حجم هذا الاقتتال ونوعه ومصيره والقدرة على إخماده أو إضرام ناره وزيادتها اشتعالاً تنقسم المجتمعات إلى أنظمة مقيّدة وأخرى مفتوحة؛ الأنظمة المقيّدة تنقسم إلى أنظمة هشّة يسودها العنف والتقاتل بين أبنائها ويحكمها النزاع المسلح من ناحية، ثمّ التآمر لأجل الوصول إلى السلطة عبر أيَّة وسيلة من ناحية أخرى، مثل تزوير الانتخابات والاستقواء بعصابات مسلحة، مثلما هو الحال في الكونغو الديموقراطيّة، حيث أجريت انتخابات نزيهة فيها عام 2006م، ثمّ تقلصت الفرص أمام أيَّة نزاهة من هذا النوع في المستقبل.
ثمّة مشكلة أخرى تواجه تلك الدول ذات النظام المقيد الهش الذي يسيطر عليه العنف، حيث المحسوبيّة والهوى اللذان يسيطران على الحاكم، فقد قامت سلطة موبوتو في الكونغو على منظومة معقدة من المحسوبيّة، كان يتطلب الحفاظ عليها بحثاً دائماً عن المتملقين والمنافقين، ومن ثمَّ كان الولاء الشخصي للرئيس وخدمته هما طريق الوصول إلى المال والسلطة. يقول يونغ ويترنر: “ارتبطت النخبة السياسيّة التي ترتبط بالحاكم بروابط الولاء الشخصي، حيث كانت المناصب الحكوميّة بمنزلة مجموعة من الأعطيات الجذابة على نحو ولّد حافزاً كبيراً للولاء الشخصي والخدمات الشخصيّة، وفي المقابل كان للتابع الحق ليس فقط في تولي المنصب، بل أيضاً في استغلاله لمصلحته الشخصيّة. لقد كانت جميع المناصب المهمّة تحت تصرّف الحاكم، وفوق كلّ شيء، فقد كان من الضروري أن يقوم التابع دائماً بالتأكيد على ولائه الشخصي وتقديم الخدمات الشخصيّة للحاكم، وكان مجرّد الشك في فتور الولاء سبباً كافياً للإقصاء الفوري عن المنصب”.
في ظلّ هذه الأوضاع المهلهلة لا يمكن السيطرة أبداً على العنف لأجل إحداث تنمية في دول مثل زامبيا وموزمبيق والكونغو، حيث وجود جماعات مسلحة خارج الإطار القانوني، وفقدان الأجهزة المؤسّساتيّة القانونيّة القدرة على التعامل معها، ممّا يجعل العنف عاملاً هامّاً ذا تأثير بالغ على التنمية الاقتصاديّة، خاصّة إذا لجأت إليه تلك الجماعات (غير القانونيّة) للتأثير على سير الشؤون الوطنيّة، وهو ما يثير القلق المتزايد لدى البنك الدولي، حيث كانت الرسالة الرئيسة المتضمّنة في تقرير التنمية عام 2011م عن الصراع والأمن والتنمية مؤدّاها: “أنَّ تعزيز المؤسّسات الشرعيّة والحوكمة لتوفير الأمن والعدالة وفرص العمل للمواطن هو أمر حاسم في كسر دائرة العنف”.
يبقى التساؤل قائماً، إذن، كيف يمكن مساعدة تلك الدول ذات الأنظمة المقيّدة الهشّة للانتقال إلى أنظمة مقيّدة أساسيّة تنعم بالاستقرار نسبيّاً ممّا يمكنها من إحداث تنمية اقتصاديّة؟
التجربة الواقعيّة تثبت أنَّ مساعدة الحكومات ذات النظام المقيّد الهش في تحقيق قوّة عسكريّة وشرطيّة قويّة ليس حلّاً سحريَّاً لمشكلات التنمية، ففي كثير من الأحيان يسمح هذا الدعم بمزيد من القمع واستخراج الأرباح من المعارضين ممّا يعيق عمليّة التنمية، ولكنَّ الحلّ الذي لا مفرّ منه هو ضرورة سيادة القانون، لأَّنَّ وجود قدر من سيادته يخفض العنف ويقلص فرصه ويعزّز من فرص النموّ الاقتصادي.
وبانتقال تلك الدول إلى النظام المقيّد الأساسي يمكنها تحقيق بعض التقدّم الاقتصادي وإحداث تنمية تمكنها من تحقيق رفاهية مواطنيها إلى حدٍّ ما، مثل بعض الولايات الهنديّة، حيث تشير الدراسة إلى أنَّه في ولاية البنغال الغربيّة، وبعد الهزائم الانتخابيّة لحزب الجبهة اليساري في العامين 2009، 2008م، توجد احتماليّة بداية التحوّل إلى نظام مقيّد أكثر نضجاً، بمعنى أنَّ الفضاء الخاص بإنشاء منظّمات جديدة، وعلى وجه الخصوص المنظّمات السياسيّة، من المحتمل أن يزداد بشكل كبير، لكن للأسف يهدّد هذا النمو المحتمل الارتفاع المفاجئ في وتيرة العنف المسلح الذي يقوده الماويّون، ولذا فقد ارتبط عنصر النضج في ولايتي البنغال الغربيّة وماهارشترا بمزيد من العنف والانقسام السياسي، ممّا يجعل فرص الهند في النمو ضعيفة بسبب إمكانيّة حدوث عنف.
إذن يتحكّم العنف في مصير التنمية، بل وفي شكل الدولة، فالدولة الأقلّ عُرضة للعنف والأكثر تحكّماً في أطراف النزاع يمكنها تحقيق نمو اقتصادي، مثل المكسيك، حيث حققت نهضة كبرى في ظلّ نظام مقيّد شبه ناضج، بل هو أقرب إلى النظام المقيّد الأساسي، إلّا أنَّ العنف ما زال يسيطر عليها بطريقة أو بأخرى، حيث شهد تصاعداً واضحاً في الثمانينات والتسعينات ممثلاً في عمليّات قطع الطريق والسرقة والسطو والاختطاف والقتل، ومن ثمَّ لم يستطع النظام السياسي في البلاد تقديم حلٍّ جذريّ لمشكلة العنف المرتبطة بالحياة اليوميّة للمواطنين الذين يفتقرون إلى حقهم الأساسي في الأمن.
لكن يبقى النظام المقيّد الأساسي أفضل من المقيّد الهش، ويبقى المقيّد الناضج أفضل من الاثنين.
ويمكننا القول إنَّه لا توجد بالأنظمة المقيّدة انتكاسات كبرى، بل يمكنها النمو بشكل معقول، وحتى دون تحقيق الانتقال إلى النظام المفتوح، يمكنهم النمو بالسير في أعقاب الأنظمة المفتوحة، كما هو الحال بالنسبة إلى المكسيك والهند وزامبيا والبرازيل والصين وأندونيسيا وماليزيا وفيتنام وجنوب إفريقيا، شريطة الاستقرار السياسي لتحقيق تنمية مستدامة، فالفلبين على سبيل المثال مرَّت بمنعطفين خطيرين منذ الاستقلال عام 1972م واستعادة الحكم الديموقراطي عام 1986م؛ حيث لم تستقر البلاد سياسيّاً، لأنَّه يتمّ تسييس الجيش وتنعدم الثقة في القضاء، وهذا كله ممّا يهدّد مستقبل التنمية في البلاد.
ثمَّة ظاهرة تحكم شكل الدول، يمكن تسميتها بالجدل الصاعد والنازل، حيث تتقدّم بعض الدول بعد تراجع دام سنين، أو تتراجع بعض الدول بعد تقدّم واضح أحرزته، فتنتقل بعض الدول من الأنظمة المقيّدة الناضجة إلى المقيّدة الأساسيّة مثل تشيلي في السبعينيات، وبنغلاديش في 2007ـ2009م وفنزويلا في عهد شافيز، أو روسيا في عهد بوتين، لكنَّ الأزمات والاضطرابات في جمهوريّة الكونغو الديموقراطيّة منذ تراجع موبوتو وموزامبيق في الثمانينات نقلت هذه المجتمعات من الأنظمة الأساسيّة إلى الأنظمة الهشّة للنظام المقيّد.
لكن يبقى النظام الناضج هو أفضل الأنظمة المقيّدة، ومن أمثلة الدول المنتمية إليه معظم دول أمريكا اللاتينيّة والصين وجنوب إفريقيا والهند، حيث ترتكز تلك الدول على هياكل مؤسّساتيّة دائمة تتوافر لها صفة الشرعيّة التي تنبع من الحكومة، كما يمكنها أن تدعم مجموعة كبيرة من منظمات النخبة التي توجد بمعزل عن الحكومة، لذا توجد لدى الأنظمة المقيّدة هيئة القانون العام التي تقرّر المناصب والوظائف الحكوميّة، والعلاقة بين المناصب والوظائف، إضافة إلى قدرتها على حلّ النزاعات داخل الحكومة وخارجها واحترام مؤسّساتها لسيادة القانون.
أمّا النظام المفتوح، فهو الأنضج من بين هذه الأنظمة، وهو الأكثر ديموقراطيّة، حيث يعزّز مشاركة الجماعات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي يمكنها تنظيم وإعادة تنظيم أنفسها بإرادتها للدفاع عن مصالحها استجابة لسياسات الحكومة، وفي ظلّ وجود المؤسّسات الدستوريّة المناسبة تساعد المنظّمات الخاصّة القويّة على ضبط استخدام الحكومة لقوّة الجيش والشرطة، بحيث يكونان أداة لخدمة الدولة والانصياع التام للسياسة العامّة للدولة، هذا على المستوى المؤسّساتي، أمّا على المستوى الجماهيري، فيكون الانفتاح مستداماً فى المجتمعات المختلفة اقتصادياً وسياسياً ودينياً وتعليمياً، فالكلّ يفتح على الكلّ بدون معياريّة أو تمييز أو شخصانيّة، كلّ ذلك في إطار القانون وتحت رعايته وسلطته الفوقيّة على الجميع بلا استثناء.
This post is also available in: English (الإنجليزية)